بقلم : د . الهادي غابري
كلمة رئيس التحرير
في يوم 12 ماي ، سنة 1881 ، بقصر باردو ، فرضت فرنسا على حاكم تونس محمد الصادق باي (1859 ــ 1882) توقيع معاهدة،بموجبها تصبح تونس تحت الحماية الفرنسية ، وفي الواقع هو استعمار استيطاني عسكري مقنّع ، وكانت فرنسا قد احتلت الجزائر سنة 1830 ، وفرضت الحماية على موريتانيا سنة 1905 ، وكذالك على المغرب سنة 1912 ، وكلاهما مُستَعْمرتان شأنهما شأن تونس ، ولم تهدأ حركات المقاومة المسلحة في البلدان المغاربة ضد الوجود العسكري الفرنسي الاستيطاني العنصري .
وخلال سنوات الخمسينات وما تلاها من القرن العشرين المنصرم ، اشتدّ عنفوان المقاومة الشّعبية المسلّحة المنظمة بأراضي البلدان المغاربة ، ففي المغرب نشطت المقاومة المسلحة الحضرية سنة 1952 ، وكذلك الشأن في تونس ، تخوّفت فرنسا ــ وهي المهزومة في حربها بالهند الصينية سنة 1954 من التّنسيق النّاشئ بين حركات التحرر المغاربي ، وخاصة أن الحدود والجغرافيا بين البلدان المغاربة صالحة لحرب العصابات ، وهي التي ألحقت ضربات موجعة للجيش الفرنسي المنظّم بأسلحته المتطوّرة ، مقابل أسلحة تقليدية في أيدي مقاومين من بسطاء البلدان المغاربية ، ويُضاف إلى ذلك خشية فرنسا من الدّعم المالي والعسكري والإعلامي ، الذي نهضت به جمهورية مصر العربية بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (1918 ــ 1970) لفائدة المقاومة المغاربية ، ولذلك بادرت فرنسا بمنح الاستقلال الداخلي المشبوه لتونس سنة 1954 ، وهي مبادرة تكتيكية استراتيجية ، هدفها عزل الثورة الجزائرية ــ التي انطلقت شرارتها يوم 1 نوفمبر سنة 1954 ــ عن محيطها الإفريقي و العربي الاسلامي بشمال افريقيا : تونس ، المغرب ، موريتانيا ، وكذلك فصلها عن انتمائها إلى حضارة الشرق العربية الاسلامية ، وذلك أن الجزائر حسب غلاة الاستعمار هي مقاطعة فرنسية ترابيا وقانونيا ، لا يمكن التفريط فيها .
يعتقد الغلاة ،المتطرّفون ،العنصريون الفرنسيون أنّ البلدان المغاربية حدائق خلفية لفرنسا تعجّ بمخلوقات بشرية وحيوانية غريبة وعجيبة ، ومن واجب العِرْق الأفضل : وهو الهندوــ أوروبي الفرنسي ، الصّيد بالرّصاص ، والقنص بالشّباك عجائب المخلوقات البشرية بتلك البلدان المغاربية للتّسلية والتّرفيه ، والحجّة أنّ تلك الكائنات البشرية تنحدر من عِرْق سام ، وهو أقلّ درجة من العِرْق الأفضل ، حامل حضارة التّطهير العِرْقي لإفراغ تلك البلدان من سكّانها الأصليين ليحلّ العِرْق الأفضل محلّهم فيعمّرها .
مستعمرات فرنسا المغاربية وغيرها في بلدان عربية أخرى ، هي ملك خاص ورثها غلاة الاستعمار الفرنسي عن الأجداد الغزاة ، ويعتقدون أنّهم العِرْق الأفضل الآري ،الهندو ـ أوروبي الذي يعلو العِرْق السّامي ، وهو خَرْق لمبادئ ، وشعارات الثورة الفرنسية : حرية ، مساواة ، أخوّة Liberté,Egalité,Fratèrnité ، وخَرْق أيضا لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948 ، وأكّد منظّر الاستعمار الفرنسي جيل فيري Jules François Camille Ferry (1832 ــ 1893)بقوله «من الصّعب علينا أن نُقْنِع المعمّر الأوروبي بأنّ هناك حقوق أخرى ، غير حقوقه في بلاد عربيّة » هي نظرة تحقيرية للأعراق البشرية الأخرى ، وأساسا : عِرْق سام ، ومن سلالته ينحدر العرب .
