ثقافة قطع الأرزاق أو قطع الأعناق … عبقرية تونسية ؟

بقلم : د . الهادي غابري

رئيس التحرير

ظاهرة مصادرة الأرزاق في البلدان العربية مستشرية بسبب قانوني وجيه  طورا ــ وفي أحيان عديدة ــ يكون السبب انتقاميا اعتباطيا ، غايته التّشفّي والتّنكيل بالخصوم ، وهي ثقافة درّبت عليها السلطة العربية أعوانها ، ولذلك يتصرّف أعوان الدولة العربية بعنجهية وصلف تجاه الباعة ــ أصحاب البسْطة ــ مصدر رزقهم اليومي .

1ــ الجسد محترقا

ونسوق ــ  في هذا المقال ــ حادثة  التّلاسن الكلامي بين العون البلدي فادية حمدي  وبين تاجر الفواكه المرحوم طارق الطيب محمد البوعزيزي (1984  ــ 2011 )، وقد انتصب  ببضاعته ــ شأنه شأن باقي التّجار ــ على حافة الطريق العام قرب مركز الحرس الوطني ، ومقر ولاية سيدي بوزيد  ــ  وحسب شهود عيان ــ  أفرطت العون البلدي فادية حمدي ــ ابنة عون أمن الدولة : أي بوليس سياسي ، الطاهر حمدي ــ  في  تطبيق القانون ، بدل اللّيونة والمرونة المطلوبيْن في مثل هذه الحالات المتعلّقة بقطع الأرزاق ــ وصادرت بغلظة البضاعة رفقة زملائها .

واحتجاجا على ذلك أقدم المرحوم طارق الطيب  محمد البوعزيزي على  إضرام النّار في جسده أمام مقرّ الولاية ، مركز السلطة السياسية بسيدي بوزيد . جسد الشّاب يحترق ، جالت  ــ بسرعة ــ صوره  أنحاء العالم ،  المشهد مريع و فضيع ، نتجت عنه ثورة شعبية عفوية  دون قيادة بسيدي بوزيد  ــ17 ديسمبر 2010 ــ 14 جانفي 2011 .

لعب الإعلام الخارجي ــ قناة الجزيرة … ــ دورا بارزا  في تأجيج الاحتجاجات ، نشط الشّباب التونسي غاضبا ثائرا  في مواقع التواصل الاجتماعي ، طالبا رحيل الطّاغية هرم السّلطة ، ومحاسبة عصابة السّرّاق … ؟  سرت  ــ بسرعة نادرة ـــ الاحتجاجات في مركز ولاية بسيدي بوزيد ،  فألهبت معتمديات الولاية : الرقاب ــ المكناسي ــ منزل بوزيان ــ المزونة ـــ جلمة ــ سيدي علي بن عون ــ أولاد حفوز ــ بئر الحفي ــ السوق الجديد ـــ الهيشرية… وتفشّت نيران التّمرّد والعصيان في باقي قرى وأرياف سيدي بوزيد . أفرطت سلطة الاستبداد في استعمال القوّة ، ثارت باقي المدن التونسية ، سقط شهداء كثيرون رميا بالرصاص .

 يقظة  في سيدي بوزيد  ــ بعد غفوة ثقيلة  ــ أشعلت نيران الثورات العربية تباعا : مصر ــ ليبيا ــ اليمن ــ سوريا ــ لبنان ــ  السودان ـــ الجزائر … وفي المقابل سرت الثورات المضادة  بقيادة الأنظمة العربية  الفاسدة خشية تساقط كراسيها  ـــ خوفا من نهاية مأساوية شبيهة بنهاية الرئيس التونسي المخلوع الفريق زين العابدين بن علي ، هُرّبَ إلى المملكة العربية السّعودية ، وبها مكث لاجئا إلى أن وافته المنية ، وبأرضها دُفن في سبتمبر 2019 ، أو نهاية الرئيس المخلوع المصري  المشير حسني مبارك ، ظهر سجينا ومحاكما محمولا على نقّالة  ،  أو نهاية كالعقيد الليبي معمر القذافي مقتولا ، مخرّزا بالرّصاص ، محمولا على ظهر شاحنة مكشوفة ، أو  نهاية الرئيس اليمني  العقيد علي عبد الله صالح  ، مقتولا مخرّزا بالرّصاص ملفوفا في بطّانية ،  أو نهاية المشير السّوداني عمر البشير سجينا ، المخلوعون … رتبهم عسكرية …  بعضهم تسلّق  كرسي الحكم  بواسطة دبّابة  ، وبيان رقم واحد في الاذاعة   ليطبق على صدور بني جلدته كما تطبق الفخاخ على الفئران .

