قصر قرطاج الرئاسي … تمائم وعزائم وبخور …!!!

بقلم : د . الهادي غابري

رئيس التحرير

أسّس الحزب الحرّ الدستوري التونسي الشيخ عبد العزيز الثعالبي(1874 ــ 1944) وزملائه ، وينحدر الشّيخ من أصول جزائرية ، ثقافته عربية دينية واسعة ،  نهلها من لوامع شيوخ جامع الزيتونة المعمور بتونس ، الحزب الحرّ الدستوري ، هو أوّل حزب وطني يتأسّس بالبلاد التونسية في شهر مارس 1920 ،وأصبح يُعرف بعد سنة 1934 بالحزب الدستوري القديم،مقابل الحزب الدستوري الجديد الذي أسّسه الحبيب بورقيبة وعدد من زملائه في 2 مارس من تلك السنة ، وكان قد انضمّ الحبيب بورقيبة الى الحزب الحرّ الدستوري  سنة 1933 ، واستقال منه في نفس السنة ليؤسّس في 2 مارس 1934 بقصر هلال الحزب الحرّ الدستوري الجديد  رفقة زملائه .

 كانت فرنسا تشجّع نشوء الأحزاب الموالية لها وتَدْعَمُها ، ولذلك بادر عدد من الطلبة العرب المرسّمين بجامعاتها ، أو العائدين من فرنسا إلى أوطانهم ــ وهم المتشبّعون بثقافة فرنسية واسعة ــ بتأسيس أحزاب ، ومنهم المسيحي الأرتودكسي السّوري ميشال عفلق (1910ــ1989 ) مؤسّس حزب البعث العربي الاشتراكي ، درس الفلسفة  بجامعات فرنسا ، تأثّر بنظريات غلاة الفلاسفة والمفكّرين والقادة المتطرّفين بألمانيا وإيطاليا المبشّرين بنشوء الدّول على أسس  القوميات العرقية الخالصة  ، وكذلك تأثّر الحبيب بورقيبة بتلك الأفكار حين درس الحقوق بفرنسا ،  دعا إلى نشوء أمّة تونسية ذات خصوصية ، معزولة عن جذورها العربية الإسلامية ، تشجيع فرنسا لنشوء تلك الأحزاب في مستعمراتها ، لم يكن بريئا ، بل مدروسا .

 رَعَتْ المخابرات الفرنسية تلك الأحزاب وقادتها ، تأطيرا وتوجيها سياسيا من خلال  تطعيم واختراق تلك الأحزاب بعناصر سرّية ـ قد تكون في هرم قيادة الحزب ــ  قادرة على شلّ كلّ نشاط حزبي منظّم من شأنه إلحاق الضّرر بمصالح فرنسا الاستعمارية ، ولذلك كان بعضها  أحزابا مشوّهة ، نشأت  في صُلب رحم الاستعمار الفرنسي ،  زعمت بعض الأحزاب ــ لقيطة فرنسا ــ أنّها أنجزت  الاستقلال الوطني  بدحرها الاستعمار الفرنسي إلى الأبد ، ولكن مجريات الأحداث السياسية  بمستعمرات فرنسا  كشفت خيبة الاستقلال المزعوم ، إثر نشوء  المعارضات السياسية في تلك البلدان المطالبة برحيل رموز الاستقلال وأحزابهم بحجّة أنّهم وكلاء الاستعمار الفرنسي بعد رحيله صوريا ، وكانت فرنسا قد أعدّت أولئك القادة وأحزابهم  سلفا للنّهوض بهمّة الوكيل الخسيس .

اعتلى سدّة الحكم أول رئيس تونسي الراحل الحبيب بورقيبة (1903 ــ 2000) ، ومكث على كرسيّ الرئاسة من سنة 1957 إلى سنة 1987 بصفته رئيسا مدى الحياة ، مثلما أقرّه مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم بتاريخ 27 ديسمبر 1974 ، بعد  تعديل الدستور و إسناد  رئاسة تونس لبورقيبة  مدى الحياة ،  هذا القرار نقيض لتاريخ 25 جويلية  1957 ، القاضي بإلغاء المَلكيّة ،وإعلان الجمهورية التونسية ، بَعْد خَلْع الملك الأمين باي(1881 ــ 1962) ، قد تولّى العرش الحسيني ما بين 15 ماي 1943 و25 جويلية 1957 ،  تاريخ اعلان الجمهورية التونسية  ، وتمّ اختيار الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية ، وأطلق على نفسه صفة المجاهد الأكبر، متفرّدا بالجهاد دوم غيره ، أي أنه الوحيد الفرد الذي جاهد فنالت تونس استقلالها.

درس  الحبيب بورقيبة الحقوق بجامعة الصوربون بباريس ، وهناك تزوّج من فرنسية ، وهي ماتيلدا لوران Mathilde Clémence Lorain (1890ــ 1976 ) أرملة  عسكري فرنسي برتبة ضابط  ، وهي رتبة عسكرية سامية ، و اسمه Le Fras ، قد رحل  خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1918، تعرّف بورقيبة على ماتيلدا من خلال رسالة زوّده بها معلّمه الفرنسي في الابتدائي ، ضمّنها توصياته لماتيلدا بأن ترعى ، وتساعد الطالب الحبيب بورقيبة حديث الحلول بباريس ، المعلّم لم تنقطع صلته بتلميذه بورقيبة ، بل هو على اتصال ومتابعة له ، ما يشي بأن للمعلم الفرنسي أنف قادر على شمّ مستقبل بورقيبة السياسي ، إن لم يكن معلّم بورقيبة نفسه عنصرا  عسكريا مدرّبا على استطلاع الشّخصية ، وقد لمس في بورقيبة ذكاء وفطنة ، فسارع باحتوائه ، وأرسله إلى ماتيلدا بالذات …، أمر يثير الشكوك … سرّ غامض يتعلّق بموافقة المخابرات العسكرية  الفرنسية على هذا الزّواج وتشجيعه ، إذ هو زواج استخبارتي سياسي مبطّن ،  بعد أن تفطّنت  فرنسا إلى مواهب الحبيب بورقيبة وذكائه ، ثم  ولائه لها ، وقدرته  في المستقبل على خدمة مصالحها ، ومن المؤكّد أنّ فرنسا قد خبرت غيره من الطلبة التونسيين ليكون بعضهم وكيلها المستقبلي  في تونس ، ولكنها فضّلت الحبيب بورقيبة زوج الأرملة ماتيلدا المطّلعة على بعض أسرار الجيش الفرنسي حين كانت زوجة الضّابط  السّامي الفرنسي الرّاحل  ، وهو ما يرجّح أنه زواج سياسي مَصْلحيّ ، رعتْه ووجّهته المخابرات العسكرية الفرنسية .

