كلمة رئيس التحرير : الهادي غابري
انبلج صبح العرب ــ فجأة ، ذات يوم 17 ديسمبر 2010 ــ بمحافظة سيدي بوزيد الواقعة في الوسط من الجغرافيا الطبيعة للبلاد التونسية ، هو صبح غريب ، أقدم خلاله الشّاب بائع الخضار طارق بن الطيب بن محمد البوعزيزي (1984 ــ 2011)على إضرام النّار في جسده أمام مقرّ المحافظة مركز السلطة السياسية ، احتجاجا على مصادرة رزقه من قبل أعوان تراتيب البلدية .
عندها عرفت المحافظة ، وغيرها من المدن التونسية أضخم ، و أقوى حراك شعبي سلمي ،عفوي دون قيادة ، ودون برنامج ، وهو ما يؤكّد أنّ نشوب الثورات الشعبية الفجائية لا تستدعي قيادة ، أو زعامة معلومة ، ولا برنامجا ايديولوجيا ، أو منظّرا مفكّرا ، باعتبارها ثورة وليدة اللّحظة ، ولكن هناك عوامل متعدّدة ممهّدة للثّورة الشّعبية ، هي بمثابة مخزون غضب ، متراكم عبر الأجيال في الذّهن الجماعي ، في حينه ينبجس الغضب شرارة متشظّية يطالب برحيل النّظام ورموزه ، هاتفا بشعار موحّد : الشّعب يريد إسقاط النّظام … إرحل … إرحل … تلك هي فرادة الثورة التونسية العفوية .
بسرعة وتلقائية ، سرى الغضب والشّعار في مصر، وليبيا ، واليمن ، وسوريا ، والبحرين، والسودان ، والجزائر، ولبنان ، والعراق ….، رقعة عربية واسعة وحّدها قهر الحكّام العرب المستبدّين ، الفاسدين ، وهم وكلاء الاستعمار المتنوّع ، كان ألمُ الرّقعة العربية واحدا ، وغضبها واحدا ، وطّلبها واحد ا ، يتمثّل في اجتثاث أنظمة الاستبداد .
لم تعرف الرّقعة العربية ــ منذ نصف قرن ــ مثل هذا الحراك الشعبي الغفير الميداني الجماعي ، هو حراك ملايين البشر الغاضبة العصيّة على التّعداد ، هو حراك يتجاوز بعض ملايين العرب المحتجّين ضدّ العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 ، وهو حراك يتجاوز عدديا دعْم ملايين العرب للثورة الجزائرية سنة 1954 ــ 1962 ، ويتجاوز أيضا الدعم البشري العربي المتجدّد للثورة الفلسطينية منذ 1948 ــ إلى اليوم ــ ، ويتجاوز الحراك الشعبي الثوري العربي لسنة 2011 ذلك العدد بالملايين في تشييع جنازة الرئيس المصري جمال عبد الناصر( 1918 ــ 1970).
25 جانفي / يناير2011 انطلقت ثورة مصر عفوية سلمية هدفها إزاحة الحاكم العسكري المشير حسني مبارك (1928 ــ 2020) منعا لتوريثه الحُكم لأحد أبنائه ، وفي الإجمال: هي ثورة ضد الاستبداد والفساد ، صمد المصريون 18 يوما ، فخُلِع خلالها الدّيكتاتور حسني مبارك ، وقبع في السّجن مع ولديْه ، وبعض رموز نظامة ، للمثول أمام القضاء .
عرفت مصر تحت سلطة العسكر نوافذ مضيئة وطنية مشرّفة ، خاصّة في مقاومة الحركة الصهيونية ، وتقديم المساعدة العسكرية والمادية ، والإعلامية لحركات التحر العربية : فلسطين ، الجزائر ، تونس ، المغرب …خلال سنوات الخمسينيات ، وما تلاها ، ويُضاف إلى ذلك نشوء نّهضة فكرية وثّقافية شعبية مصرية ، كان لها الفضل في تغذية ، وتنوير العقل العربي المسدود بالجهل والفقر والمرض ، ورغم ذلك النّور المشعّ سقطت مصر في المحظور السياسي بإبرام الرئيس المؤمن محمد انور السادات (1918 ــ 1981) معاهدة سلام مع العدو الصهيوني سنة 1979 فلقي مصرعه برصاص الضابط خالد الاسلامبولي (1958 ــ 1982)أثناء العرض العسكري المُقام بمدينة نصر إحياء لذكرى حرب 6 تشرين / أكتوبر 1973 ، ونتيجة ذلك ظلت علاقات مصر مع العدو الصهيوني شكلية ، محصورة في مستوى الإعلام السياسي ، والتّمثيل المكتبي الديبلوماسي المحتشم ، والمطوّق بأجهزة أمنية ، ومراقبة تقنية عالية ، خشية هبّة جماهير مصر بغتة ، فتعصف بمكاتب التّجسّس الصّهيونية ، كما حصل لتلك المكاتب خلال الثورة الاسلامية الايرانية سنة 1979 .