بقية المستبدّين من العربان ينتظرون نهايات قد تكون أسوأ من سابقيهم… قد تحميهم المخابرات الأجنبية إلى حين ، وهم يدفعون لها بسخاء ، مقابل شراء الأسلحة الفتّاكة ، و أجهزة التّنصّت المتطوّرة للاستماع على أحلام المواطنين وهم نائمون ، أو هم ــ في بيوت الأدب  ــ يتغوّطون ، وهي وسائل يتباهى بها  المستبدّ العربي لكسر شوكة  الثورات العربية المحتملة هنا أو هناك.

2 ــ الجسد مطحونا

 ثقافة التّشفّي والتّنكيل الهادفة إلى قطع الأرزاق كان ضحيتها بائع السّمك الشاب المغربي محسن فكري (1985 ــ 2016 )  بمدينة امزورن المغربية ، حين صودرت أسماكه ، من فصيلة “أبو سيف” ، ورُمي بها في صحن شاحنة نقل الفضلات ، واحتجاجا على ذلك رمى الشّابّ بجسده في الصّحن متمسّكا بأسماكه ، عندها تجبّر  المسؤول ، وأذن  لسائق الشاحنة بتشغيل الشّفرة الحادّة ، طالبا منه طحن عظام الشّاب ، وتمّ ذلك فعلا على مرأى من باقي الباعة … هاج الشارع المغربي مطالبا بمحاكمة عادلة للجناة قتلة العمد .

3 ـــ الجسد مهشّما

ثقافة التّشفّي والتّنكيل الهادفة إلى قطع الأرزاق  كان مسرحها مدينة سبيطلة  التونسية ، ضحيتها عائل أسرة ، عبد الرزاق الخشناوي  ــ  كهل 51 عاما ــ   على الساعة الرابعة صباحا ــ يوم الثلاثاء 13 أكتوبر 2020 ، هدمت عليه  جرّافة البلدية سقف الكشك ، وهو نائم بداخله  ــ  و الحال أن الكشك كان في طور البناء ــ  كان يعدّه  الهالك مورد رزق ابنه في المستقبل ، وانتهى جسد الكهل  مهشّما .

من المتعارف عليه ، سلطة البلدية تنفّذ قرارات الهدم  في وضح النهار ــ أمام الجميع  وفق القانون  ــ لأن الهدم  ليس عملا سرّيا ، أو مسترابا حتّى يتمّ في جنح الظّلام  ، مادام البناء مخلاّ بالتّهيئة العمرانية ، وغير مرخّص له ، وأمّا أن يتمّ الهدم خلال الرابعة صباحا فهو  يذكّر  بسلوك المخابرات في بلدان الاستبداد ، إذ من تقاليد تلك المخابرات العدوانية ، مداهمة النّائمين للتّرويع وإلقاء القبض على الحالمين بمعارضة السلطة القائمة ، وقد  ظنّ الكثيرون أن مداهمات الهزيع الأخير من  الليل قد ولّت بتونس … قد يكون الخطأ بشريا وغير مقصود .

كان بالإمكان تفادي الضّرر ، لو اجتهد ، و فتّش أعوان البلدية  المكلّفون بتنفيذ هدم الكشك ، وأخرجوا ما  قد يكون بداخله كائنا حيّا بشريا ،  أو حيوانا ، أو متاعا  ، هُلك الرجل ، احتجّ سكّان سبيطلة ، طوّقت السّلطات الحدث كي لا يتطوّر إلى الأسوأ ، وقدّمت من له علاقة بالفاجعة إلى القضاء المختصّ لتحديد المسؤوليات .