زوج ماتيلدا الثاني تفوقه باثنتَيْ عشرة سنة : طالب حقوق تونسي وهو الحبيب بورقيبة ، وطنه تونس تحت الحماية الفرنسية منذ سنة 1881 ، وفي الحقيقة هي  مسْتَعْمَرة فرنسية بامتياز ، وكانت المخابرات الفرنسية تَدْرُس بدقّة متناهية  ملفّات الطّلبة التونسيين لقبولهم بجامعاتها ، ثمّ تُسندُ  لهم منحا جامعية مالية علنيّة ، وغرفا للسّكن ، ولكن هناك  مكافآت مالية سرّية تُسْنَدُ  ، لمَنْ يقدّم للمخابرات الفرنسية  خدمات من شأنها شلّ نشاط المناوئين لفرنسا على ترابها ، أو على تراب مستعمراتها الواسعة .

 طلبة وطنيون ــ من  شمال إفريقيا  بفرنسا ــ تفطّنوا لدسائس المخابرات الفرنسية الاستعمارية  ، وهي تستقطب بعض سَفَلة الطلبة ليكونوا عيونا ضدّ أوطانهم المُسْتعْمَرَة ، ،  قاوم الوطنيون أولئك الطّلبة  العملاء  بشجاعة نادرة على تراب فرنسا ، واستهدفوهم بالعنف  ، وشهّروا بهم ، ودعَوْا إلى مقاطعتهم ونبْذهم  ، وأساسا : منهم  طلبة  متزوّجون من فرنسيات ،أعلنوا افتخارهم  بولائهم لفرنسا أكثر من ولائهم لأوطانهم الأصلية ، أغدقت عليهم المخابرات الفرنسية مكافآت مختلفة ، مكّنتهم من مناصب عليا في أوطانهم بعد رحيلها المزعوم.

 بعد الاستقلال عام 1956 حصلت ماتيلدا على الجنسية التونسية واعتنقت الدين الإسلامي بتاريخ 25 أكتوبر 1958  ، وأصبح اسمها مفيدة بورقيبة ،  خلّفت ابنا و حيدا ، وهو بورقيبة الابن (1927 ــ 2009) ،  دام زواج بورقيبة  من الفرنسية ماتيلدا  من سنة (1927 إلى سنة 1961) ، لم تكن راغبة في الطلاق ، وهي القائلة أنا مسلمة ، وبعد الانفصال  ظل حبل الودّ ساريا بينهما ، ، بل كان بورقيبة يزورها ، وهي في سن الشيخوخة الحرج .

 تزوّج بورقيبة من  تونسية ، وهي  وسيلة  بنت عمار ،  بعد طلاقها  من زوجها الأوّل الثّريّ ، علي الشاذلي أصيل مدينة الكاف  ، ومنه خلّفت  بنتا وحيدة ، واسمها نبيلة ،  تنحدر وسيلة  من عائلة ثريّة أصيلة مدينة الكاف الفلاحيّة الكائنة بالشّمال الغربي  ، استقرّت  العائلة بالمرسى، ضاحية تونس الشّمالية ، وضاحية المرسى مكان جميل : مركز السّلطة السياسية ،و مقرّ إقامة  بايات تونس ، يقطن المرسى  وُجهاء وأثرياء القوم ، وكذالك الأجانب والسفراء والقناصل ، هي مكان  راق مُنْتج للقرار السياسي ، زواج بورقيبة من وسيلة زواج مصلحي استخباراتي ، إذ كانت في بعض مراحل حياتها متعاونة مع الاستعمار الفرنسي ، وفي مراحل أخرى ، هي مناضلة قيادية في صفوف النساء بمدينة باجة حيث اعتقلتها سلطات الاستعمار الفرنسية .  

هدف بورقيبة من ذلك الزواج تجميع أثرياء المرسى حوله ، بفضل روابط عائلية ارستقراطية تتميّز بها عائلة وسيلة ، والحال أن بورقيبة ينحدر من أصل ألباني ــ أوروبي ــ قد وَفَدَ أسلافه ضمن الجيوش التركية والهجرات البشرية  من ألبانيا ، التّابعة إلى سلطة الخلافة العثمانية ، إلى مدينة مصراطة الليبية ، وبها مارسوا مهنة التجارة ، غير أن الحاكم التركي الجائرــ هناك ــ دفعهم إلى المغادرة والاستــقرار بمدينة المنستيــر لممارسة التجارة ، سكن أهله  حيّ الطرابلسية  ، و فيه  وُلد في أسرة وفيرة العدد ، ظلّ إحساس الفقر يلاحقه ، وإحساس  ضَعَة الأصل ينهشه ، ولذلك كان يلجأ إلى سلطة سياسية أو مالية تشدّ أزره ، وتحميه ، وجد في ماتيلدا  الفرنسية سلطة سياسية جبّارة قَهْرية ، ووجد في وسيلة سلطة مالية ، وسطوة عائلية متمدّنة ذات وجاهة ، كسب بورقيبة ، واستفاد من المرأتيْن  سلطة سياسية مطلقة .

 دام الزواج  بين وسيلة وبورقيبة من (سنة 1962 إلى سنة 1986) و قد حازت لقب الماجدة سيّدة تونس الأولى ، تمّ الطّلاق بينهما بتاريخ 11 أوت  سنة 1986، وسُحب منها لقب الماجدة ،  لم يخلّف منها أبناء ، بل تبنّيا الطّفلة هاجر ولدت سنة 1959، وأسندا لها لقب  بورقيبة ، وفي الواقع هي بنت أحد إخوة وسيلة .

عرف عهد بورقيبة هزّات سياسية عنيفة ، محاولة انقلاب ، وحركات احتجاجية اجتماعية متواترة ، تلتها محاكمات قضائية  صورية جائرة ،  لم تهدأ المعارضة  التونسية السّرّية الجادّة  بالداخل ، أو بالمهجر من توجيه النّقد اللاذع لسلطة الفرد ، كاشفة انتفاع الحاشية المقرّبة من الرئيس الهَرم ، الذي كان يمضي في إغماءات طويلة تحت سلطة الحبوب منذ سنة 1968 حسب تقارير الطبيب السويسري المباشر له ، والذي أفاد بأن مريضه مصاب بالجنون والخرف .

   أمسك بورقيبة بالسّلطة المطلقة  من خلال سنّ قوانين زجرية تمنع الحريات والمعارضة ، وأرسى جهازا  بوليسيا قمعيا متوحّشا ، ورث سلطة البطش والاقتحام والتعذيب من  عتاة ضباط فرنسا ، الذين  أشرفوا على تدريب بعض عناصر البوليس  التونسي  بمدارس الأمن الفرنسية ،  هناك مُسحتْ أدمغة البوليس التونسي المُتدرّب  ، وتعلّم فنّ الولاء التّام لشخص الرئيس بورقيبة ، عوض الولاء للوطن ، وشُحن كراهية وعدوانية ضد  كلّ نفس  عقلاني تحرّري،  يحلم بمعارضة بورقيبة ، قوّة  بوليسية غريبة ، عناصرها متنوّعة ومتعدّدة ،  تفنّنت المخابرات الفرنسية في تدريبها  ، ومدّها بالعتاد  ضدّ أحرار تونس  ، هي قوّة سرّية كابوسية ، تتقن فنون التجسّس على الحالمين ، وهم  يغطّون في نوم عميق ، أو هم في بيوت الأدب يتغوّطون  .

