الشهيدة شيرين أبو عاقلة … هامة مرفوعة و عُـنُـقٌ لـن يُــلْوَى …!!!

الهادي غابري

 بقلم رئيس التحرير ، د . الهادي غابري

شيرين أبو عاقلة  ، صحفية فلسطينية الأصل (1971 ــ 2022) مسيحية الديانة ، أمريكية الجنسية ،  أشعّ اسمها في الأصقاع مفخرة للعرب وللإنسانية  ، شيرين أبو عاقلة شجرة زيتون مقدّسة رمز فلسطين ، هي حلقة من سلسلة أيقونات شهيدات فلسطين ، هي شاهدة عصر وثّقت السّردية الفلسطينية بحرفية ،وصدق ،  وموضوعية الصحافي المحايد ،  سقطت شهيدة بمخيّم جنين  الصّامد ــ يوم الأربعاء 11 ماي الجاري2022 ــ قرب شجرة خضراء جذورها ضاربة  في الأرض وفروعها  تعانق السّماء  ، هي ذاتها شيرين أبو عاقلة مكْسُوّة بسترة الصّحافة ، بيدها الميكروفون،انكبّت على وجهها ، دمها ينزف ، تُعانق  الأرض ،  تشمّ عبق رائحة تراب فلسطين الذي أحبّت ،وعشقت ،صورتها على تلك الحال  الدرامي، هي تَحَدٍّ للقاتل الغادر الجبان ،  بل هي صورة إثبات وجود الشهيدة حيّة رغم إعدامها ميدانيا  ، الرّصاص  اخترق الجمجمة مصدر الصوت والخبر والحقيقة ، هادفا إلى  إخراس الشّاهدة إلى الأبد ، وهو خطأ في التّقدير .

 وعكْس ذلك التّقدير ، الشّاهدة الشهيدة ، ناقلة الخبر أصبحت خَبرا عالميا هاما ، عاجلا  يُدين قتْل الصّحفيين ، ويندرج ذلك القتْل العمد في خانة جرائم الحرب  ،  والجرائم ضدّ الانسانية ، فيعاقب مقترفها طبق  قوانين محكمة الجنايات الدولية، دم الشهيدة أعاد للقضيّة الفلسطينية ألَــقَهَا بعد مواتها بسبب الخلافات الفلسطينية ــ الفلسطينية ، من جهة أولى ،  ومن جهة  ثانية ، بسبب تدخل النّظم العربية الرجعية المطبّعة مع الكيان الصّهيوني ، وذلك  بدقّها المتكرّر  الأسافينَ بين الفصائل الفلسطينية المتنازعة لاستمالتها للتّطبيع ،ولقطع دابر الثّوّار الحالمين بتحرير فلسطين  ، وفي الآن نفسه أغدق المطبّعون الأثرياء أموالا جمّة على العدوّ الصهيوني ،  استجداء حمايته من ثورات محلية محتملة ــ ذات ربع عربي فجائي ــ قد تعصف بتلك العروش  المطبّعة الواهية .

  كانت شيرين أبو عاقلة وفيّة ، فخورة بانتسابها للصّحافة ، مهنة المتاعب ،هي  شاهدة عيان حربي ميْداني ، توثّق ،تدين الوحشية  العسكرية الصّهيونية عبر قناة الجزيرة القطرية ، هي  مراسلتها من الأرض المحتلة خلال سنوات الجمر، وقد فشل العدوّ الصّهيوني في قمع الانتفاضات الفلسطينية المتتالية .  

اغتيال الشهيدة أيقظ  ضمير أحرار العالم ، تنصّل الجاني العسكري الصّهيوني من الفِعْلة الشّنيعة ، فرفض إجراء تحقيق في الاغتيال لعدم وجود اشتباه جنائي حسب زعمه ، طالب الأحرار بمحاسبته  لدى محكمة الجنايات الدولية ، أو لدى المحاكم الأمريكية باعتبار الشهيدة مواطنة أمريكية ، ورغم تلك الأصوات الحرّة  ،اعتدى العسكر الصهيوني على جثمان الشّهيدة  ، وحاول إسقاط التابوت على الأرض قصد تدنيس الجثمان وتحطيم قدسيته ، فلم يُفلح  ، هامات الرّجال واحدة صُلبة تمسّكت بالتّابوت ، منقوش عليه الصليب ،ملفوف بالعلم الفلسطيني ، تعلوه الكوفية الرّمز ــ مشهد مريع نقلته وسائل الإعلام  أثناء إخراج الجثمان من المستشفى الفرنسي ، لمواراته الثّرى جوار والديها ،  بمقبرة الروم الأرتودوكس الكائنة بجبل صهيون بالقدس .

