بقلم مالك التريكي
كاتب تونسي
للملك فيصل في قلوب العرب والمسلمين مكانة لا يدانيه فيها أي ملك سعودي آخر من قبل ولا من بعد. فقد اقترن اسمه بالثبات على المبدأ في قضية الحق العربي والإسلامي في فلسطين وبشجاعة الموقف في استخدام سلاح النفط أثناء حرب رمضان. كما كان له، منذ أن كان أميرا شابا ووزير خارجية نابها في الأربعينيات والخمسينيات، دور معروف في نصرة حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي. والمعلوم من سيرته، رحمه الله، أنه كان من أهل العقل والفضل وأنه كان قوي الوعي بخطر المسؤولية التي ينبغي على دولة أرض الحرمين أن تضطلع بها في القضايا الإسلامية المصيرية.
لهذا لم يكن من المفاجئ أن يصرح الأمير تركي الفيصل لقناة «سي ان بي سي» الأمريكية بأن والده كان سيصاب بالخيبة لو أنه علم بعمليتي التطبيع العلني الأخيرتين. وما كان للأمير تركي أن يقول خلاف هذا، خصوصا أنه لم يعمد من تلقاء نفسه إلى التذكير بمواقف والده المعروفة، وإنما هو اضطر للخوض في هذا الشأن عندما ابتدرته المذيعة سائلة: «هل تعتقد أن والدك الملك فيصل كان سيصاب بخيبة الأمل بسبب توقيع اتفاقية السلام بين الإمارات والبحرين وإسرائيل بدون مقابل للفلسطينيين في إطار حل الدولتين؟» فكان الجواب دقيقا في فحواه أمينا في مغزاه.
إذ أيّا كانت قوة توجهات الحكم الحالي في السعودية نحو التطبيع العلني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأيا كانت درجة رهبة الأمراء والشخصيات العامة في السعودية من ولي العهد (الذي ذكرت الأنباء المتواترة أنه يتعجل التطبيع العلني في أقرب فرصة وأنه ليس هنالك الآن ما يعوقه عن ذلك إلا اعتراض والده) فإنه لا يسع الأمير تركي أن يهون من الأمر ويقول إن والدي الملك فيصل ما كان ليرى أي سبب للخيبة والخذلان، بل إنه كان سيتخذ موقفا مماثلا لموقفي: أي اعتبار ما فعلته الإمارات والبحرين مع دولة الاحتلال مجرد ممارسة لـ«حق سيادي». فقد أجاب الأمير تركي عندما سئل عن موقفه الشخصي: «السلام مع إسرائيل حق سيادي للإمارات والبحرين ولا أحد يستطيع أن يعارضهما. كما أنهما لم يتخليا عن إرساء السلام الدائم والشامل في المنطقة، بل أكدا على ضرورة أن يكون هنالك حل يأخذ بالاعتبار إقامة دولة فلسطينية، عاصمتها القدس، على أساس مبدأ حل الدولتين».
يحسب للأمير تركي إذن أنه التزم الدقة في الإجابة. ولكن هذه الدقة أوقعته في مناقضة صريحة، بل صارخة، لموقف والده. وكأن هذا لا يكفي، فإنه ما لبث أن ناقض موقفه الشخصي، الذي عبر عنه قبل ذلك بلحظات، عندما أضاف: «السؤال الذي يطرح الآن هو: كيف سيؤثر ذلك في موقف إسرائيل، لأنها هي الجهة المطلوب منها أن تستجيب لما طرحه العرب من مبادرات للسلام منذ عام 2002 عندما قدم الملك عبد الله رحمه الله المبادرة التي أصبحت مبادرة السلام العربية. إسرائيل لم تقبل حتى اليوم بالمبادرة واستمرت في أعمال الاحتلال في فلسطين».
إذ كيف يستقيم الأمر بين قول الأمير تركي، من جهة، إن إسرائيل لم تقبل مبادرة السلام العربية (التي أيدتها جميع الدول العربية في مؤتمر بيروت) وقوله، من جهة أخرى، إن في وسع الإمارات أو البحرين (أو، بالتالي، أي دولة عربية أخرى) أن تطبّع إن أرادت لأن التطبيع حق سيادي؟! إذا كان من المعقول والمقبول الجمع بين هذين النقيضين، ففيم تجشم عناء إطلاق مبادرات وإصدار قرارات رسمية في الجامعة العربية؟ وهل بقي من قيمة لمبادرة عمه الملك عبد الله إذا كانت هذه المبادرة الإجماعية ستبقى عرضة لاستثناءات الحق السيادي والتطبيع الانفرادي؟
على أن لتصريحات الأمير تركي، إضافة لما سبق، دلالة أخرى تتعلق بظاهرة أعم. إنها انقطاع الاتصال بين الأجيال السياسية وانكسار حلقات الاستمرارية التاريخية. ولا تقتصر هذه الظاهرة على العالم العربي المنكوب بحكام جدد لم يبلغوا سن الرشد السياسي، بل إنها بدأت تطال العالم الغربي الذي كان من المفترض أن تكون آلياته الديمقراطية ضامنة لاختيار الأكفأ والأجدر والأثبت على المبادئ.
ومن علامات ذلك أن من المؤرخين البريطانيين من يقول إن كلا من إدوارد هيث، الذي أدخل بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وغريمته مارغريت تاتشر، التي اشتهرت بالشدة والحدة في الدفاع عن المصالح البريطانية في بروكسل، يتململان الآن في قبريهما لفرط ما أظهره بوريس جونسون من التذبذب والتخبط إضافة للتنكر لتراث حزب المحافظين القائم على الواقعية والبراغماتية والاعتدال. كما أن البرلماني أندرو أدونيس قال في كتاب جديد عن سيرة أرنست بفين، وزير خارجية بريطانيا من 1945 إلى 1951، إنه لو عاد هذا الزعيم العمالي اليوم إلى الدنيا فإنه ما كان ليعرف حزب العمال إن رآه…!