تواصلت الوصاية الفرنسية على تونس بعد سنوات الاستقلال ، وظلت المصالح الفرنسية محفوظة من خلال تمكين أبناء المتعاونين مع فرنسا إبان الاستعمار صحبة  النّخب الفرنكفونية  Prancphonieللمسك بمراكز القرار في الدولة ، وبذلك يسهل على فرنسا  التّدخل في الشؤون الداخلية  : تُوجّه  الاقتصاد والسياسة ، وهي  أوّل شريك اقتصادي لتونس ، وهكذا إجراء همّش المقاومين وأبناءهم ، وخصى كلّ نفس وطني يرفض وصايتها ، تمادت فرنسا  في نهب الثروات  : بترول ، فسفاط ، ملح …  قموح … تمور … زيت الزيتون … ، وألحقت نوابغ الأدمغة التونسية  بها مستفيدة من منجزاتها… نَهْب متعدّد … طال أرضَ ، وبحرَ، وبشرَ، وسماءَ تونس ، بل  خرقت فرنسا ـ بعد رحيلها المزعوم ــ أصالة الثقافة العربية الاسلامية التونسية ، وأعادت تشكيلها من جديد ، كي تضمن تبعية التونسيين  لها  من خلال تقليدهم  سلوك الفرنسيين، هادفة سلب العقول بالبلاد من كلّ هو أصيل ، وتعويضه بما هو هجين ، وهكذا نشأت في تونس أجيال ، لا هي غربية السلوك والثقافة ، ولا هي شرقية السلوك والثقافة ، بل هي أجيال مشوّهة السلوك والثقافة والنّطق والتعبير ، أجيال مشلولة الإرادة ، تحلم بالإبحار غربا خلسة في قوارب الموت للحصول على لجوء وشغل ، وهكذا تستفيد فرنسا من فراغ تونس من الشباب حتى لا يُعارَض وكيلها ، وفي الوقت نفسه تستفيد هي من الشباب ، وتساوم به ،  وتتاجر به وفق مصالحها    .

 أثارت فرنسا الأحقاد والنّعرات الجهوية ، ولذلك الغرض اسّست لأتباعها ــ سرّاــ  حزبا يُعرف بــ«حزب فرنسا »، وكان قادته أولئك الممنوحين شهائد من مدارس و جامعات فرنسية معيّنة متواضعة ، مشبوهة البرامج والمناهج ، أعضاء التدريس  فيها  مدنيون فرنسيون ، متطرّفون عنصريون ، أغلبهم  قد تلقّى تدريبا عسكريا استخباراتيا ، مكّنه  من كسب  خبرة  ، ودراية واسعة بنفسية وطبيعة  الطلبة التونسيين الاجتماعية ، وكذلك الحال بالنسبة لطلبة المستعمرات الفرنسية .

 أساتذة مدنيون برتب عسكرية ضالعون في دراسة  الشّخصية ، لهم سلطة تأثير على منظوريهم الطّلبة ، كانوا يستثنون ويَحْذرون ذوي الفطنة منهم ، وفي الآن نفسه   يستقطبون  البعض  الآخر من جهات معيّنة بتونس تتوفّر فيهم  صفات : البلاهة ، أو السّذاجة ، أو العَتَه ، أو الغباء ، أو التّكبّر ، أو الاحساس الدّائم  بالاحتقار والدّونية ، أو الجهل المركّب ، أو الانحراف …، قيادة أولئك الطّلبة المعقّدين نفسيا أو جسديا  سلسة ، والتّأثير فيهم سَهْل ، ويُمكن توجيههم حسب مصلحة فرنسا ، و لكسب ثقتها حصل بعضهم  على فرص شغل مغرية خاصّة ، و اقامات استثنائية ، متبوعة بسفرات ، وسهرات في الملاهي والخمّارات مدفوعة الأجر… وبعض من الدُّريْهمات لقضاء الشّؤون ، مصادرها الخزينة السّوداء للمخابرات الفرنسية الخاصّة بطلاب شمال افريقيا .

 غنم بعضهم شهائد ملغومة ، فاقدة للقيمة العلمية ، ولكنّها حصلت على المعادلة بوزارة التعليم العالي التونسية ــ خلال ثمانينيات القرن العشرين المنصرم ــ  أحد وزراء تونس ــ وهو خرّيج جامعات فرنسا ــ احتجّ على تلك المعادلات باعتبار تلك الشهائد  صادرة من جامعات غير معترف بها ، إضافة أنّها جامعات ذات طابع أيديولوجي سياسي  ، ورغم ذلك كان صوته صيْحة في واد عميق ، دون جدوى لأن « حزب فرنسا » بتونس كان أعتى .

واصلت الجامعات الفرنسية المشبوهة ــ خلال حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي  ــ ضخّ قسم المعادلات بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي بوابل من الشهائد مختلفة الدرجات والاختصاصات ، قد تَوَّجَ بها طلبة تونسيون تحصيلهم العلمي ، لم يكن قسم المعادلات مطواعا وخارقا للقانون ــ في بعض مراحله ــ لكن تسرّبت سلطة السّياسي ، فأذنت بمعادلة شهائد معطوبة الأصل ، وبها تمكّن صاحبها من الفوز بمنصب وظيفي دون موجب حق ، في حين يُحرم آخرون أكفّاء ، الفائزون بمعادلات علمية  منتهكة للقانون ، هم أفراد مجنّدون لملاحقة المعارضة التونسية على التراب الفرنسي والأوروبي ، كان بعضهم عونا مزدوجا يزوّد البلد المُضيف بالأخبار، ويمدّ سفارات تونس بالتّقارير ، حماية لنظام المخلوع ، ومكافأة لهؤلاء الموهوبين في الرّصد التونسي والأوروبي ، صدرت توصيات في شأنهم : الحصول على المعادلة ، ثمّ الانتصاب في هرم الوظيفة بتونس ، يمارسون مهنة لكْع الخلق ، ولَسْع الأبرياء في الخفاء ، هدفهم الولاء التام لنظام المخلوع وحمايته إلى الأبد .  