التفاضل بين الأعراق طال الفكر الفلسفي العربي الاسلامي ، وقد أقصىاه الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيجل (1770 ــ 1831) Georg Wilhelm Friedrich Hegel باعتبار أن ذلك الفكر منتجوه ساميون شرقيون ولذلك قال :« ما هو شرقي يجب استبعاده من تاريخ الفلسفة » نافيا عن الشعوب السامية التفكير والحكمة والجدل ، وبذلك يكون التفكير الفلسفي حكرا على الشعوب الآرية ومحصورا فيها.
تلك النّظريات العنصرية التّحقيرية ، جعلت من الشعب التونسي وغيره من العرب شعبا منحدرا من جنس سام ، ولذلك فهو عاجز عن التّحضّر ، غير قادر على التّعليم ، بل قَدرُه رعْي دوابّ الفرنسيين في الأرياف ، ومسْح الجَزْمات Botte ، وهي الأحذية العسكر ية الفرنسية الثقيلة بالمدن ، هكذا كانت رسائل فرنسا التحضيرية موغلة في عقلية اقصائية ، لا تعترف بالآخر، هدفها تحطيم الشعوب الأخرى ماديا ومعنويا ، أصبح التونسيون غرباء في وطنهم ، مَقْصِيون من التّمدّن ، حوّلهم الاستعمار إلى جواسيس ، ومتسوّلين و مُخْبرين ضدّ بعضهم البعض . استثنى جول فيري حقوق الشّعوب الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي من شعارات الثورة الفرنسية ، واعتبرها مقولات خاصّة بالشّعوب الآرية و الهندو ــ أوروبية ، وعلى رأسها فرنسا دون غيرها ، ثم انحرف قائلا : «حرية ، مساواة ، أخوة ، لم تنشأ ، ولا تصلح للشعوب المُولّى عليها » . .
أنشأت فرنسا عصابات إرهابية سرّية فاشية على غرار عصابات القتل النازية خلال حكم أدولف هتلرAdolf Hitler (ـ1889 ــ 1945) بألمانيا أو عصابات القتل :الموساد الصهيونية النّشطة بفلسطين المحتلّة وغيرها في البلاد العربية ، وهدفها تصفية كلّ نَفَس ثوري ، أو مخالف للرأي .
بإلحاح المعمّرين الفرنسيين في بلدان المغرب العربي الكبير ، وبتشجيع و تنفيذ من دوائر القرار السياسي والعسكري بباريس ، تمّ تأسيس عصابة اليد الحمراء Main rouge سنة 1952 الفرنسية الارهابية بالمغرب وتونس ، عناصرها سرّيون غامضون هم : فرنسيون وآخرون محليون :من المغرب ،و تونس ، والجزائر ، وموريتانيا ، خونة : عرب ، وأمازيغ ، تمّ استقطابهم بهدف قطع الطريق ، وشلّ النّشاط الثوري المغاربي المطالب باجتثاث الاستعمار الفرنسي ، وبعد ذلك أنشأت فرنسا مصلحة التوثيق الخارجي ضد التجسّس Service de documentation et de contre éspionnage ، ومختصره ، ساداك :(sedece) .
و تعود كثافة النّشاط المخابراتي الفرنسي بتونس قبل سنوات وجودها العسكري الفعلي بتونس ، إذ سبق ذلك دراسات ميدانية جمّعها مختصّون فرنسيون موضوعها : المعلومات الاقتصادية ، والاجتماعية ، و السّكّانية ، والثقافية ، والدينية عن تونس ، وتنافست المخابرات الفرنسية في الغرض مع المخابرات الإيطالية النشطة بتونس ، إذ إيطاليا جاليتها أعلى نسبة ، ومؤثّرة أكثر من الجالية الفرنسية ، ولدعم وجود بشري فرنسي يفوق عدد الإيطاليين بتونس ، شجّعت فرنسا خلال سنوات الثلاثينات وما تلاها من القرن العشرين المنصرم تجنيس التونسسين ، وتمكين كلّ تونسي حاصل على جنسيتها من امتيازات الفرنسين في التّوظيف ، والمعاملات ، والتعليم ، والعلاج …، فانضمّ فورا إلى حركة التّجنيس كلّ من اليهود المحليون تونسيون بالأصل والولادة ، أو اليهود الوافدون ، وكذلك المالطيون ، و أيضا العرب المسلمون التونسيون .