لم يستسلم المصريون لنظام الحكم العسكري منذ ثورة الضباط الأحرار والإطاحة بسلطة آخر ملوك مصر ، الملك فاروق (1920 ــ 1965) سنة 1952 ، بل ناهض المعارضون السلطة العسكرية ، سرّا وعلنا ،وبأشكال مختلفة ، كالنّكتة السّياسية السّاخرة ، أو الوشوشات ، والهمسات دلالة على غياب الديمقراطية ، وفقدان حرية التعبير، ومنع تعدّد الاحزاب ، تراوحت المعارضات في مصر بين المسلّحة العنيفة ، وبين أخرى فكرية سلمية ، وفق ايديولوجيا اسلامية ، أو يسارية شيوعية ، كانت المحاكمات جائرة ، وقاسية قاضية بالإعدام ضدّ المعارضين ممّن علقت بهم تُهم العنف المسلّح ضدّ سلطة العسكر .
ولأوّل مرّة في تاريخها المعاصر ، يتولّى الحكم في مصر رئيس مدني منتخب ، وهو محمد مرسي (1951 ــ 2019)، لم يستمتع المصريون بلذة الحلم ، ففي سنة 2013 ، وبدعم استخباراتي وتقني ، سرّي وعلنيّ من الكيان الصّهيوني وأمريكا ، وأساسا بدعم مالي سخيّ خليجي مصدره : المملكة العربية السعودية ، ودولة الامارات العربية ، ومملكة البحرين ، تمكّن العسكر في مصر من الاستحواذ بالقوّة على كرسي الحكم الهزّاز ، إثر انقلاب الرّئيس الحالي المشير عبد الفتاح السيسي (1954 … ) على الحكم المدني ، والزّجّ بالرّئيس المنتخب محمد مرسي داخل أقبية السّجون المرعبة إلى أن فارق الحياة ، وهو في قاعة المحكمة.
روّع انقلاب المشير عبد الفتاح السيسي ، آلاف الثوّار العزّل المتجمّعين والمعتصمين في ميدانيْ رابعة العدوية والنّهضة ، وقتّلهم بوحشية دهسا تحت : دواليب سيارات فخمة ديبلوماسية أجنبية ، ودواليب الشّاحنات العسكرية الثّقيلة ، ودواليب سيّارات الشّرطة … بل دهست الدّبّابات والمدرّعات العسكرية الأعداد الغفيرة من البشر.
أعتى بلطجية القاهرة ومجرميها ، اعتلوا أسنام الإبل ، وظهور الحمير ، والبغال ، وصهوة الخيول ، فداست أخفاف ، وحوافر تلك البهائم خلقا كثيرا ، بل استهدفت تلك الحيوانات البشر بالعضّ ، والصّكّ ، ومن حاول النّجاة ألقَمَه البلطجيّ الفهلوي بهراوته ضربة قاتلة ، أو غرس فيه خنجرا، أو سيفا ، سالت دماء كثيرة لوّنت المكان ، وهي شاهدة على عنف العسكر الانقلابي ، لاحقت سلطة العسكر النّاجين والمشبوهين ، وأودعت منهم أعدادا غير معلومة بالسّجون في ظروف قاسية ، منافية لحقوق الانسان ، حيث لقي البعض هناك حتْفه ، في حين اختفى آخرون .
طعنات مسمومة بمال النفط الخليجي ،عمّقتها سلطة العسكر القمعية ، فأثخنت ظهر الثورة المصرية ، وكذلك أثخنت ظهر الثورة التونسية ، من خلال الثورة المضادّة بتمويل خليجي إماراتي سعودي من شأنه اجبار التونسيين على الإحساس بالنّدم على مسلك الثورة ، باعتبارهم مصدر البلاء الثوري الذي قد يطال عروش الخليج القبيلة الهشّة ، ولذلك بادرت دول النفط بشراء ذمم بعض التونسيين ، ومكّنتهم من حوافز مالية لتمويل أحزابهم المشبوهة داخل مجلس النواب التونسي ، لينهضوا بدور المهرّج أو المهرّجة ، وكذلك أسندت لبعض المخربشين التونسيين في الشأن الأدبي كالرواية والترجمة منذ سنة 2015 جوائز مالية رائحتها نفط ، واعدة المخربشين بالحصول على الجنسية في حال اجتهادهم ، وتقزيمهم للثورة التونسية ، وتخريبهم عقول الأجيال في الجامعات ، أسوة بإجهاض الثورة المصرية .
الثورات مسارات ، هي كموج البحر تنكسر ، ولا تنهزم ، يثور الموج حين تكون العاصفة ، وكذلك هو شأن الثورة في تونس ومصر، وفي غيرهما من البلدان العربية الثائرة ، أو في تلك البلدان ، وهي تترقّب الفرصة للثورة على الاستبداد ، وأساسا في دول الخليج المرعوبة من هبّة شعبية فجائية ، تعصف بالكرسي السلطاني الهزّاز ، وعندها لن يُنجد الرّاعي في الغرب وكيلته الخليجية في الشّرق ، بل يتركها تغرق … وتغرق ، وفي غرق احدى دول الخليج ، تغرق فورا بمصر سلطة الثورة المضادة ، و آنذاك لن تنفعها تلك الأسلحة الغربية التي دفع ثمنها باهظا السيسي من قوت الشعب المصري بهدف قمعه ، و الحال أنّ السيسي فخور بلقب الدّيكتاتور المفضّل الذي منحه إيّاه الرئيس الأمريكي ، الإنسان البرتقالي اللون ، دونالد ترامب (1946 … ) donald trump المنتهية ولايته بتاريخ 20 جانفي 2021 .