  هم أساتذة فرنسيون  مشحونون حقدا على أحرار المستعمرات الفرنسية ،  خلقوا شريحة مريضة من بعض الطلبة التونسيين ، ودفعوا بهم في مناصب قيادية صلب الدولة التونسية النّاشئة ، وكان أغلب التونسيين أمّيين جهلة  ، تعضّهم أنياب الفقر المُدقع  ، ويرتع المرض في أجسادهم ونفوسهم ، الشّريحة الطّلابيّة المريضة المُعَقَّدة قائدة وفاعلة في الإدارة التونسية ،  روّجت لها فرنسا بأنّها الأفضل على الإطلاق ، وتبيّن بعد لَأْي بأنّ الأفضلية لم تكن على مبدا الكفاءة ، بل كانت على مبدا الولاء إلى فرنسا .

  وهذا المسلك   يضمن ــ بيُسر ــ الانتقال من استعمار تقليدي إلى استعمار حديث ، تنهض به النّخبة السياسية  التونسية المثقّفة ، ــ إن كانت لها ثقافة ــ وهي التّابعة لها المدافعة عنها ، وبذلك تكون كل مصالح فرنسا مبجّلة محفوظة محمية ، و ينتعش  اقتصادها دائما من خزينة تونس ، وتلك النّخب  الفئوية اللّقيطة فكريا ، صنيعة فرنسا كتبت تاريخ تونس  بشكل انتقائي ــ تحت رعاية فرنسا ومراقبتها ــ وفرضت ذلك التّاريخ الممسوخ في برامج التدريس التونسية ، تحشو به أدمغة الصّغار والكبار ،  وروّجته في وسائل الإعلام والتثقيف  لإعادة تكوين العقل في تونس وتشكيله ، وهي كتابة تاريخية تشوّه تاريخ تونس في الماضي والحاضر ، ناكرة لكلّ ما هو جميل وحضاري في تونس ،  هي كتابة مُتَفرْنسَة ،  من خلال تسمية مرحلة احتلال فرنسا لتونس بالحماية ، مع إغفال  متعمّد وطمس لاستنزاف خيرات تونس الطبيعية المتواصلة إلى اليوم  ، مضافا إليها امتهان كرامة الشعب التونسي وقمعه بتجريده  من حقوقه في الحرية .

 لم يجرؤ رئيس تونسي ــ إلى يومنا هذا ــ على مطالبة فرنسا بالاعتذار على جرائمها ، و طلب التعويض المادي والمعنوي  لفائدة الشعب التونسي ، وهو يدلّ أن يد فرنسا الملوّثة بدماء التونسيين مازالت سارية وفاعلة في مفاصل الدولة ، ولكن أصوات الأحرار ودماء الشّهداء  بتونس لن تسمح لجرائم فرنسا الاستعمارية بأن تسقط بالتّقادم   .

 كتابة تاريخية ــ بعد الاستقلال ــ ممنهجة تتّسق مع العلاقات الحميمية  القائمة بين بلد  مغلوب كسير : تونس  ، وبلد غالب مزهوّ: فرنسا ، تلك الكتابة التاريخية تجاهلت ـ بوضوح ــ  جرائم  فرنسا بتونس : قبضة حديدية قاهرة أطبقت على رقاب  الشباب، وجنّدت خيرته بدنيّا ليخوض في مقدّمة الجيش الفرنسي حروبا خارج التراب التونسي : الحربان العالميتان  ، جيش فرنسا في مواجهة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية ،  والحرب في الهند الصينية ضد الشعب الفيتنامي ، تلك الحروب خلّفت آلاف القتلى والأسرى من التونسيين ، فضلا عن أعداد المعطوبين الأحياء ، وقد فَقَدُوا أجزاء من أبدانهم ، أو أصابهم الجنون ، لهول ما تحمّلوا من أجل حماية أعتى الإمبراطوريات الاستعمارية في التاريخ ، وهي جرائم  في حقّ الضّحايا التونسيين ، لا تسقط بالتّقادم ، أو الانكار، ولن تهدأ أصوات الأحرار في مطالبتها برحيل «حزب فرنسا»  المتلوّن  ،المقيم في المفاصل الدقيقة للدولة ناعما هادئا .

لم يندحر «حزب فرنسا » بَعدُ : البلد تونس غابة من الذّئاب ،  قد هرم الأسد الرئيس ، المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة  ، خارت قواه العقلية والبدنية  ، عوت الذّئاب من كلّ فجّ ، فتحت  السّجون أشداقها الرّهيبة ، تبلع الوافدين  بجرم أو بشبهة ،  الحاشية بالقصر تغنم ما طاب ولذّ ، وجدت سلطة النّساء فضاء القصر الرئاسي  واسعا ، تمكّنت زوجة الرئيس الهرم وسيلة من التأثير في السياسة الداخلية والخارجية من خلال تعيين الوزراء والديبلوماسيين ، والولاة والمعتمدين ، ورجال الأمن وغيرهم ، إجراء لم يستسغه الطّامعون  في المناصب ،  عندها نشب الخلاف ، ونشطت الدّسائس والمكائد ، ثمّ الاستنجاد بعالم الغيْب ، واستدعاء كبار المُنجّمين والعَرّافين من تونس والمغرب الأقصى  للقصر الرئاسي بقرطاج لقراءة الطّالع ، أو لتعطيل طموحات هذا أو ذاك السياسية ، أو الكشف عن نوايا الخصم السياسي ، نشط سوق التّمائم والعزائم لإحضار أصناف الجنّ ،  واحترق البخور في  مباخر بين  أجنحة القصر بقرطاج ،  تعاضده أذكار وأصوات  غامضة ،  هي مؤثّرات روحية .

  غذّى هذا المجال الغيبي  كلّ من زوجة الرئيس وسيلة  ، و ابنة اخته سعيدة ساسي (1921 ــ 2007) التي وفدت الى القصر خلال الثمانينات من القرن العشرين المنصرم  لرعاية خالها ، احتد الصراع على النفوذ داخل القصر بين المرأتيْن ، قدرت سعيدة على إبعاد وسيلة ،  و استأثرت بالنّفوذ السياسي ، وكادت أن تكون حاكمة قرطاج الحقيقية .

تمائم وعزائم لوّنت  السياسة بقصر قرطاج الرئاسي ،وعصفت  بشؤونه وبساكنيه إلى عالم الغيب ، وكان في مقدّمة  ذلك الرئيس بورقيبة نفسه الغائب عن الوعي  ، طُمست معالم الحداثة الفرنسية ، ورمزها بورقيبة  ساكن القصر الرئاسي بقرطاج ، طمع متلهّفون بإرث  كرسي العجوز الهرم الرئيس الحبيب بورقيبة .

 وفي غفلة من الزّمن ، وفي  غفْوة من المهرولين للفوز بذلك الكرسي الرئاسي الشاغر ، نطّ عسكري نَكرة ، وهو زين العابدين بن علي (1936 ــ 2019) على كرسيّ السّلطة الهزّاز ، واعتلاه ، إثر انقلاب أبيض قاده  بمساعدة الأطباء من خلال شهائد  طبية  تثبت عجز الرئيس الحبيب بورقيبة التام ، والدائم عن القيام بواجباته المهنية ، وكان بيان السّابع من نوفمبر 1987 توضيحا لصحة الرئيس العاجز ، وإعلانا عن عهد جديد ، يُلغي الرئاسة مدى الحياة ،  وطريقا إلى الديمقراطية ، صفّق فورا وطوعا ،و تأييدا : الحزبيون الدّستوريون لقائد القطيع الجديد زين العابدين بن علي .