 الاعتداء على حرمة الجثمان هو خوف من صاحبته ميّتة وحيّة  ، المشيّعون حاملو الجثمان بمخيم جنين ، على مختلف جنسياتهم وأعراقهم ، وجهاتهم  ، وأحزابهم ، و معتقداتهم الدينية فهم :  مسيحيون ، مسلمون ، لا دينيون …  رغم  إفحاش العسكر الصّهيوني في تعنيفهم   ، صمدوا،   تمسّكوا بجثمان الشّهيدة وهو يتمايل ، وحالوا دون وقوعه على الأرض ، وفي الحين صدح الهتاف عاليا :  مردّدا قصيدة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم(1939 ــ 2014)    منتصب القامة :

آه آه آه آه….

منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي

في كفّي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي….

قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان

فيه فيه العوسج فيه الرّيحان

شفتاي سماءٌ تمطر نارًا حينًا حبًا أحيان….

في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي

وبذلك  حقّق المشيّعون نصرا على  تعليمات العسكر الصهيوني الدّاعية إلى تجريد الشهيدة من وطنيتها من خلال محاولة إلزام المشيّعين بعدم الهتاف ، وعدم رفع الأناشيد الثّورية ، وعدم تغطية التابوت بالعلم  الفلسطيني والكوفية الرّمز  .

 الاعتداء على حرمة الجثمان هو خوف من صاحبته ميّتة وحيّة  ، المشيّعون حاملو الجثمان بمخيم جنين ، على مختلف جنسياتهم وأعراقهم ، وجهاتهم  ، وأحزابهم ، و معتقداتهم الدينية فهم :  مسيحيون ، مسلمون ، لا دينيون …  رغم  إفحاش العسكر الصّهيوني في تعنيفهم   ، صمدوا،   تمسّكوا بجثمان الشّهيدة وهو يتمايل ، وحالوا دون وقوعه على الأرض ، وفي الحين صدح الهتاف عاليا :  مردّدا قصيدة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم(1939 ــ 2014)    منتصب القامة :

آه آه آه آه….

منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي

في كفّي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي….

قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان

فيه فيه العوسج فيه الرّيحان

شفتاي سماءٌ تمطر نارًا حينًا حبًا أحيان….

في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي

وبذلك  حقّق المشيّعون نصرا على  تعليمات العسكر الصهيوني الدّاعية إلى تجريد الشهيدة من وطنيتها من خلال محاولة إلزام المشيّعين بعدم الهتاف ، وعدم رفع الأناشيد الثّورية ، وعدم تغطية التابوت بالعلم  الفلسطيني والكوفية الرّمز  .

كانت جنازة الشهيدة  مهيبة  ، أشعّت في لحظة فارقة ، نادرة من التاريخ الفلسطيني المعاصر، نهض بها جمهور غفير ، تلقائي  عَــفْوي من أحرار الداخل الفلسطيني ،  على مختلف المشارب الفكرية ، السياسية ، الدينية والقبلية ، والجهوية ، والعرقية ، هي جنازة تجاوزت الأعراف والتقاليد الفلسطينية  المأثورة في المآتم والتّعازي .

مَحَتْ هيْبة جنازة الشهيدة  ،ــ  وهي متلألئة في سماء الحرية  ــ تلك الهيْبات الأسطورية  المزعومة لجنازات  عربية سلطوية  تعدّدت أسماؤها :  جنازة ملك ، جنازة رئيس ، جنازة سلطان ، جنازة أمير ،جنازة زعيم ،جنازة قائد …  ، تلك  التّسميات الفخمة وتوابعها ، هي وكيلة الاستعمار بعد رحيله شكليا … تسميات مقعّرة  جثم  رهطها على صدور الشعوب العربية  المقهورة ، وبرحيل رهطٍ من تلك الأسماء الجوفاء  إلى دار الفناء ، ــ  دُعاة الخلود الأبدي ، فهم  فوق الأرض يحكمون ، ومن داخل القبر يحكمون  ــ ، ينظّم ورثة رهْطِ الرّاحل ، وبطانته  جنازة مهيبة للفقيد الجَلل ، تتجلّى في : نعيْ بوق التّظليل الإعلامي ، تنكيس الأعلام ، لباس السّواد ، وللتّأثير أكثر، تتدفّق  من خزينة المال العام سيولة مالية ، سخيّة يتلقّفها  مخْبرون مفْسدون ، وسفلة قوم رِعَاع ، للقيام بدور النّائحة المأجورة ــ  القادمة من التراث الجاهلي ــ  ، لتعداد  مآثر الرّاحل .

