في ديسمبر 2010، أضرم محمد البوعزيزي، الذي كان يبيع الفواكه على عربة متجولة، النار في نفسه احتجاجًا على الفقر والمهانة، ليطلق بذلك شرارة ثورة الياسمين، التي وصلت رياحها كافة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقبل ذلك أنهت الحكم البوليسي لزين العابدين بن علي، بعد 23 عامًا من الاستبداد والفساد في تونس، انتهت بهروبه.
مر ما يقرب من 10 سنوات على هذه الثورة، وحدثت أشياء كثيرة خلال هذه المدة في تونس.
عُقدت انتخابات حرة عديدة، وكُتب دستور جديد، وتقلد ثلاثة رؤساء منتخبون السلطة، ولم تنتكس ثورة الكرامة كمثيلاتها، بالرغم من حوادث اغتيال المعارضين والهجمات المسلحة، ومع ذلك لم تتحسن بعد الأوضاع الاقتصادية لعموم التونسيين.
حسنت تونس بدرجة كبيرة على عدة مستويات بعد الثورة، إذ أصبحت تتصدر البلدان العربية في مؤشر الحريات للعام الخامس على التوالي حسب منظمة «فريدم هاوس» الدولية، وتحتل الرتبة الأولى عربيًا في مؤشر الديمقراطية في تصنيف مؤسسة «إيكونوميست» البريطانية، كما تتقدم على بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حرية الصحافة وفق تقرير «مراسلون بلا حدود».
لكن، لا يزال اقتصاد تونس يتخبط في مشاكل جمّة، فكما تظهر أرقام البنك الدولي ارتفعت البطالة من 12% قبل الثورة إلى 15% حاليًا على الصعيد الوطني، وهي أسوأ بكثير في المناطق الداخلية الفقيرة في تونس، حيث تجاوزت 30% في بعض البلدات. أما الدين العام فقد ازداد بنسبة 95% بين عامي 2010 و2019.
فيما لم تتعد نسبة النمو في السنوات الأخيرة 2% بعد أن كانت تبلغ في المتوسط 4.7% قبل سنة 2010. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع التضخم وزاد العجز التجاري وتراجعت احتياطات العملة الصعبة؛ وهو ما يضع الحكومة التونسية في وضعية لا تحسد عليها داخليًا وخارجيًا.
هل تقود الديمقراطية بالضرورة إلى النمو الاقتصادي؟
إبان 2011، كان الرفاه الاقتصادي يلوح في أفق أحلام الشباب التونسي، فالثورة أسقطت ديكتاتورية بن علي وفتحت الحريات على مصراعيها، ولم يعد أمام تونس سوى إشعال محرك الديمقراطية لينطلق بها سريعًا نحو دولة الرفاه على غرار ديمقراطيات أوروبا، لكن ذلك لم يتحقق بعد عقد من الزمن، وهو ما جعل الشباب التونسي يتجرع خيبة أمل مريرة، وأصبح بعضهم يغامر بركوب الأمواج للهروب من البلاد.
يعود هذا الارتباك إلى التصور الشائع الذي يربط الديمقراطية بالرفاهية الاقتصادية، بينما في تجارب الواقع لا تقود الديمقراطية دائمًا إلى الثراء العام.
أخرجت بعض الديكتاتوريات المستنيرة الملايين من الفقر المدقع، كما الحال في الصين، وسنغافورة التي حكمها لي كوان يو، وتشيلي تحت قيادة الجنرال بينوشيه، في حين لم تتحسن كثيرًا بعض الديمقراطيات على المستوى الاقتصادي، مثل المكسيك، وبولندا، والأرجنتين.
لذلك ينظر العديد من المحللين إلى الديمقراطية على أنها عامل محايد ولا علاقة له بالنمو الاقتصادي.
مع ذلك، تخلص دراسة حديثة إلى أن البلدان التي تتحول إلى الديمقراطية تحقق زيادة بحوالي 20% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لكن هذا يحدث على المدى الطويل، بعد ثلاثة عقود تقريبًا. الخبر السار لتونس هنا هو أن الدراسة ذاتها تشير إلى أن التحسن الاقتصادي يسبقه انخفاض مؤقت من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة المبكرة للتحول الديمقراطي.
تكمن أهمية الديمقراطية اقتصاديًّا في أنها تفسح المجال للنمو الاقتصادي، إذا تزيل الحريات المدنية العراقيل المجتمعية والسياسية التي تكبل طاقات الأفراد، فيما تحد العدالة والانتخابات الشعبية من الصراع الاجتماعي الذي من شأنه أن يخرب بيئة الاستثمار، أما حرية الصحافة فتعمل على مكافحة الفساد وسوء الإدارة.
هذا يعني أن تونس، بصفتها ديمقراطية فتيّة، تمتلك الأرضية الخصبة للنمو الاقتصادي، بعكس البلدان المجاورة التي يكبلها الاستبداد من كل جانب، ويفترض منها أن تقوم بأداء أفضل على المستوى الاقتصادي، من أجل الحفاظ على استمرار ديمقراطيتها، إذ يعد النمو الاقتصادي عنصرًا حيويًّا لديمومة الديمقراطيات الناشئة.