الحزبيون الدستوريون الانقلابيون ، المؤيّدون الانتهازيون ، المصفّقون المهلّلون للقائم الواقف  ، هم  قطيع بورقيبة ، وهم أنفسهم الذين كانوا يهتفون بالروح .. بالدّم نفديك يا بورقيبة …، وقد  تشرّف وافتخر بعضهم  في عهد بورقيبة بحيازته هويّة وطنيّة ، و بها نَصُّ المهنة : مُصَفّق ، والمُصفّقُ  في تونس يَمنَحُه الحزب الحاكم  خُفَّيْ جلد عنز، أو خروف رقيق يدسّ فيه كفّيه ، كي لا تنفلق جلدة الكفّيْن من شدّة الضّرب والخبْط ،  ينطلق المُصفّق  ــ في هيستيريا  ــ  خابطا ،كفّ بكفّ ، صائحا فاتحا شدقيْه على وسعيْهما ، يتطاير رذاذ  تُفاله ، يتصبّب عرقا ، تجْحظ عيناه ، ويُغمى عليه ، ويقع أرضا ، وعندها  يُطلق عليه مناضل حزبي يتقاضى بموجبه بعض  دنانير هزيلة ، ومساعدة تسمّى القُفّة ،  مَحْشُوّة ببعض من عجين المقرونة ، أو الكسكسي ، أو الشّوربة ، أو المحمصة ، أو دقيق شعير ، وقمح ، وذرّة ، قد دبّت فيها لقدمها : حشرات السّوس أو الخنافيس ، أمّا علب الحليب  والياغورت ، فهي منتهية الصّلوحية ، ، ويعني ذلك أنّ قُفّة العلف التي نالها المُصفّق هي مساعدة رخيصة ،هي مقابل حَمْله قفّة الإفساد عن المعارضين ، وكان الحزب الحاكم يقيم ولائم كسكسي دسمة  يُطلق عليها اسم  زَرْدَة ، أي الوليمة الكبرى ،  و تلك تُقام عادة في مهرجانات الأولياء والصّوفية ، و يهرع إليها  الجائعون وعابرو السّبيل ، وأما زَرْدة الحزب  الحاكم ، فهي مكافأة  للرّعاع والسّفلة من قطيع الحزب ،المتمرّس  بطباع الطّفيليين ، ذائعي الصّيت في النّثر والشّعر العربي ، قال الشّاعر في وصف  طفيليّ أكول :

أتـانا طــفيليّ كـــأنّ يمينه       ***    على الأكل برق للموائد تخطفُ

تحاكي عصا موسى إذا هي    ***    أقبــــلت فإن هي إلاّ حيّة تتــلقّـفُ

فلو كان في شرق أو في غرب *** زردة  وقد قُطعت أقدامه جاء يزحَفُ

قطيع حزب بورقيبة ، الحزب الحر الدستوري الاشتراكي حاكم البلاد والعباد خلال ثلاثة عقود ، تنكّر للمجاهد الأكبر ، ولم يهبّ لنجدة الزعيم بورقيبة ، وهو ضحية انقلاب أبيض ــ بقيادة زين العابدين بن علي ــ رتّبته المخابرات الأمريكية ،  انقلاب حصل في غفلة من المخابرات الفرنسية النّشطة بتونس دائما حماية لمصالحها ، وكانت إيطاليا على علم مسبق بنهاية بورقيبة ، فهي من ستُنقذ بن علي في صورة فشل الانقلاب ، وكذلك وضعت الجزائر قواتها العسكرية في حالة تأهّب على الحدود التّونسية ، ولم يكن يعلم الجار الليبي العقيد معمر القذافي بما يجري ليلة السابع من نوفمبر 1987 بتونس ، وهو العدوّ لبورقيبة منذ فشل الوحدة الليبية التونسية سنة 1974 ،  خرج بورقيبة وحيدا  مطرودا من قصر قرطاج ، وضعه بن علي  رهن الإقامة الجبرية بدار والي المنستير مسقط رأسه ، تنكّر له قطيع الحزب الذي كان يجلجل باسمه ، وكان فيما مضى ، يحرص قطيع الحزب الدستوري الحر الاشتراكي على حضور ميلاد زعيمه الأوحد الحبيب بورقيبة يوم 03 أوت من كل سنة بالمنستير لمدّة شهر كامل ، وتُقام هناك العكاظيات المدحية الشّعرية ، والحفلات الراقصة تمجيدا للزعيم بورقيبة ، وتُرصد مكافآت مالية للمدّاحين والفنّانين ، ويملأ الرّعاع والسّفلة أجوافهم  بطعام يُدفع من عرق التونسيين المغلوبين على أمرهم .

نسي قطيع حزب بورقيبة قائده المجاهد الأكبر،  وانضم ّ مهلّلا كالعادة لزعامة بن علي واصفا إياه بمنقذ البلاد ، وانخرط ذلك القطيع  العريض العريق في التّصفيق  في حزب التّجمّع الدستوري الديمقراطي ، وهو الحزب الجديد الذي أنشأه بن علي مُجمّعا فيه أرواحا شرّيرة ثلاثة وهي:  التّجمّع وتعني تجميع القمع ، والدستوري  وتفيد عكسها ، أي الفوضى السياسية بدل النظام ، وأما الديمقراطي ، فتعني عكسها  أي الفاشية ، هكذا نشأت فاشية حزب التجمع الدستوري الديمقراطي .

 اختار بن علي اللون البنفسجي علامة لحزبه  تميّزه شأنه شأن أعلام الأولياء  والصّوفية ، وهو لون بركة وسعادة ، ورثه عن أجداده المنحدرين من  قبيلة الحمارنة  العربية الاسلامية الضّاربة في القدم ، وتَنْتَسب روحيا ودمويّا إلى وليّ صالح ،  دفين معتمدية عرّام من ولاية قابس بالجنوب التونسي ،  عَلَمُ ذلك الوليّ لونه بنفْسجيّ ، يلبس غلاة الحزب من التّجمّعيين قماشا بنفُسجيّا ، و يَلْوُون على رقابهم خرقا حمراء ، وهي إشارات تنظيمية يُعرفون بها ، كما تُعرف فرق القتل في الدول الفاشية .