  السّفلة  مدرّبون ، بارعون في استدرار الدّموع  ، بقدر ما هو مدفوع ، يعدّدون مناقب الفقيد ــ تلاوة من ورقة ــ أسفا عليه ، أكفّهم مفتوحة مرتعشة ، راجين له الرحمة والغفران ، ونزوله بفراديس الجنان، تلتقط  العدسات تلك المشاهد،  فتحفل نشرات الأخبار بصور جنازة الراحل المهيبة ، مجرورة بالخيول ، يحدوها نغم موسيقي عسكري جنائزي ،  وإيقاع خطو أحذية عسكر ا ثقيل رتيب ، وطلقات مدفعية ، تُوارى الجنازة في سراديب سرّيّة ، اسمنتية مسلّحة بمقبرة خاصة محروسة بالسلاح ،وكاميرات المراقبة ، وعيون المُخْبرين ، للحيلولة دون سرقتها أو إتلافها من قِبَلِ المقهورين انتقاما من الرّاحل ، وقد حدث ذلك الصنيع  في التاريخ العربي الاسلامي.         .

 جنازة  الشهيدة العفوية المهيبة ، حرّكت غريزة الحقد والكراهية والحسد والبغضاء ،  القابعة في عَتَمة نفوس أعداء الحقّ والحرية ، إذ تفتّقت  بعض عبقرية  شيوخ الدين ممّن يلبسون عمامة الاسلام زورا ، وبهتانا ،  فحرّموا الصّلاة على جثمان الشّهيدة ، والتّرحّم عليها بدعاوى ،  وفتاوى  واهية ، لا يقبلها العقل ، بل تلك الفتاوى ، ومهما يكن دعاتها ، فهي تصبّ في وادي الفتنة ، بهدف شَقِّ الصَّفِّ الفلسطيني دينيا وسياسيا  ، بعد وحدة صمّاء ، صاغت خيوطها جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة .

 المرأة العربية فاعل أساسي ، وشريك للرّجل في مقاومة بطش الاستعمار ، وقد لمع اسم الفدائية الثائرة الصبيّة الجزائرية  جميلة أبو حيرد (1935 …) خلال سنوات  الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم ، وأثناء محاكمتها الصّورية بمحكمة فرنسية ،  وفور النطق بالحكم القاضي بإعدامها  سنة 1957،قالت جميلة : « أعرف أنّكم ستحكمون علي بالإعدام  ،لكن لا تنسوا  أنّكم بقتلي ، تغتالون تقاليد الحرية  في بلدكم ، لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرّة مستقلة » وتحت تأثير الرأي العام العالمي  خُفُّف حكم الاعدام  إلى السجن المؤبّد ، ثم أطْلِق سراحها سنة 1962،  وقد نالت الجزائر استقلالها بعد استعمار عسكري فرنسي وحشي دام 130 سنة ، صمود جميلة بوحيرد فضح وحشية الاستعمار الفرنسي سفّاك دماء لأكثر من مليون شهيد جزائري ، فضلا عن محاربته لمعتقدات الجزائريين وتراثهم ،ألهَمَت الثّائرة الشّابّة الجزائرية الشّعراء، فقال الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926 ــ 1964) في قصيدته «إلى جميلة بوحيرد »

الطّفل يضحك ويهتف في مسْمعيْك

يهتف :يا جميلهْ

يا أختي النّبيلهْ

يا أختي القتيلهْ

لكِ الغد الزّاهي كما تشتهينْ

 وأنت إذ أحسستِ إذ تسمعينْ

 تعلو بك الآلام فوق الترابْ

 فوق الذّرى، فوق انعقاد السّحابْ

 تعلِين حتى محفل الآلِهْ

 كالحرية الوالهْ

 كالنّسمة التائهْ!! 