المتجنّسون الجُدد أصبحوا سندا استخباراتيا نشطا لفائدة فرنسا وفق قانون الجنسية الفرنسية الذي بموجبه يُقسم المتجنّس على الولاء التام لفرنسا ، والدفاع عن مصالحها بالداخل والخارج ، ولذلك قاوم التونسيون حركة التّجنيس بشدّة درءا لخطر المتجنّسين من أبناء البلد التونسيين .
اليد الحمراء أرْعَبَت التونسيين ، وهي تَزُخُّ وابل الرّصاص من فوهات الرشّاشات في الأماكن العامة ، أو تُداهم ، وتقتحم بيوت الآمنين الأبرياء ، أو بيوت المشبوهين بالنشاط ضدّها ، فيكون القتل العشوائي ، اليد الحمراء أخطبوط أذرعه طويلة قَدَرَت على تنفيذ ما يفوق 200 عملية قتل واغتيال ، أنجزتها في خمس دول أوروبية ، ولم تسلم فرنسا من ذلك ، و نَفّذت اليد الحمراء 135 عملية خلال سنة 1960 ، أنجزتها باستعمال الرسائل الملغومة ، والقنابل ، والسيارات المفخّخة ، والتّسميم ، ورسائل التهديد ، وغيرها من وسائل الابتزاز الموجّهة ضدّ شخصيات مؤثّرة تتعارض مع مصالحها .
فرحات حشاد الزعيم النقابي المولود بجزيرة قرقنة التونسية سنة 1914 مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 ، سقط شهيدا مغتالا بضاحية رادس الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس ، أطلقت عليه عصابة اليد الحمراء ما يفوق 28 رصاصة في جسده ، وأخرى في دماغه للتّأكّد من موته ، ثمّ إلقاؤه في حفرة ، هي عملية وحشية انتقامية فرنسية ، جاءت إثر عملية نوعية أجْهَز فيها المقاومون التونسيون يوم 15 نوفمبر 1952 بقابس ، على ستّة عناصر من الجيش الفرنسي ، وكان فرحات حشاد قد موّل المقاومين بــ 330ألف فرنك فرنسي .
ارتكبت عصابة اليد الحمراء الفرنسية جريمتها الوحشية عن سابق إضمار وترصُّد ، إذ أوْفَدت باريس ــ بإذن وعلم من رئيس فرنسا آنذاك ، ووزارة الخارجية الفرنسية ، والمقيم العام الفرنسي بتونس ــ عناصر مخابرات سرية إلى تونس بغية مراقبة فرحات حشاد ، وتحديد اتصالاته ، وعلاقاته ، ومجالات تحركاته في المكان والزمان ، لأنّ الضحيّة المُستَهدَفة ليس فر دا عاديا نَكِرة ، بل هو وطن : هي تونس لكنها أوطان واسعة تخشاها فرنسا ، وتأكد ذالك إثر اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشات يوم 5 ديسمبر 1952 ، احتجّ الوطن الأم تونس وأحرار في أوطانهم كالمغرب والجزائر … وسائر البلدان العربية ، وأروبا ،وأمريكا، وآ سيا .
الفرد الزّعيم المُغتال لم يكن وطنا ، بل هو أوطان ، اعتقد المهندسون و المنفّذون للعملية أن الأصوات الحرّة ستموت ، وأن الخنوع سيسيطر على عموم التونسيين خوفا من بطش عصابة اليد الحمراء ، وهي اليد السّريّة ، الطويلة ذات القدرة العجيبة في رصد ، وخنق كل نَفَس تونسي ثوري تحرري ، غير أن هذا الاعتقاد كان وهْما لأن الروح الوطنية كانت شرارة ، لا تنطفئ في أعماق الوطنيين التونسيين الذين تكتلوا يدا وروحا واحدة ، ثم هبّوا لمقاومة المعتدي في فترات مختلفة الى حين رحلت الجحافل الفرنسية محمّلة بهزائمها المادية ، والنفسية وقد قهرتها ثلّة من الأحرار التونسيين رغم قلّة العدد ، ومستوى القدرة القتالية بالمقارنة الى جيش فرنسي نظامي مدرّب على أحدث الأسلحة ، خلال سنوات الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم .
رحل الاستعمار مرغما في ظل متغيّرات عسكرية وسياسية بإفريقيا والهند الصينية ، ولكن ما يزال الحنين يراود بعض عناصره التّوّاقين إلى مصّ دم الشعوب الأخرى ، وقد نالت استقلالها ، وبنت كيانها الوطني الحديث بعرق أبنائها ومقدراتها الوطنية ، ورصيدها الوحيد هي الثروة البشرية تلك الثروة الفعالة التي لا تقهر ، ولا تهاب العراقيل المادية والمعنوية التي تزرعها أذرع الاستعماريين الجدد من أبناء الوطن ــ أي الوكلاء بالنيابة عن الاستعمار ــ في محاولة لزرع بذرات الشك من خلال الأراجيف المختلفة ، وتحت شعارات رنانة مسترابة .
اليوم وقد مضى على أكثر من نصف قرن على استشهاد الزعيم النقابي فرحات حشاد ، ولم يخجل عنصر الاغتيال في اليد الحمراء الضابط الفرنسي انطوان مليور Antoine Méléro ، وقد صرّح في شريط وثائقي بثّته قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 18 ديسمبر 2009 قائلا «إنّ ما قمنا به عمل شرعي ، ولو كان ينبغي إعادته سأعيده » ونشر بعض التفاصيل في كتابه الصادر سنة 1997 ، بعنوان : اليد الحمراء : الجيش السّري للجمهورية ، La main rouge , l’armée de la République Secrète ، لم يعبّر عن ندمه ، بل اعتبر اغتيال الوطنيين التونسيين واجب وطني ، وهو تحت الطلب إن طُلب منه الفِعْلَة مرة ثانية ، فلن يتراجع عن تنفيذ الجريمة بدم بارد من أجل خدمة الجمهورية الفرنسية ، وهو دليل على تشبّع عقيدة المخابرات الفرنسية ، وتعوّدها على التّلذّذ بإراقة دماء الآخرين .
إن الاستعمار الفرنسي ـــــ إلى يومنا هذا ــــ مسؤول عن أرواح شعوب البلدان الواقعة سابقا تحت سيطرته ، وهي اليوم مُلحقة به رغم وثائق الاستقلال المشبوهة المبرمة بينه وبين بعض البلدان المغاربية ، الاستعمار الفرنسي مُطالب بجبر الضرر مهما كان نوعه الذي لحق بتلك الشعوب ، والحالة التونسية واحدة منها ، وهو ما يستوجب من فرنسا بلد الحريات والشعارات الانسانية الجميلة أن تفتح الملفات المتعلقة بالجرائم المنظمة في حق الوطنيين التونسيين التي اقترفتها أجهزتها البوليسية واستخباراتها العسكرية على التراب التونسي ، أو على تراب آخر غير حدودها الجغرافية .
إن أرشيف الأجهزة الأمنية والعسكرية الفرنسية يزخر بتلك الجرائم ، وكذالك الذاكرة التونسية ، والأرشيف الوطني التونسي ، رغم مصادرة ، أو نهب أجزاء منه خلال الحقبة الاستعمارية ، أو ما تلاها في فترات ، تمّ خلالها إتلاف الحقائق التي لا تروق لفرنسا ، أو لوكلائها بتونس بعد رحيلها العلني ، ولكن عديد الوثائق تنطق صراحة بجرائم فرنسا الاستعمارية على التراب التونسي وغيره في أنحاء العالم .
في حوزة الأرشيف الوطني التونسي حالات مرعبة ، اقترفها رجال فرنسيون متمرّسون في فنون القتل ، واختطاف الاشخاص ، اختفوا دون رجعة ، الدولة الفرنسية المُستعمِرة مطالبة بالكشف أيضا عن أولئك المواطنين التونسيين الأموات ، والأحياء منهم ، والحال أنّ مثل هذه الجرائم الاستعمارية الفرنسية لا تسقط بالتقادم ، أو الإنكار ، ممّا يدعو فرنسا اليوم أن تتعامل مع ملفات القتل الجماعي ،أو الفردي ، أو اختفاء الاشخاص ، أو إجبار المجنّدين التونسيين على القتال من أجل فرنسا ، طبق القوانين الدولية ، متى رفع المتضرّرون دعاوى قضائية لجبر الضر ر بأنواعه ، وليست حالة الشهيد فرحات حشاد بمعزل عن مجمل الجرائم الاستعمارية الفرنسية المرتكبة في تونس ، لأنّ اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد هي محاولة يائسة لاغتيال الوطن تونس ، قُدرة الشعب التونسي هي الأقوى في كسب إرادة الحياة .