حزب التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي ، هوغشاوة شفّافة خادعة  ، ظاهرها ديمقراطية  ، وعهد جديد بالقطع مع الماضي ، وباطنها نشوء فاشية جديدة ، ونكوص الى الوراء  من خلال تطعيم السّلطة السياسية الجديدة بعناصر تزعم أنّها يسارية متنوّرة ، ويُطلق عليها سخرية ، …قبائل ماركسية … شيوعية … عشائر قومية … وهي التي شجّعت  الرئيس المخلوع على إحداث أكاديمية سياسية خاصّة بالتّجمّعيين النّشطين من كلّ ولاية ، دروس الأكاديمية محصورة في فكر الرئيس وخطاباته ، و كذلك  نشاطات زوجته ، ويؤمّن تلك الدروس أساتذة جامعيون من مختلف الاختصاصات ، ينال  الدّارسون  إثر كلّ دورة شهادة بنفسجية ،  تؤهّل صاحبها  الاضطلاع بمهمة إدارية ،وهو الحافظ لفكر الرئيس والمردّد لأقوله عن ظهر قلب بمناسبة وبدونها ، كي يخشاه الخلق ويهابه ، وقد يعلّق بعضهم تلك الشهادة في مكتبه ، ويحمل نسخا منها في جيبه يرهب بها الغير ، أو يبتزّ بها .

الأكاديمية السياسية البنفسجية ، هي وريثة مدرسة تكوين الإطارات الحزبية التي أنشأها بورقيبة خلال سنوات السبعينات ــ من القرن العشرين المنصرم ــ وهي موجّهة إلى الشّباب المدرسي بغية تأبيد زعامة بورقيبة في ذهنه ، وتُعنى بتدريس الفكر البورقيبي ، ونشاطات الزعيم المجاهد الأكبر خلال مرحلة الاستعمار ، وبعد الاستقلال ، إضافة إلى ذلك دروس التاريخ  بالمعاهد الثانوية تتضمّن تاريخ الحركة الوطنية ممثّلة في زعيم واحد ، وهو المجاهد الأكبر ،أما في التعليم العالي قد أحدث الحزبيون  للغرض شهادة الحركة الوطنية ، مختصرة في شخص بورقيبة دون غيره .  

 خلال حكم المخلوع طفت ــ علنا ــ عناصر قوامها زُمر من نفايات أشباه المُثقّفين التّونسيين  المحسوبين على الرّابطة التونسية لحقوق الانسان ، قد نهض بعض الأعضاء  بوظيفة المُخْبر، فَهَلك خلقا كثيرا في غياهب السّجون ، وآخرون قُطعت أرزاقهم ، وآخرون اجتازوا الحدود خلسة ، أو غرقوا في البحر، وبعض آخر اختفى قسرا ، أو دُسّ جثمانه في الإسمنت المسلّح طمسا للجريمة ، هكذا انحرفت وظيفة الرابطة الحقوقية إلى مسار طمس الحقوق ،  ولم تعد ملجأ آمنا يحتمي به المظلومون من  قهرالسلطة  .

  أمّا الاتحاد العام التونسي للشّغل ، وهو المنظّمة العريقة واسعة الانتشار في البلاد بوفرة المنخريطين  صلب المنظمة الشّغّيلة  التي لعبت ــ في مضى ــ دورا وطنيا قياديا رائدا أفضى إلى اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشات يوم 5 ديسمبر 1952 بضاحية رادس الجنوبية ، نفّذت اليد الحمراء الفرنسية الاغتيال بمشاركة خونة تونسيين ، وقد أذنت السلطات الفرنسية القائمة آنذاك بارتكاب الجريمة  ،   هادفة إلى التّرويع ، ووَأد النّضال في  بعض  المراحل ، ورغم ذلك تماسك الاتحاد وضمّد جراحه ، والتحم بالحركة الوطنية التّحريرية التونسية .

 أصبح الاتحاد التونسي للشغل خلال سنوات حكم حزب  التجمع الدستوري الديمقراطي ،  بنفسجيّ اللون ، ووكرا للفساد بامتياز ،هو وكر الوشاية والإفساد وتدبيج التقارير في اللّائذين به طلبا للمساعدة ،  فالمستجير  بالاتحاد ، حسب المثل ،  «كالمستجير من الرّمضاء بالنّار » ، سعى قادة الاتحاد زحفا على البطون  إلى الكسب المالي ، وقضاء الشؤون الشّخصية ، وقَبْض رشاوى مقابل  طالبي الشغل أو النُّقل ، أثرى  بعضهم ، ونال مكافآت جمّة وضعته في علية القوم ،  بفضل نشاطه  الحثيث في مراقبة المعارضة ، وهو نشاط تفوّق على حرفية البوليس السياسي اللصيق بالمشبوه .

وتمويها مكّن نظام المخلوع  بن علي  عدّة أحزاب لمعارضته   شكليا  ــ هي أحزاب موالاة ــ من النشاط العلني ، دعّمها بالمال والدعاية ، ورخّص لصحفها ،   ومن تلك الأحزاب نذكر : الحزب الديمقراطي التّقدمي ، حركة التّجديد ، سابقا هي  الحزب الشّيوعي التونسي ،  التّكتّل الديمقرطي من أجل العمل ، الاتحاد الديمقرطي الوحدوي ، حركة الديمقراطين الاشتراكيين ،  حزب الوحدة الشّعبية ، حزب الخضر للتقدم ، الحزب الاجتماعي التحرّري.  

 وظّفت بعض عناصر تلك الأحزاب نفسها طوعا لسحب البساط من تحت المعارضة الوطنية العقائدية الصادقة ،  ولكنها كانت أحزابا كرتونية ، أكثر ولاء لنظام المخلوع من الحزب الحاكم : التجمع الدستوري الديمقراطي ، لعبت  أحزاب الكرتون  دور المتلصّص الأعور  على المواطنين ، وغنم قياداتها عديد الامتيازات مقابل نشاطهم في جمع المعلومات على نشطاء المعارضة الوطنية الصّلبة ،  وكذلك على بعض المنخرطين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي ، وعلى هذا الأساس أصبح الانخراط في الحزب الحاكم ، أوفي  أحزاب المعارضة الكرتونية مشروط بكتابة التقارير في الخلق ، وبذلك تتنافس الأحزاب فيما بينها ، ويتفوّق هذا الحزب  ، أو ذاك على غيره من خلال وفرة رجاله الموهوبين في اختلاق ، وافتعال التقارير  الموجبة لهلاك الأبرياء .

طفت من جديد سلطة النساء بالقصر الرئاسي  ممثّلة في ليلى الطرابلسي (مولودة سنة 1957…) زوجة  الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي  الثانية (دام زواجهما من سنة 1992  إلى سنة وفاته منفيا بالمملكة العربية السعودية 2019) ، وخلّفت منه نسرين زوجة صخر الماطري ، تمّ الطلاق بينهما بالمنفى ، وحليمة  خطيبة مهدي بلقايد ، فسخ خطوبته منها بالسعودية ثم عاد الى تونس ، ومحمد (مولود سنة 2005…) قد بنى بن علي بليلى الطرابلسي  بعد طلاقه من زوجته الأولى نعيمة  الكافي  ، وقد دام زواجهما من (سنة 1964 إلى سنة 1988) ،وأنجبت منه ثلاث بنات ، وهنّ غزوة زوجة سليم زروق، ودرصاف زوجة سليم شيبوب ، وسيرين زوجة مروان بن مبروك  .