لكن لماذا فشل اقتصاد تونس في الازدهار؟
بعد ثورة الياسمين بذلت تونس جهودًا كبيرة على المستوى السياسي، وعملت الأطياف المختلفة على تحقيق نوع من التوافق ودعم عجلة الديمقراطية بالرغم من الانقسامات السياسية الحادة، وكان لهذا أثر إيجابي على تعزيز الحريات ودحر الاستبداد. لكنها لم تعر اهتمامًا كبيرًا لحل مشكلات الاقتصاد التونسي العويصة، وبدلًا عن ذلك انغمست الأحزاب في خطابات الاستقطاب السياسي. وفي ما يلي ثلاث مشكلات عرقلت نمو الاقتصاد التونسي.
مناخ استثمار غير مشجع
ترتكز الديمقراطيات الليبرالية على فكرة أن التقدم الاقتصادي يأتي من السوق أساسا وليس من جهود التنمية التي تقودها الدولة، لذلك يتطلب من الأخيرة توفير بيئة شفافة وتنافسية لتشجيع الاستثمارات المحلية والخارجية.
ويبدو أن الحكومة التونسية فشلت في توفير مناخ مشجع على الاستثمار، فعلى عكس مؤشر الحريات والديمقراطية، احتلت تونس رتبة متأخرة عربيًا (المرتبة التاسعة) وعالميًا (المرتبة 87)، في مؤشر التنافسية العالمية لعام 2019 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، والذي يعتمد في تصنيفه على على 12 معيارًا، وهم: المؤسسات، والبنية التحتية، وبيئة الاقتصاد الكلي، والصحة، والمهارات، وكفاءة سوق السلع، وكفاءة سوق العمل، وتطور السوق المالي، والاستعداد التكنولوجي، وحجم السوق، وتطوير بيئة الأعمال، والابتكار.
كما تصاعدت المحسوبية واستمر الفساد في تونس، حتى بعد زوال نظام بن علي، فصارت تتبوأ المرتبة السادسة عربيًا و74 عالميًّا في مؤشر الفساد العالمي لعام 2019؛ إذ ظل النسق السياسي بالرغم من تغيره مرتبطًا بالفساد والامتيازات؛ مما يؤثر سلبًا على مناخ الاستثمار.
وعوض العمل على تهيئة بيئة جيدة للاستثمار، ذهبت حكومة تونس في طريق آخر من أجل تنمية دخل المواطنين، من خلال خلق وظائف كثيفة العمالة وزياد أجور الموظفين الحكوميين، بدل تشجيع الإنتاجية والابتكار في السوق، وتصدير المنتجات للأسواق الأوروبية القريبة.
وفي هذا الصدد يعتقد إسحاق ديوان، بروفيسور الاقتصاد في جامعة باريس، أن الحكومة التونسية أخطأت في التوجه نحو الإنفاق العام المفرط، فاختارت كل حكومة تقلدت السلطة الطريق السهل لنيل الشعبية، عبر الإسراف في النفقات العمومية، وشلَّت الحسابات السياسية قدرة الأحزاب على معالجة التحديات الاقتصادية المهمة التي تواجه البلاد.
ومن ثم ارتفعت النفقات العامة من 24% إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2011 و2018، وازدادت كتلة أجور الخدمة المدنية من 11% إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2010 و 2018، وأقيمت حملات توظيف كثيفة من قبل الشركات المملوكة للدولة. كل ذلك أدى إلى استنزاف خزينة الدولة؛ مما فاقم الديون الخارجية وعمّق العجز التجاري، وقلّل من الأموال الحكومية المخصصة للاستثمار ودعم المقاولات الصغيرة.
اللامساواة المجالية
عندما اندلعت الاحتجاجات في 2011، انطلقت في البداية من سيدي بوزيد والمناطق الهامشية والقروية في تونس، التي ظلت تعاني لعقود من سياسات الإقصاء والتهميش في ظل نظام بن علي، لكن الوضع لم يتحسن كثيرًا لهؤلاء حتى بعد الثورة.
بل أضحت اللامساواة الجهوية أكثر بروزًا منذ 2011 ، إذ يتركز الفقر والبطالة بشدة في المناطق الداخلية، التي تضم ثلث سكان تونس، ويفتقد سكانها إلى الخدمات العامة الجيدة وفرص العمل والبنية التحتية، لعدم وجود أي استثمارات أو أنشطة اقتصادية هناك باستثناء زراعة بدائية لا تدر دخلًا، في حين يحظى قاطنو المناطق الساحلية والمدن الكبرى بالخدمات العامة الجيدة وسوق العمل؛ مما جعلهم يعيشون في رفاهية نسبية مقارنة بالقرى والمناطق الداخلية التي ظلت تعيش الحرمان.
