هل من حق الدولة مراقبة تمويل الجمعيات أم لا؟

د. إبراهيم جدلة ، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والفنون والانسانيات ، منوبة ــ تونس

       تمثل الحياة الجمعيّاتيّة رافدا أساسيّا في مجال الديموقراطية المحلّية، حيث أنّها تسمح بمشاركة أوسع للمواطنين في الحياة الاجتماعيّة وفي كل ما يهم الحياة اليوميّة للمواطنين، سواء في الأحياء السكنيّة أو أمكنة العمل أو الفضاءات العموميّة. وتقوم هذه الجمعيات بأدوار متقدمة وهامة في مختلف المجالات: مستوى العيش، جودة الحياة، البيئة، التعمير، التوعية الاجتماعية، المساعدة في مجالات محدّدة ، وهي بذلك تعطي أكثر مسؤولية للمواطنين في تسيير حياتهم اليوميّة، ومحاولة ملء الفراغ الذي يمكن أن يحدث بسبب عدم قدرة الدولة أو الجماعات المحلّية على تلبية بعض الحاجات أو الضروريات أو حتى ما يدخل في باب الترف….

       والجمعية هي إحدى الوسائل التي تسمح بتجاوز اللامبالاة التي تبديها بعض المؤسّسات أو حتى المواطنين في حد ذاتهم، فهي تصبح ضرورة كلما كان الغرض منها ملء فراغ مجتمعي، يعجز الفرد المنعزل عن القيام به، ولا بد من مجهود جماعي لإنجاز  ما هو منقوص أو غير موجود، أو للدفاع المشترك عن قضيّة أو مطلب شرعي.. وهي في نهاية الأمر تعبر عن التوق إلى التعبير الحر عن الطاقات في الحياة اليوميّة.

       يبقى الإشكال الرئيسي هو مدى علاقة هذه الجمعيات بالدولة وبالمؤسّسات الرسميّة. هل هي خاضعة لها؟ أم هي مكملة لها؟ أم هي مستقلة تماما عنها؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة الحارقة، يجب تحديد نوعيّة الجمعيّة؟ لماذا بُعثت؟ وما هي أهدافها؟ وبصفة عامة نجد  صنفان كبيران من الجمعيات:

       الجمعيات التعبيريّة : التي عادة ما تضم مجموعة لها نفس الاهتمامات إمّا الفنية أو الترفيهية أو الخاصة بنوع من  الأنشطة ( صيانة المدن )  أو الهوايات  ( الصيد ) أو بنوع من الحيوانات أو النباتات … وهذه الجمعيات لا تصطدم عادة بالسلطة فهي تكتفي بأنشطتها دون المساس بمحيطها الخارجي.

       الجمعيات ذات التأثير الاجتماعي: وهي الأكثر انتشارا والأكثر تأثيرا وجدوى في مختلف المجتمعات، بحكم أنها تعمل على إبراز التوق إلى المشاركة ( سياسيّا واجتماعيّا )، وتجسّد التعبير الحر عن الطاقات في مجال الحياة اليوميّة، ونتيجة لذلك فهي تهدف إلى تحقيق تغييرات في المحيط المباشر  بواسطة التأثير الذي تمارسه.

