قد يتبادر الى ذهن البعض أن الانسان المغفّل هو ذلك الساذج الذي يُدفَعُ به كي يرتكب الحماقات والجرائم بمقابل مادي أو معنوي وينحدر المغفّل ـ عادة ـ من قعر الشرائح الاجتماعية المفقّرة المهمّشة ماديا مضافا إليها الجهل وسذاجة التفكير ـ وفي كل الحالات ـ المغفل هو ضحية الآخر الذكي فكريا والمشحون بثقافة استعمال الآخر البسيط والتّضحية به لتحقيق أغراض ذاتية بعيدة أو قريبة المدى.
وعلى هذا الأساس هل يمكن إدراج ثورة تونس 17 ديسمبر 2010 ـ 14 جانفي 2011 ضمن خانة ثورة المغفلين التي أطلق عليها البعض ثورة الياسمين وأطلق عليها آخرون ثورة الربيع العربي؟ وفي المقابل وصمها أعداؤها بالمؤامرة وظل التلاسن متصاعدا ـ الى اليوم ـ بين الأحرار المؤيدين للثورة العفوية التي نهضت دون قيادة وبين الجاحدين بها: وهم أزلام النظام المخلوع الذي امّحى رمزه من هرم السلطة سواء تهريبا أو فرارا ـ حالة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن على الذي توارى عن الأنظار بالمملكة العربية السعودية إلى حين وافته المنية هناك حيث دفن ـ واللاّفت للنّظر أنّ الثورة التونسية شكّلت ظاهرة تاريخية فريدة من نوعها ـ بداية القرن الحادي والعشرين ـ من حيث طريقة انطلاقها بسبب إقدام الشاب المرحوم محمد البوعزيزي على إحراق نفسه أمام مقرّ ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على مصادرة رزقه كبائع فواكه من قبل فادية حمدي عون تراتيب البلدية التابع لأجهزة وزارة الداخلية.
قد يبدو حدث حرق الذات بسيطا وعاديا يتكرّر في أنحاء العالم ولكنه لا يؤدي إلى ثورة عارمة تخلخل بنى دولة بوليسية عمرها ما يزيد عن نصف قرن كان قد شيّد أركانها الاستعمار الفرنسي الذي رحل ظاهريا عن تونس سنة 1956 ولكنّ تلك الوطنية النّاشئة بزعامة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كانت رهينة الخبرات الفرنسية في الشأن الأمني غير أنّ حادثة الحرق كانت قرارا شخصيا ذاتيا اتخذه المرحوم فاخترق به أجهزة التّلصّص البصرية والسمعية و كذلك حاسة الشّمّ البشري والحيواني داخل تونس وخارجها و تلك هي فرادة الثورة التونسية التي لا يمكن فَهْمُ خلفياتها إلاّ بعد سنوات قادمة عندما تُفتَح ملفات مغلقة من أسرار الدولة التونسية وجيرانها العرب ليبيا والجزائر ودول أوروبا شمال المتوسط وغيرها من دول التّوسّع الاستعماري.
قد تلاعب تونسيون مشبوهون بحصاد الثورة التونسية الفتيّة الهشّة راكبين موجة النضال متحالفين مع شرهين متربصين وراء البحار ليجعلوا من تونس معبرا آمنا إلى خيرات الجيران العرب والأفارقة وهو ما جعل الشباب التونسي الثائر يتساءل في حيرة هل كان مغفّلا حقا فأنجز به الآخر الداخلي والخارجي مهمات ثمّ لفظه ليبقى في حلقات البطالة والفقر والتهميش التي تفاقمت؟ إنّ حركة التّاريخ تفيد أنّ المغفّل هو من يستغفل الآخر وأنّ من يستعبط الآخر فهو عبيط.
بقلم : د . الهادي غابري