مضى على استقلال تونس خمسة أشهر ونصف سنة 1956، إثرها غادر بعض القتلة الجناة : عصابة اليد الحمراء ، فرنسيون وتونسيون التراب التونسي في اتجاه فرنسا ، بعد منحهم السراح الشرطي من وزير الداخلية الطيب المهيري (1924 ــ 1965)وطبعا بإذن من الرئيس الحبيب بورقيبة (1903 ــ 2000) ، وفي الواقع هي عملية تسليم المجرمين الى فرنسا ، وهو ما يكشف أنّ الاحتفاظ بالقتلة بالسّجون التونسية تحت اشراف فرنسي قبل الاستقلال كانت حماية للجناة خشية الانتقام منهم بالتراب الفرنسي أو التونسي .
تذهب جلّ الدّراسات التاريخية ، والسياسية أنّ رائحة صفقة سرّية تمّت بين فرنسا ، و بين بعض الوجوه السياسية في وتونس قبل الاستقلال وبعده ، تمّ بموجبها تسليم القتلة الى فرنسا ، وهو ما يرجّح ضلوع ، أو علم الحبيب بورقيبة بمخطّط لتصفية فرحات حشاد ، كي لا يزاحمه في الزّعامة في تلك المرحلة الحاسمة من سنوات التحرر الوطني .
الرجلان يختلفان في الأصول والتحصيل العلمي ، فرحات حشاد من أصول عربية اسلامية ، ومن بيئة محافظة ، تحصيله العلمي ، التعلّم بالكتاب ، اجتاز مناظرة السادسة ابتدائي ، هو عصامي التكوين ، عفوي المنهج ، أما الحبيب بورقيبة فهو ينحدر من أصول أوروبية ، وتحديدا بعض أجداده من ألبانيا ، وتحصيله الأستاذية في القانون من جامعة الصوربون الفرنسية ، مقترن بفرنسية أرملة ضابط عسكري فرنسي سقط في الحرب العالمية الأولى سنة 1918 ، وهو المحامي بتونس ، والصحافي ، مُقلّد جيّد لما هو أوروبي فرنسي ، رافض لما هو عربي إسلامي أصيل .
نَهَجَ فرحات حشاد المسلك الوعْر ، وهو الكفاح المسلح المغاربي ، وعكْسه الحبيب بورقيبة نهج مسْلك المفاوضات السلمية مع فرنسا ملخّصة في كلمتين : خُذْ وطالبْ ، أي القبول بأنصاف الحلول التي يرضاها المستعمر ، وخاصّة ميْله المبكّر ، القبول بإسكات بنادق الثوار ، وهو ما نهض به حين ألزم الثوار التونسيين بتسليم أسلحتهم سنة 1954 مقابل الاستقلال الداخلي لتونس ،وهو ما فسح المجال بأن تستفرد فرنسا بثورة الجزائر ، وهي آمنة من الجانب التونسي ، ورغم ذلك التحق بالثورة الجزائرية متطوّعون تونسيون ، وقدّم آخرون مساعدات جليلة لثوار الجزائر رغم يقظة فرنسا ، وعملائها داخل التراب التونسي بعد استقلال تونس 1956 .
ولذلك قررت فرنسا تصفية حشاد ، المرحلة لا تستدعي زعيميْن ، زعيم يناهضها العداء التام ، وهو فرحات حشاد ، خطّه ثوري مسلح ، وهو ما تخشاه فرنسا ، فكان ميلها إلى صنيعتها الحبيب بورقيبة الذي قد بيّضت تاريخه النضالي بإدخاله السّجون ، وإلزامه المنافي ، وفي الواقع كانت تحميه كي لا يقع صيده ، باعتباره رجل المستقبل السياسي في تونس ، وردّا لجميلها خلال حكمه (1957 ــ 1987) أعلن طيّ صفحة الماضي الأليم مع فرنسا ، وأسكت ، بل عاقب كلّ تونسي يناهض فرنسا خشية إفساد الودّ بين البلدين ، وتودّدا لها لم يطالب فرنسا بالاعتذار أو جبر الضرر ، الذي لحق بتونس خلال الحقبة الاستعمارية عكس فرنسا نفسها التي حصلت على تعويضات من ألمانيا جبرا للضرر الذي لحقها خلال الحكم النازي بألمانيا ، وكذلك عكس بلدان أمريكا اللاتينية التي حصلت على جبر الضرر من إسبانيا مقابل احتلالها لتلك البلدان ، وحصلت ليبيا على تعويضات من إيطاليا مقابل الاحتلال حين حكم الفاشية بايطاليا .