 تحكّمت ليلى الطرابلسي في مفاصل الدولة ، وأثّرت في السياسة الداخلية والخارجية للبلاد ، ساعدها في ذلك أفراد عائلتها  الوفيرة أشباه الأمّيين ، المتمرّسين في فنون التّحيّل والبلطجة ، أدارت شؤون القصر السياسية من خلال خبرتها في السيطرة على عقول  الرجال والنساء  ، بفضل ثقافة شعبية واسعة  كانت كسبتها  من حرفتها في  فنون الحلاقة والتجميل  ــ  وهي مهنة شريفة ــ والعادة المنتشرة بين بعض محترفات الحلاقة ــ في أنحاء العالم بصفة عامة  ــ هي اللّجوء إلى عالم الغيب والتّنجيم والمُشعْوذات ، وخاصة في تونس لا  تطمئنّ بعض الحلاقات على رزقها أو محلّها  ، أو زوجها إلاّ إذا عقدت عقدا روحيا ، وماديا مع ذوي القدرات الخارقة الذين يجلبون الحظّ ، ويدكّون الأعداء بواسطة قوى لا مرئية ، و تُعتَبَر المرأة مفلحة في مجال المشعوذات إذا قَدَرَت على قيادة زوجها بشكيمة ، وهو يسير قُدُما في اتجاه واحد ، لا يمكنه النظر يمينا أو يسارا بسبب خزّارتيْن جانبيتيْن تحدّدان نظره ، الزوج حمار مقود مركوب  حسب المثل الشّائع في تونس ،  هو رهن قيادة وتوجيه الزوجة  حسب رغباتها ،وهو مطيع ذليل ، وخاصّة إذا كان الزّوج في أعلى هرم السلطة السياسية .

 في بيئة مهنية غارقة في المشعوذات ، وفي بيئة عائلية شعبية غارقة في الخزعبلات والحيل  ، تمرّست ليلى الطرابلسي كغيرها من حلاّقات عصرها بتلك الفنون الطّريفة ، وكانت سعيدة الحظّ حين ورثت عن سعيدة ساسي ووسيلة بورقيبة تلك الفنون ، ووجدت أرضا خصبة ، جاهزة بالقصر احتضنت مكتسباتها في فنون السّحر، نشطت في هذا المجال ، واستعانت بكبار العرافين والمنجّمين لمعرفة طالع الرئاسة  ، وطُرق   الفوز بها لفائدتها خلفا لزوجها زين العابدين بن علي ، فأشار عليها  كبير السّحرة بتحوير القوانين المنظمة للرئاسة في تونس ، وتمّ ذلك بعد سيطرة تامة على زوجها  بفعل تمائم وعزائم تقام للغرض ، نجحت الخطّة ، انحرف  زوج ليلى وطمح إلى رئاسة مدى الحياة ، وهو المريض ، والحقيقة كان التّحضير لتولّي الشّاب الطّائش  صخر الماطري  صهرها زوج ابنتها سدّة الرئاسة ، والذي لن يفلح في ذلك ، وعندها تتولّى  ليلى الطرابلسي الرئاسة ، وفعلا جنّدت الإعلام  يمجّد أعمالها الخيرية ، في حين نهضت أستاذة  جامعية  تافهة من قسم الحضارة العربية مبرّزة برشّ  الماء وراء سيارة الرئيسة المنتظرة ،  خوفا عليها من عين الحسد والجنّ ،  وعملت  ليلى الطرابلسي على تكوين عصابات مال ونفوذ ، هم بمثابة منصّة للرئاسة ، نطق الشارع السياسي التونسي المكمّم ، وكذلك ألسنة المعارضة الوطنية الصّلبة ، فجاء الرّفض للرئاسة مدى الحياة ،  ورفض  توريث الرّئاسة لأفراد أسرة المخلوع الرئيس زين العابدين بن علي  .

هبّة جماعية عفوية دون قيادة  انطلقت من ولاية سيدي بوزيد سنة 2011 إثر إضرام بائع الخضار المرحوم  محمد طارق البوعزيزي النار في جسده ،  احتجاجا على صلف أعوان تراتيب البلدية  في  مصادرة رزقه بالطريق العام  الرئيسي المحاذي لمركز الولاية ومقر الحرس الوطني  ،  صدمة هزّت أركان قصر قرطاج  ، زار الرئيس المخلوع  زين العابدين بن علي صحبة زوجته الجسد المحروق  وهو ملفوف بالضّمادات في مستشفى الحروق ببن عروس بتونس العاصمة ، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، هي محاولة لمصّ الغضب الذي انتشر لهيبه في كامل تراب الجمهورية ، هتفت الجماهير الثّائرة بقوّة ، ارْحَلْ … ارْحَلْ … ارْحَلْ … يا عصابة السُّرَّاق … واجه الرئيس المخلوع مذعورا المحتجّين بوابل الرصاص الحيّ ،  وشارك في القتل العمد   قنّاصة أجانب غامضون …، وآخرون محلّيون…  سقط ضحايا أبرياء ، كان النّفير ، جَمَعَ أقرباء ليلى الطرابلسية أغراضهم ، تجمّعوا في مطار قرطاج ، بحثا عن مكان آمن يأويهم بالخارج ، نفذ إلى الخارج البعض طالبا اللجوء  ، و قبع  آخرون في سجون تونس  لينالوا جزاء أفعالهم  ، بعد محاكمات علنية توفرّت فيها عناصر الدفاع عنهم .

ليلى  الطرابلسي وزوجها زين العابدين الرئيس المخلوع  ، وبعض أفراد أسرته ، أقلعت بهم الطائرة من مطار قرطاج  بحثا عن برّ أمان خشية انتقام الشعب التونسي الثائر منهم ، رفضت دول أوروبية استقبال الرئيس المخلوع المُطارَد ومن معه ، ولاسيما تلك الدول التي  مكّنت بن علي  من أدوات القمع ، ودرّبت البوليس السياسي التونسي في أراضيها بهدف التّنكيل بالتّونسيين المعارضين بالداخل والخارج ، تخلّت عنه تلك الدول الصديقة له فيما مضى ، وهو دليل أن المهمّة انتهت التي انتُدب من أجلها رئيسا على تونس ، اتخذت تلك الدول هكذا اجراء  ــ خاصة فرنسا ــ بهدف تلميع صورتها أمام شعبها بأنها لا تستقبل المجرمين ، وفي الآن نفسه تهدف إلى كسب السلطة الجديدة بتونس المزمع انتصابها بعد رحيل المخلوع ، قد حاولت فرنسا مدّ المخلوع بأجهزة القمع المتطوّرة لمحاصرة المدّ الثوري المتصاعد في تونس ، لكنها فشلت لأن هدير الجماهير كان أقوى ، وقد فشل كذلك العقيد الليبي معمر القذافي في إنقاذ صديقه زين العابدين بن علي ، وقد همّ بتزويدة بأدوات القمع  ، ورجال أفارقة مرتزقة متخصّصين في فنون القتل ، سقط نظام الفساد بتونس ، وكانت أرض تونس منصّة  مطواعة قفز منها الاستعمار الغربي  متعدّد الجنسيات إلى ليبيا ليقتسم خيراتها ، وينشر بين الليبيين فتن القبائل  ، كانت نهاية الزعيم الثائر أبدا ، العقيد الليبي  ، الحاكم الفرد مأساوية ، سلّمته القوات الفرنسية إلى الشباب الثائر الليبي ،   قتلوه ، مثّلوا بجثّته ، وقُبر في مكان مجهول كي لا يتحوّل مستقبلا إلى  رمز وطني يُزار .  