عملت الحكومة التونسية منذ 2011 على زيادة الإنفاق الاجتماعي بكرم، انصب معظمه في دعم الوقود والتوظيف وزيادة الأجور، لكن لم يستفد من هذا الإنفاق سوى سكان المدن الساحلية وشركاتها، الذين يحظون بفرص الوصول بسهولة إلى الخدمات ومراكز التوظيف والشركات، بعكس سكان المناطق الداخلية والقروية المحرومة.
ولّدت هذه التفاوتات المجالية الحرجة سخط التونسيين، ولا زالت تشعل بين الفينة والأخرى اضطرابات اجتماعية في بعض المناطق الداخلية، كما يحدث بشكل متكرر في قفصة وسيدي بوزيد، حيث يوبخ المتظاهرون عجز وفساد النخب السياسية، ويطالبون بالاستفادة من ثروات بلادهم كباقي المدن الساحلية.
وقد يكون الشعور بالفقر والحرمان نتيجة اللامساواة، أخطر من الفقر نفسه، وفي هذا الشأن يقول كيث باين عالم النفس الاجتماعي من جامعة نورث كارولينا: «عندما يتم تذكيرنا بأننا أكثر فقرًا أو أقل قوة من الآخرين، نصبح أقل صحة وأكثر غضبًا، وعرضة أكثر لأي استقطاب سياسي أو ديني أمامنا»، وهو ما يهدد استقرار وتماسك المجتمع، في حين أن الاستقرار السياسي والاجتماعي هو أمر ضروري للنمو الاقتصادي.
لذلك، ليس غريبًا أن نجد جل الجهاديين المسلحين في تونس ينحدرون من المناطق الداخلية الأكثر فقرًا، وتتفجر الاضطرابات الاجتماعية باستمرار في تلك المناطق، إذ إن الأفراد الذين يشعرون بالحرمان فيما يرون الآخرين يتمرغون في النعيم، يبحثون عادة عن طريقة لفهم العالم الذي يبدو غير عادل في نظرهم، وغالبًا ما يفعلون ذلك عن طريق العودة إلى الهويات القبلية، أو الأيديولوجية، سواء كانت سياسية أو دينية، وبالتالي يصبحون أكثر عرضة للاستغلال والاستقطاب.
العنف المسلح
تعرضت تونس على مدار العقد الأخير إلى عدة هجمات مسلحة عنيفة، كانت أبرزها الهجمات التي نفذها مسلحون من «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» على متحف باردو ومنتجع سوسة العام 2015؛ ما أسفر عن مقتل أكثر من 60 شخصًا.
وحفّزت النزاعات الإقليمية في سوريا وانهيار الوضع في ليبيا تكاثر الجهاديين في تونس، وفي هذا الصدد أفادت الحكومة التونسية أن حوالى 6 آلاف تونسي على الأقل غادروا البلاد للقتال مع «داعش»، كما باتت الحدود الليبية توفر مخبأ للجماعات السلفية المسلحة.
سبّبت العمليات المسلحة خسائر اقتصادية كبيرة لتونس على عدة مستويات، فمن جهة أولى تزايد الإنفاق العام على الجيش والأمن، ومن جهة أخرى تخرب العمليات المسلحة بيئة الاستثمار، وتبعد المستثمرين الأجانب الذين يبحثون دائمًا عن الاستقرار.
أما قطاع السياحة، الذي يُشغل 400 ألف عامل في تونس ويساهم بنسبة 7% من الناتج المحلي الاجمالي، فتراجع نشاطه بشدة، ويقف مترنحًا في كل حين أمام أي عنف مفاجئ.
ويقول المركز التونسي لليقظة والذكاء الاقتصادي، إن خسائر تونس بسبب حربها ضد الإرهاب تصل 580 مليون دولار سنويًا، أي ما يعادل 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي لتونس.
حققت تونس نجاحات كبيرة في جهودها في مكافحة العنف في السنوات الأخيرة، بفضل عمليات الجيش التي أدت إلى تقليص شبكات المسلحين في جميع أنحاء البلاد، بمساعدة المعلومات الاستخباراتية من الأمريكيين والأوروبيين؛ وهو ما قد يساعد الاقتصاد التونسي على التعافي مع مرور الوقت، وإن كان لا يزال الوقت مبكرًا للقول بأن تونس أصبحت آمنة من تهديدات المسلحين.
وهكذا ساهم إهمال مناخ السوق من قبل الحكومة، واللامساواة المجالية، والعنف المسلح في تعطيل عجلة التنمية الاقتصادية في تونس، على الرغم من تحسنها كثيرًا على مستوى الديمقراطية والحريات منذ 2011. والآن تضيف جائحة كورونا مزيدًا من الأعباء على الاقتصاد التونسي، ومع ذلك يبدو أن الحكومة التونسية بدأت تخطو الخطوات الصحيحة وتركز على تطوير الاستثمار والتنافسية في السوق.
بقلم خالد بن الشريف