لم يطالب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (1936 ــ 2019)فرنسا بالتعويضات ، وقد علت في عهده أصوات تطالب بذلك ، ولكنه غضّ الطّرف رغم أنّه كان صنيعة أمريكية ، ولم يكن صنيعة فرنسية ، وهو المتدرّب بثكناتها أثناء تربّصاته المهنية العسكرية حين توفده وزارة الدفاع لكسب الخبرة .
ظل الاتحاد التونسي العام للشغل رمزا نضاليا وقّادا ، يستمد نوره من دم الشهيد فرحات حشاد ، أزعج سلطة بورقيبة الحاكم المطلق ، ولكن بدأ نوره يتضاءل إلى مرحلة الخفوت حين أمسك بزمامه نقابيون انتهازيون سماسرة ، دخلوا في مساومات مع السلطة عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، فنال بعض رموزه مناصب ، ومكاسب هي بمثابة رشاوى مقابل اغتيال ضمائر النقابيين الوطنيين ، أصبح الاتحاد التونسي للشغل وكرا هائلا للمحتالين والنّصابين ، الذين يتلقّفون أموالا طائلة من الاتحاد تحت تسميات مختلفة ، وينزوي البعض منهم في مَقَاه ــ ليست بالبعيدة عن مقرّ الاتحاد بساحة محمد علي ــــ مُعتمة عَفنة يملأ جوفه مع زمرة من رهطه ببعض المُنْعِشات ، وسرعان ما يعلو الصّراخ ، والسّباب ، والشّتائم المُقذعة .
تنكشف أسرار الإتحاد العام التونسي للشّغل ، يتّهم الواحد منهم الآخر بالتّلصّص لفائدة فلان أو فلان ، أو لجهة حزبية ما ، أو شخصية أمنية ما ، ثم يستلّ أحدهم قلما ، وينزوي لتدبيج تقريره ـــ في شأن غريمه ، وأحيانا عدّة غرماء ـــ في ورقة راقية رسمية موشّاة بعلامات الاتحاد التونسي للشغل ، وبعد ذلك يدْمغها بخَتم ، يحمل اسمه وصفته النقابية ، ثمّ يستلّ ختما آخر ليدمغ التقرير ، وبه عبارة سرّي ، ولكنه سرعان ما يتدارك ويستلّ ختما آخر يحمل عبارة سريّ للغاية ، ويهرول النقابيان الثوريان ، وأحيانا عدة نقابيين يتسابقون نحو بناية رمادية ، أو مخفر أمن متداع للسقوط ، وأحيانا يدسّ أحدهم تقريره السري في جيب بعض الأشخاص من ذوي النّظّارات السّوداء الماكرة ، الواقف كالصّنم في زاوية الشارع متظاهرا بقراءة جريدة ،وهو متّكئ على حاوية قمامة ، النّظّارة السّوداء تخفي حقيقة العيون ، درجت المخابرات في العالم على التّخفّي بها .
تلك حالة نادرة ، ومازالت حالات أخرى تستحقّ التّدوين ، قد ألحقت وصمة عار بالاتحاد العام التونسي للشغل بعد انحراف مساره النضالي المتمثّل في الدفاع عن حقوق منظوريه ، ثمّ القيام بهام ليست من تقاليده ، بل هي من اختصاص جهات أخرى ، أصحاب التقارير ــ سري للغاية ــ المحسوبين على النضال النقابي في عديد القطاعات بارعون في تعليق صورة فرحات حشاد : المجسّم الصغير الحديدي على أثوابهم ، وقد تكون الصورة مطرّزة على الثوب ، وهي طريقة للتعريف بأنّ ذلك الشّخص هو نقابي فحل مقدّس ، وريث دم الشّهيد فرحات حشاد ، لكن دماء الشهداء لا تورث ، هكذا نماذج من النقابيين لا تشرّف تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل ، بل أنّ سلوك بعض النقابيين يكشف أن جهة ما تقف وراء تشويه مسيرة الاتحاد ورموزه ، بهدف إطفاء أيّ نفس ثوري وطني حقيقي ، قد تكون لعنة اليد الحمراء والمخابرات الفرنسية معا وراء ملاحقة فرحات حشاد حيّا وميّتا من خلال بروز طفيليات نقابية بساحة محمد علي ، هي بمثابة جائحة ديكتاتورية تصفّي الأجسام السّليمة ، وتبقي الأجسام السّقيمة لخدمة أهدافها .