لا يشكّ اثنان في كون مستقبل البلاد مرتبط قبل كل شيء بالتعليم والبحث العلمي. فلا تطوّر اجتماعيّ ولا نموّ اقتصادي ممكنان دون تعليم عصريّ يتّسم بالجودة، ومدرسة عموميّة تسمح للجميع بالخروج من وضعيّة الأمّية وتساعد على الارتقاء الاجتماعي، وتمكّن من التحرّر الفكري… لذلك يتعيّن على الجميع التفكير جدّيّا في واقع التعليم والبحث العلمي في تونس، والبحث في كيفيّة تطويره انطلاقا من تقييم تجاربنا الرّاهنة واستئناسا بالتجارب النّاجحة من حول العالم ( فنلندة، سنغفورة، كوريا الجنوبيّة، ألمانيا… )
كلنا يعرف أنّ بلادنا عرفت العديد من التجارب، أهمّها مشاريع محمودالمسعدي ، واحمد بن صالح ، ومحمد الشرفي التي مثلت إصلاحات تربويّة متفاوتة مرتهنة جلها لتوجيهات برامج فرنسا الاستعمارية ، بهدف إبهار عقل الناشئة التونسية بعبقرية فرنسا دون غيرها من الامم . أمّا في السنوات العشر الأخيرة، فالبعض من هذه التجارب لم يعمر سوى بضعة اشهر. وظلت هذه المحاولات مرتبطة بشخص الوزير المرتهن بتوجيهات حزبه ، ويضاف الى ذلك فقدانه للتجربة و الكفاءة، ووجوده على رأس الوزارة كان مجرّد صدفة ومحاصصة سياسيّة. لذلك كان المرور من تجربة إلى أخرى في أغلب الأحيان مرتبط بالشخص الذي يتولّى الوزارة، وبنزواته وميولاته دون تقييم وتواصل مع ما سبق، ودون إعطاء تصوّرات جديدة تأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات السياسيّة والديموغرافيّة والاجتماعيّة.
هكذا يبدو أنّ المرض الأوّل الذي أصبح ينخر المدرسة العموميّة هو هذا الاضطراب المتواصل المرتبط بتغيير المشرفين على هذا القطاع الحسّاس الذي يهمّ كل أفراد الشعب، كل الفئات وكل الجهات على حدّ سواء. فالإصلاح الحقيقي والفعلي هو الذي يهمّ جيلا كاملا، وإنجاحه يتطلّب المدى الطويل ( ما لا يقلّ عن عشر سنوات )، لكي تتمكّن الناشئة من جني ثمار هذا الإصلاح، ويتمكّن المختصّون والممارسون للفعل التعليمي من تقييم مجهوداتهم وإصلاح الأخطاء المسجّلة وتثمين النجاحات المحقّقة.
اليوم أصبح من الملحّ والضروري تجاوز وضعيّة ” مخابر الفئران ” هذه ، والتأكيد على إصلاح التعليم العمومي بصفة جذريّة وعميقة فيما يخصّ المحتوى وفي ما يخصّ الامتداد الزمني. ومن أوكد المهام لتحقيق ذلك، العمل على تجديد البرامج، حسب الواقع المحلّي واستئناسا بالتجارب العالميّة الناجحة. سنترك هذه المسائل البيداغوجيّة وتوزيعها والزمن المدرسي لأهل الاختصاص، وسنركّز عل الأمراض الهيكليّة المرتبطة بالسياسات العامّة. هذه العوائق الهيكليّة تتمثّل أساسا في:
- الفصل الطبقي ، بين الفئات الاجتماعيّة والأحياء والمدن والجهات: أحببنا أم كرهنا، لا بدّ أن نقرّ أنّ التعليم أصبح طبقيّا رغم أنوفنا، فالعائلات الميسورة بإمكانها أن توفّر كسبا معرفيّا لأبنائها أفضل بكثير ممّا يمكن لأبناء العائلات الأقلّ حضّا. كما أنّ الفوارق بين مدارس الأحياء الرّاقية والأحياء الفقيرة، وبين الجهات الأكثر نموّا والجهات الأفقر تجعلنا نتحدّث عن تعليم ذو سرعتيْن.
- تقليص الفوارق: يمرّ عبر منع دروس التدارك، وتطوير المدرسة العموميّة وتقليص عدد التلاميذ في الفصل الواحد.
- حشو الأدمغة، يمثل عائقا كبيرا في تطوير التعليم، لذلك يجب العمل على تقليص عدد المواد المدرّسة، تقليص ساعات التدريس، وإعادة هيكلة الزمن المدرسي.
- تعليم طويل زمنيّا: لكي يكون تتويج التعليم في سن الثامنة عشر، يُنصح بأن تكون الباكالوريا في السنة الثالثة ثانوي لا في السنة الرابعة.
- غياب التكوين المهني: من أوكد الإصلاحات الضروريّة اليوم هو القطع مع الارتقاء الآلي لكلّ التلاميذ وتحديد معدّلات صارمة للارتقاء من درجة إلى أخرى وفتح مسالك تكوين مهني متنوّعة في مستوى السنة التاسعة أساسي، هذه المسالك يمكن أن تختم بديبلوم تخصّص بعد ثلاث سنوات تكوين أو بشهادة الباكالوريا التقنية، التي تفتح تكوينا مهنيّا جامعيّا على غرار التجربة الألمانيّة
- مرض الشهادة: الشهادة ليست مهنة، هيّ مجرّد محدّد لمستوى علمي معيّن ولا تعني كفاءة مهنيّة ( مهما كان الاختصاص ) ولا حقّا في التشغيل، لذلك أصبح من الضروري مراجعة كل مسالك التعليم حسب مؤهلات كل طالب علم.
هذه بعض الملاحظات والمقترحات حول أهمّ شاغل يهمّ التونسي مهما كان موقعه ومستواه، نرمي من ورائها إلى إعادة توجيه البوصلة نحو ما هو أفضل بالنسبة إلى الفرد و إلى المجتمع، انطلاقا من كون التعليم لا يجب أن يبقى مجرّد حشو للأدمغة وإسناد أعداد وشهادات، بل يتعيّن أن تكون رسالته: تكوين إنسان المستقبل بعقله وبمشاعره وبمهاراته، حيث يكون لكلّ موقعه، ولا يتنافس الجميع من أجل موقع واحد، وحيث تفسح الرداءة المجال للكفاءة والأحقّية.
بقلم : د . ابراهيم جدلة ، استاذ التاريخ بجامعة منوبة ــ تونس .