       ويمكن للجمعيّة أن تصبح، في إطار نموّ طبيعيّ للمجتمع، عامل تغيير اجتماعي تحقق المكتسبات أو تفرض البعض منها، وتتحوّل إلى وسيلة إدماج للأفراد في المجتمع، وعاملا هاما للمساهمة الاجتماعيّة بواسطة اكتساب أو خلق تصرّفات جديدة. وأهمّ شيء هو أن تصبح مجالا كبيرا للتدرب على الحرّية والتحكّم في الذات، وغرس المبادئ الديموقراطيّة. وقد كتب أليكسي دي توكفيل صاحب كتاب  ” الديموقراطيّة في أمريكا” ( ألّفه بين سنتي 1836 -1839 ): ” إن الديموقراطيّة تؤدّي مهامها على أكمل وجه متى لم يكن مسارها من القمة إلى القاعدة  وإنما من القاعدة إلى القمة حيث تنشأ الدولة بصفة طبيعيّة عن مجموع من الهيئات  الحاكمة المحلّية  والجمعيّات الخاصة حيث يتدرّب الناس على الحرّية والتسيير الذاتي، وحرّية الاختلاف والالتقاء “. وبصفة عامة الجمعيّة هي مجال يمكن فيه للمواطن أن يكرّس سلطة الممارسة، وهي كذلك أداة وسطيّة بين الدولة والمجتمع وكلما كانت السلطة أكثر تطوّرا التجأت إلى هذه الأداة: للإنصات والتخاطب والتفسير ولحمل وإيصال المعلومات. وهو ما يطرح إشكالا أساسيّا حول العلاقة بينا لجمعيّات والدولة: هل هي امتداد للدولة أم هي سلطة مضادة للدولة؟

       تعوّض الجمعيات الدولة لما تخلّ هذه الأخيرة أو تعجز عن القيام ببعض واجباتها، فهي بذلك امتداد لها، لكن بعض الجمعيات ( الساهرة على الدفاع عن حقوق الإنسان، أو على احترام القوانين   مثلا)   وبحكم طبيعتها تجد نفسها في موقع  الذي ينحصر دوره  في تنبيه  السلطات الحاكمة  حول  بعض الإخلالات، وتحاول مقاومة تجاوزات السلطة في حالة الضرورة، فهي بذلك  سلطة مضادة، وذاك لا يعني أنها ضد السلطة بصفة آليّة. قد تنحرف الجمعيّة عن رسالتها الأساسيّة والنبيلة عندما تعتبر نفسها ضد السلطة وخصوصا عندما تتلقى الأموال  والتسهيلات من مؤسّسات أجنبيّة  معروفة بتبعيتها لأطراف لا يمكن أن يكونوا مساندين حقيقيين لشعبنا ولا ممن يساعدونه على تحقيق طموحاته.  وهنا تأتي مسألة مراقبة تمويل الجمعيات وتخوّف بعض أطياف المجتمع المدني من ذلك.  بكل بساطة إذا احترمت الجمعية أهدافها، ولم تنحرف بها نحو الأسوأ، ولم تستغلها لتحقيق مآرب شخصيّة أو حزبية أو إيديولوجية، ما هو المانع من مراقبة تمويلاتها ومصاريفها، ففي جميع أنحاء العالم يتمّ الإعلان  للعموم وليس للدولة فقط عن كل المداخيل، وكل مصادر التمويل وكل النفقات، ونشر ذلك علنا ووضعها على ذمة كل من يريد الاطلاع عليها. لماذا تصبح هذه المراقبة استثناء في تونس، خاصة أن القانون يؤكد على ذلك مرة في السنة على الأقل ؟   العمل الجمعياتي عمل نبيل، وقاعدة أساسيّة للعمل المدني، لذلك ولحماية المجتمع من كل التجاوزات الممكنة، مثل تمويل الإرهاب، أو استغلال العمل الجمعياتي  للتموقع السياسي، أو للدعاية الإيديولوجية، من الضروري أن تكون الجمعيات أول من يحترم القوانين، وأول من يدافع عن  نبالة رسالتها ضد من يريد الحياد بها نحو العمل الموجّه والفساد والارتزاق…. الجمعيات جاءت بالقانون، وليست فوق القانون، والتخوّف الوحيد أو الخطر الذي يمكن أن يتهدّدها هو أنه تحت ظل نظام استبدادي أو كلياني، تتجه السلطة أحيانا إلى هذه المراقبة للشل من العمل الجمعياتي، لكن في ظل نظام ديموقراطي، تصبح الشفافية هي قاعدة العمل، والقانون هو الفيْصل بين مختلف الأطراف.

اترك تعليقاً