 و في الشأن ذاته ، قال الشاعر السوري نزار قباني (1923 ــ 1998)

تاريخ امرأة من وطني …

 جَلَدتْ مِقْصلة الجلاّد …

امرأة دوّخت الشّمسا …

جرحت أبعاد الأبعاد …

 كذلك كانت قصيدة« الجمعة الحزينة »للشاعر المصري نجيب سرور (1932 ــ 1978)

 غفرانك فالعين بصيرة … وذراعي قصيرة

 والكفّ بها كلمات عزاء … لا تجدي في يوم الجمعة …

غفرانك … إنّي لا املك إلاّ شعري

وعذابا ينهش صدري

 الحمّى …  والحزن الضّاري

 وسِعاري في يوم الجمعة …!!

أمّأ قصيدة « الفكرة عُنُق ليس يُلوى »فهي للشاعر العراقي صالح الظالمي (1933 ــ 1992)  وفيها   حوّل جميلة بوحيرد إلى  فكرة ستظل  شائعة خالدة أبد الدهر بعد الرحيل .

 كبِّلوها … أوْثقُوا أذرعها بالقيد

 اقسُوا …

اصنَعُوا ما شئتم فيها … وزيدُوا دون جدوى

 إنّها الفِكرة … والفِكرة عُنُق ليس يُلْوَى

أما  الشاعر والناقد المصري أحمد عبد المعطي حجازي (1935 …) فقد نظم قصيدة  لجميلة بوحيرد بعنوان «القدّيسة » مقتبسا صورها من سيرة القديسات الراهبات .

لم تكلّم في أمور الحبّ إنسانا

 فقد قضت عمرها

حاملة رسالة من التّلال

 الى مخابئ الرجال في المدينة

قدّيستي …  كان اسمها جميله

 ***

رصاصة ثانية تمدّدت في عظمها

و ثالثة …

 قدّيستي تغسّلت في دمها

 قديستي … صلّت لأجلها مدائن

دقّت نواقيسٌ ، وكبّرت مآذن

طارت طيور في النّواحي باسمها

***

 جميلة الجميله

 تعلم أنّ حولها ألف رسول

سيحملون الرّسالة

لكن تُرى من غيرها يقول : “أهواك يا سيْف!! “

شيرين أبو عاقلة هي جميلة بوحيرد وغيرهما من المناضلات  العربيات الميْدانيات ، حملْن نعوشهنّ ، ومشيْن في درب الآلام والمسالك الصّعبة ، مرفوعات الهامة ، سقط بعضهنّ في ساحة الوغى متخيّرات الموت  بشرف على حياة  الذّلّ، وهي حكمة  مأثورة للشاعر العباسي أبو الطّيّب  المتنبي (915 م ــ 965 )

 عشْ عزيزا أو متْ وأنت كريمٌ *** بين طعْن القَنَا وخَفْقِ البنود

شيرين أبو عاقلة فكرة خالدة لا تموت ، عُنق شامخ  لن يُلوى ، عصيّ على الغزاة ، هي امرأة فكرة ، دأبت على  قول الحقيقة  ، وقول الحقيقة «نوع من الشّجاعة  والقدرة  لما تثيره معرفة الحقيقة  من نتيجة وخيمة على القائل ، قد تؤدّي الى الموت كما حدث مع سقراط »حسب قول  الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 ــ 1984)Michel Foucault  . شيرين أبو عاقلة كانت تعي مصيرها الموت في كل لحظة ، و قد صرّحت بذلك في كلمتها لقناة  الجزيرة  القطرية خلال الذكرى 25 لانبعاث قناة الجزيرة الناطقة باللغة العربية  : «فالاحتلال يتّهمنا دائما بتصوير مناطق أمْنية ، دائما أشعر أنني مُستهدفة في مواجهة الاحتلال  والمستوطنين المسلّحين … ولن أنسى أبدا حجم الدّمار ،  ولا الشّعور بأن الموت كان أحيانا على مسافة قريبة ، لم نكن نَرَ بيوتنا ، كنّا نحمل الكاميرات ، وننتقل عبر الحواجز العسكرية ، والطّرق الوعرة ، كنا نبِيتُ في المستشفيات ، وعند أناس لا نعرفهم ، ورغم الخطر ،كنّا نصرّ على مواصلة العمل … في اللّحظات الصّعبة تغلّبتُ على الخوف ، فقد اخترتُ الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان ، ربما ليس سهلا أن أغيّر الواقع ، لكنّني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم .»بهدف استنهاض الهِمَم ، وإيقاظ  الضمائر الحيّة ، فيعرف العالم  معاناة الفلسطينيين  تحت وحشية الصّهيونية منذ 74 سنة ، خَلَت  تاريخ نكبة فلسطين

اترك تعليقاً