منوال التنمية

د. إبراهيم جدلة ، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والفنون والانسانيات ، منوبة ــ تونس

       كنّا في السبعينات والثمانينات نتحدّث أساسا على نمط الإنتاج، ونعتبر أنّه في عصرنا لا يوجد سوى نمطيْن للإنتاج: النمط الرأسمالي والنمط الاشتراكي، أي اقتصاد السوق  المرتكز على الربح والاستغلال  والاقتصاد المُسيَّر الذي يعتمد على التوزيع العادل للثروة. وبعد سقوط جدار برلين وتفكّك الاتحاد السوفياتي، لم يبْق على الساحة سوى اقتصاد السوق المبني على الملكيّة الفردية لوسائل الإنتاج، وعلى التبادل الحر وقاعدة الطلب والعرض، وهو النظام الذي بشّر به آدم سميث منذ القرن الثامن  عشر عندما أصدع بمقولته الشهيرة: ” أترك  ( القوانين الاقتصاديّة ) تعمل، أترك  ( البضائع ) تمرّ ” (    Laissez faire, laissez passer   ). منذ عدة قرون اتخذ هذا النوع من الاقتصاد أشكالا مختلفة، وتسميات مختلفة  من الماركانتيلية إلى العولمة مرورا بالحركة الاستعمارية والامبرياليّة، تغيرت أشكال الاستغلال والربح لكن بقيت الركائز هي نفسها ولم تتغيّر: التملّك الخاص لوسائل الإنتاج، والتبادل الحر على قاعدة قانون السوق. والتطوّر الأساسي الذي ظل يراكم هذه القواعد هو التطور التكنولوجي الذي يجعل الأرباح أكثر والاستغلال أقل، بل إنّ أغلب   الشركات العملاقة اليوم التي تختص في التكنولوجيات الحديثة، لا تشغل سوى المهندسين وكبار العلماء، الذين يتقاضون أجورا خيالية، أما البروليتاريا فلا مكان لها في هذا العالم…

       كانت الاشتراكيّة أو الاقتصاد المسيّر حُلما فهَوَى، أمّا الجماعات والمجموعات التي كانت تحمل الفكر اليساري والاشتراكي فقد أضاعت بوصلتها، فالأغلبيّة لا تريد تزكية اقتصاد السوق، والبعض لا يريد التجرّد من الحد الأدنى من المبادئ التي كان يحملها. لذا وبمساعدة الغرب الرأسمالي نلاحظ ميلاد أفكار وإيديولوجيات غريبة في الأصل عن اليسار لكنها يمكن أن تلبّي الحد الأدنى من طموحات من لا يمكن أن يصطفّ سوى وراء الطبقات المسحوقة أو المظلومة، وموقعه الدائم هو معارضة هيمنة رأس المال، فأصبحت هذه المجموعات محصورة في مجال جديد اسمه: المجتمع المدني والعمل الجمعياتي، وقوامه : حقوق الانسان، وهي كلها مجالات شائعة في المجتمع الرأسمالي، وغائبة تماما عن الإرث الاشتراكي. لم تعد دكتاتورية  البروليتاريا وبناء الاشتراكية هي الهدف المنشود، بل كل النضالات ستتمحور حول حماية حقوق الانسان من وحشيّة رأس المال، أصبح مجال العمل السياسي والتفكير والايديولوجيا لا يتجاوزون قط  حدود النظام الرأسمالي، بسوقه الحرة ومنافسته الشرسة وبتقنياته الجديدة المتجدّدة…

        يمكن القول هنا أن الصراع السياسي انتهى، لكن الاستغلال الاقتصادي والمنافسة الحرة لم ينتهيا، ولامتصاص غضب من لازال يحلم بالعدالة في الربح وتوزيعه، خلق الغرب الرأسمالي أشكالا أخرى من النضالات، حسب الطلب،  وكانت أولاها حركة ” المناهضين للعولمة ”  (  Les altermondialistes  ). أصبح الشباب المناضل في العالم يجتمع من حين إلى آخر في إحدى المدن الغربية أو الأمريكية الكبرى ( ريو دي جانييرو مثلا  )، لا لمقاومة الرأسمالية بل للبحث عن بديل للعولمة، وسط خليط إيديولوجي وفكري تموله الأمم المتحدة  واليونسكو  والبنك الدولي حول  حماية البيئة  والتغيرات المناخيّة والحفاظ على التراث في المجتمعات التقليديّة وغيرها  من الأمور التي لا علاقة لها بالاشتراكيّة ولا بدولة الكادحين.

     أخيرا، وفي هذا الإطار بالذات، وفي النطاق الإقليمي، وفي ظل فراغ إيديولوجي فارض لنفسه، وجدت المجموعات اليساريّة   المعارضة، والمنافسة على  السلطة،  نفسها مجبورة على البحث عن وعاء إيديولوجي وقاعدة سياسيّة للتحرك من أجل تغيير ما يمكن تغييره، متناسية أنّ اللعبة الأساسيّة المتمثلة في اقتصاد السوق وقانون العرض  والطلب قد حسمت نهائيّا. لقد أصبح العالم بأسره من الصين إلى البرازيل وكوبا، مرورا بروسيا  وفيتنام  لا يتحرك ولا يعيش إلاّ داخل اقتصاد السوق، ولا يوجد في جميع أنحاء المعمورة اقتصاد خارجه، والحل لا يمكن أن يخرج عن   أطره  التقليديّة، لذلك التجأ كل من يبحث عن التغيير إلى عبارة : ” منوال جديد للتنمية “. وهل يوجد ” منوال للتنمية ” خارج النظام الرأسمالي؟ طبعا لا وألف لا. كل ما في الأمر أن البعض منا أصبح يبحث على تطوير مفهوم الاتكال الاجتماعي والدولة الراعية لا أكثر، وهذا لن ينجح إلا بالعمل والابتكار ووفرة الإنتاج داخل  ” المنظومة الرأسمالية ” التي نحن طرف ضعيف فيها. وكلما تراجع العمل والابتكار ووفرة الإنتاج، فإننا نقترب أكثر من منوال قديم للتنمية وهو: ” التسوّل “:  ” دولة التسوّل ” و”شعب التكيّة “. لذلك نحن مطالبون بالعمل وبتطوير الإنتاج وباكتساب مواقع متقدمة في رقعة المنافسة العالميّة ولسنا بحاجة لشعارات  خلقتها المنظومة الرأسمالية لإسكاتنا: ” اقتصاد تضامني “،  ” اقتصاد اجتماعي “، ” اقتصاد أخضر “…. وتبقى أخطر مسألة تعترضنا هي مسألة الوقت، متى نستفيق، ومتى نهتدي إلى أنجع السبل وأكثرها عقلانيّة للنهوض بوطننا، ولكل من يتساءل كيف؟، أقول له انظر ما فعله الفيتناميون أصحاب أكبر ثورة مسلحة في القرن العشرين.

اترك تعليقاً