 تنكّر الغرب الاستعماري لخدمات بن علي وزبانيته ، ولكن شفقة  عليه ، وردّا لبعض جميله  ، وهي  عنايته بتخريب تونس والعبث بحياة التونسيين ، وشْوشَت بعض الدول الغربية الاستعمارية في أذن المملكة العربية السعودية السّمّيعة ، وأذنت لها بأمر صارم ، وحازم بأن تستقبل المخلوع  حماية له من شعبه التونسي إلى حين ، وقد تمّ ايواء المجرم لاجئا سياسيا  ــ وهو الهارب من العدالة في تونس ــ بأرض الإسلام المملكة العربية السعودية ،  وفيها تُقطَع يَدُ السّارق ، ويُقْصَفُ الرّأس بالسيف في الساحات العامّة ، احتجّ التونسيون وأحرار العالم ، وطالبوا بتسليم الرئيس المخلوع إلى عدالة القضاء بتونس ، أجاب السّعوديون بأن عادات وتقاليد المملكة  تحمي الضيف ، وتُكرم وفادته ،  أما الواقع ينفي الجواب السّابق :  إكرام الضيف إذا كان أديبا ، ولم تعلق به شُبهات ، لقي الرئيس المخلوع إقامة طيّبة بصفته منفيا بالمملكة إلى حين وافته المنية هناك  ، وبها دُفن في سبتمبر 2019 .

 المملكة العربية  السعودية تمتثل  لهمزات الغرب الاستعماري ،  لو صدر لها من جهة غربية   أمر بإرجاع الرئيس المخلوع إلى تونس كان حصل  ، ولو في غياب نصوص قانونية تُنظّم تسليم المجرمين  بين البلدين ، هَدَفَ الغرب الاستعماري  من ذلك إلى حماية الرئيس المخلوع ، وعدم إرجاعه أموال التونسيين المنهوبة  ، وهو عقاب للتونسيين  كي  يتجرّعوا  مرارة البطالة والتشريد والفقر والجهل ، وأموالهم منهوبة موزّعة في بنوك الغرب ، ولا يقدرون على إرجاعها ، أو محاسبة المخلوع وزوجته ، وإن صدر غيابيا  في حقهما وغيرهما  أحكاما  تدين الضّالعين في الفساد بأنواعه  .

سقط النظام السياسي رهين الشّعوذة في مرحلتيه ، مثّلت المرحلة الأولى كلّ من : وسيلة بورقيبة وسعيدة ساسي ، وأمّا المرحلة الثانية والأكثر ذيوعا هي مرحلة ليلى الطرابلسي ، وهي مرحلة  سهّلت  انتشار ظاهرة العرّافين والعرّافات ، فتحوا مكاتب عديدة بالبلاد ،  نافست عيادات أطباء النفس  الذين أفلس أكثرهم ، فأغلقوا العيادات ، وقد  ندموا على تخصّصهم  الطبّي الفاشل ، في حين غنم العرّافون  الأمّيون المال ،  بل تخصّص البعض  منهم في استخراج  الكنوز المطمورة بباطن الأرض  ، وهي آثار وطنية  ، تمّ تهريبها إلى الخارج وبيعها  تحت حماية ،ورعاية أسرة ليلى الطرابلسي ذات النفوذ الواسع.

سقطت سلطة  تمائم النّساء المُشعوذات و ذيولها  الرّجال الحمير،   وطُمست معالمها ، إثر ثورة عقول عفوية  شابّة ، انطلقت من سيدي بوزيد لتشمل البلاد التونسية ، وهي ثورة مهّدت لها أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 بقفصة  ، ثورة الشعوب لا تُقْهر ، هي موت زؤام يُطبق على عنق السّلطة الفاسدة ، ويتمثّل فيها قول الشاعر المخضرم : جاهلي / إسلامي ، وهو أبو ذؤيب الهذلي ، أسلم على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، إلاّ أنّه لم يره.  

إذا أنشَبَتْ المَنيَّة أظفارها      ***     ألفَـيْتَ كلّ تَميمة لا تنْفع

 في علم  البلاغة ، الاستعارة بالكناية هي  التّميمة ،وتعني العَوْذَةُ التي تُعلّق على الانسان : قيل خَرْزَة رَقْطَاء ، كانوا يعلّقونها في العنق والعضد ،  فَكُرهَ ذلك ، كي لا يُظنّ أنّها تدفع العاهات : شبّه الشّاعر  المنيّة بالسّبع في اغتيال النفوس وحذف المُشبّه به ، وهو السّبع وأبقى شيئا من لوازمه ، وهي الأظفار التي لا يمكن الاغتيال بها .

سقوط النظام السياسي في تونس سنة 2011 ، لم تحصّنه التّمائم  ومحارق المباخر وكلّ أنواع  المُشَعْوذات المُبْهمة التي حرّرها كبار العرّافين ، وهي مشعوذات مستوحاة من السّحر الفرعوني الأسود  ، والسّحر العبري الأسود ، وسحر الكاهنة البربرية حاكمة تونس قديما ، كثافة السّحر وتنوّعه هدفه  تحقيق حلم ليلى الطرابلسي بأن تصبح حاكمة قرطاج ، وارثة لأسطورة علّيسة الوافدة من السّاحل السّوري ، مدينة صور الحالية بلبنان ، علّيسة أحدثت قرطاج مدينة جديدة ، بشمال إفريقيا ، وأشادت  حضارة فينيقية عظيمة مؤثّرة في حضارات العالم ، أمّا التّمائم والعزائم والمباخر ، والأرواح والمُشعوذات فهي  منشأة  لفساد العقول ، وهي داعية إلى أفول الشّعوب والأمم ، والحال ــ اليوم ــ نُظُم عربية اسلامية قائمة على فلسفة عالم التمائم والمشعوذات إيذانا بسقوطها العاجل .     

اترك تعليقاً