4 ــ الرّؤوس مفــتّــتة

 ثقافة التّشفّي والتّنكيل بتونس سارية المفعول ،  ومعدية متوارثة من سلطات الاستبداد المتوالية على حكم تونس ،إلى عهد قريب ــ  وفي  سنة 2008ــ أذن محمد عماد الطرابلسي  ــ مولود سنة 1974 ـــ صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بهدم مجموعة بنايات  ــ تُعرف بحي البراطل ببلدية حلق الوادي الكائنة  بأحواز تونس الشمالية  ـــ على رؤوس ساكنيها ، وتمّ تنفيذ الهدم على الساعة الرابعة صباحا ، حينها هلك خلق كثير خلال مداهمات الأمن الوحشية  المباغتة ،  والناس نائمون ، فـَـقَدَ المهدومة  ديارهم أرزاقهم ،  ،  أصبحوا بلا مأوى ،  كان قدّم محمد عماد الطرابلسي رشاوى لذوي النّظر للحصول على  قطعة الأرض بغية إشادة  مشاريع ضخمة  فوقها ، إلا أن نيران الثورة بتونس عصفت بأحلامه ، وهو الآن قابع بسجن المرناقية جزاء أفعاله الفاسدة ، تحت إمرة عمّته ليلى الطرابلسي زوجة المخلوع الرئيس زين العابدين بن علي .

 صدر في حقّ محمد عماد الطرابلسي   مائة وثلاثون  سنة سجنا ، و شهران ،  و غرامة  مالية ، قدرها  3833000 دينارا .

ثقافة التّنكيل والتّشفّي من الغير من خلال  طريقة قطع الأرزاق ــ  وهي صنو لقطع الأعناق  ــ وهي ثقافة  تتستّر تحت أجنحة القانون ــ المجحف في تطبيقه ، أو المُطوّع لغير أهدافه ،  وهو تطويع لا يخلو من براءة ، بل هو مقصود ما دام قاطع الأرزاق  محميا من مجموعات الضغط بتونس ، ويفلت من العقاب بسهولة

ثقافة قطع الأرزاق هي  عبقرية تونسية صرفة ، متسرّبة في مفاصل الدولة ،  فالبعض من  المغرمين بتلك الثقافة  العقيمة ، يمسك بمقصّ ظريف ــ خفية ــ  يقطع به شريان ضحيته ، وهو مبتهج ، يلحس  دم الضّحيّة من مفَكّيْ المقصّ ، ثمّ يرجع إلى بيته فرحا مسرورا ، وقد أنجز انجازا عظيما يحسب له في سيرته المهنية ، فيرتقي بسرعة في السّلم الوظيفي ، ولذلك يتهافت أشرار التونسيين  ــ اليوم ــ  في صادية ، على قطع الأرزاق دون موجب حقّ ، بل الهدف هو شفاء غليل ، ونيل رتبة وظيفية ، ونزر من المال ، هي ثقافة عصور الاستبداد  المتسبّبة في  إشعال الفتيل ، وقد سرى في الهشيم ، كانت النيران الشعبية  كاوية للفاسدين في تونس، ورغم ذلك ما تزال عبقرية ثقافة قطع الأرزاق   ــ بتونس ــ متسلّلة في كلّ القطاعات العمومية والخاصّة ، ما لم  يقيّد القانون تلك الأفعال بأحكام صارمة وفورية ، والحال أنّ في تونس ترسانة قانونية قادرة على شلّ عبقرية ثقافة قطع الأرزاق دون موجب قانوني  ، غير أنّ الإرادة الفعلية غائبة ، بسبب ضعف الدولة ، وبسبب غياب الكفاءات الوطنية الصّلبة ، التي تتّخذ القرار الوطني الايجابي فورا دون محاباة أو خوف ، أو انتظار مكافأة ، بل هدفها حماية الوطن من المتغوّلين المسنودين بالمال السياسي الأجنبي ، أو المسنودين من ذلك الخفيّ … خفّاش الظّلام … المتسلّل عبر البحار ينسج خيوطا  خفيّة ، بغية عودة الاستبداد ، ووأد التجربة الديمقراطية الناشئة بتونس ، و عدّد  المصلح الاجتماعي السّوري  عبد الرحمان الكواكبي (1855 ــ 1902) رائد النهضة العربية  ـــ في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ـــ  نسب الاستبداد   بقوله : «لو كان الاستبداد رجلا ، وأراد أن يحتسب بنسبه ، لقال:  أنا الشّرّ،  وأبي الظّلم ،  وأمّي الإساءة ، وأخي الغدر ، وعشيرتي الجهالة ، ووطني الخراب . المستبدّ فرد عاجز،  لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه ، أعداء العدل،  وأنصار الجور.»  سلسلة نسب الاستبداد  معطوبة ، ولا تنتج إلا عطبا ، ومن يرهن نفسه لذلك النّسب يسقط في هاوية الجور ، وتستبدّ به الشّرور، فتصدر عنه أفعال فضيعة ، محورها ثقافة قطع الأرزاق أو قطع الأعناق دون وجه حقّ .

اترك تعليقاً