بقلم : د. إبراهيم جدلة ، أستاذ التاريخ ، كلية الآداب والفنون والانسانيات منوبة ــ تونس
مرّت البلاد التونسيّة منذ الاستقلال بالعديد من التجارب الاقتصاديّة التي صاحبها المزيد من تدخّل الدولة أو أحيانا تراجع هذا التدخّل، وقد صاحب ذلك تطوّر البنى الاجتماعيّة، وتواتر الصراعات والهزّات التي كان لها أثر في تطوير هذا الجانب أو ذاك، خاصة بعد إجهاض تجربة التعاضد، والانخراط نهائيّا في المنظومة الليبراليّة. فجاءت عشريّة الرخاء التي انتهت بأحداث جانفي 78 وجانفي 80، التي أدخلتنا في عشريّة الشكّ التي انتهت بما وقع في نوفمبر 87، ودخول البلاد مرحلة جديدة من الليبراليّة الاقتصاديّة، التي غابت عنها الليبراليّة السياسيّة، وانتهت بعد 23 سنة بأحداث 17 ديسمبر 2010 وما تلاها. كان المجتمع في مختلف المراحل يتحوّل نحو الأفضل: تعميم التعليم، ثقافة أرقى، ثروات في ازدياد، استقطاب طبقي متنام، رفاهة متنامية لكنّها موزّعة بطريقة غير متجانسة. كلّ هذا رافقه تحوّل نحو عدم الرضا، عدم الرضا بتناقص فرص التشغيل، وبالتمايز في مستوى الثروة بين الجهات وبين الأفراد، وكانت الصرخات ضدّ الظلم، وضدّ العائلات والمجموعات المتنفّذة غير مسموعة، لأنّ النُّخب في جميع المستويات ظلّت تراوح مكانها غير قادرة على مواكبة ما يقع في المجتمع، ولم تكن لها القدرة على فهمه.
واليوم تقريبا نعيش على وقع هذه الأزمة المتواصلة، التي لا يمكن حلّها سوى بمواكبة التطوّرات التي تحدث في المجتمع وفي الاقتصاد. سيقول لنا البعض يتعيّن علينا تغيير منوال التنمية. لكن لا أحد قادر على توضيح ذلك، ولا إعطاء جواب شاف. ففي الواقع لا يوجد الآن في العالم سوى منوال واحد للتنمية، وهو الذي يعتمد على اقتصاد السوق. أمّا ما تبقّى فهي تلوينات أملاها البنك العالمي، وصندوق النقد الدولي.
في نفس الوقت الذي شرعت فيه البلاد في بناء اقتصاد ليبرالي تحت إشراف المرحوم الهادي نويرة، كان العالم بأسره يتحوّل نحو الليبراليّة الجديدة، ففي 15 أوت 1971 أعلن نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة، نهاية ربط الدولار بالذهب ( يعني نهاية اتفاقية بريتون وودس 1944 )، وهو ما أعلن عن سيطرة الدولار على الاقتصاد العالمي، وجعل صندوق النقد الدولي، كأعلى جهاز مراقبة على مختلف اقتصاديات العالم. وقد صاحب ذلك، التوجه المتواصل نحو الليبراليّة الجديدة، التي تنطلق من القطع النهائي لتدخّل الدولة في الاقتصاد والمجتمع، ومحاربة العمل النقابي ( تاتشر مثلا ). ومنذ ذلك الحين أعدّ صندوق النقد الدولي، حزمة من القيود التي تمّ توجيهها تقريبا لكلّ الدول غير الغنيّة أو في طور النموّ. هذه الحزمة أو جزء منها تمثّل الوصفة التي تفرضها هذه المؤسّسة على كل الاقتصاديات المعتلّة، من ذلك: الانضباط في الميزانيّة، الاصلاح الجبائي، تقليص المصاريف العموميّة، خوصصة المؤسسات العموميّة، تسريح اليد العاملة الإضافيّة، وطبعا تحرير المبادلات داخليّا وخارجيّا.
أمّا البنك العالمي، فهو النصوح الذي يسطّر السياسات الكبرى، على المدى الطويل، حسب الفترات والمتطلّبات والجغرافيا بشعارات مختلفة: ” الحدّ من الفقر “، ” الإصلاح الهيكلي “، ” الحوكمة الرشيدة “….البنك العالمي هو راع للدول والاقتصادات بل وأصبح أيضا يتدخّل في المجتمعات. فإثر موجة الاحتجاجات التي انتشرت في العالم ضد سياسات صندوق النقد الدولي ( 1985-1986 )، سعى البنك العالمي إلى تشريك المنظمات غير الحكوميّة الفاعلة على المستوى الدّولي وعلى مستوى البلدان في إنجاز سياساته. وبينما كانت نسبة المشاريع التي يموّلها والتي تستدعي تدخّل المنظمات غير الحكوميّة لا تتجاوز 5 بالمائة سنة 1988، أصبحت 47 بالمائة سنة 1997 ، وقد تطوّر الأمر إلى أكثر من ذلك بكثير. هكذا أصبحت النخب الاجتماعيّة والسياسيّة، معارضة كانت أو مساندة تأتمر بأوامر مؤسّسة يسطّر توجّهاتها كبار الاقتصاديين النيو ليبراليين. وتحت مسمّيات مختلفة : ” المجتمع المدني ” ” الجندر “، ” الاقتصاد البديل “، ” الاقتصاد التضامني “، ” الاقتصاد البيئي “، أصبحت نخب اللاحكومة واللاسلطة تشتغل ” خمّاسة ” ، لدى مؤسسات البنك الدولي، وتضفي شرعيّة شعبيّة واجتماعيّة لبرامج مفروضة، مقابل ما تتحصّل عليه من منافع وامتيازات: وهذا أيضا هو نوع من الارتزاق. هذه النخب ليست سوى كومبارس في إطار نظام عالمي مبني على سيادة قوة واحدة وعلى امتلاك 12.5 بالمائة من سكان العالم لما يزيد عن 70 بالمائة من ثرواته. وهي نفس النخب التي نجدها اليوم عاجزة عن الإصغاء لمتطلّبات مجتمعات مأزومة، وعاجزة عن فهم التحوّلات الكبرى على مستوى الانتاج وحركات الأموال والثروات، وعاجزة محلّيا عن تقديم تصوّرات جديدة لمسالة التنمية، وما يتبعها من حلول عمليّة وواقعيّة من شأنها التقدّم بالبلاد والعباد نحو الأفضل. ومن الضروري أن يفهم الجميع بأنّ أهمّ شيء اليوم لا يتمثّل في البحث عن ” منوال وهمي مختلف للتنمية ” بقدر ما هو العمل على إيجاد وفرض آليات الانصهار الاقتصادي والاجتماعي، حسب ما تقتضيه متطلّبات الساعة، وحسب تجدّد القطاعات الخالقة للثروة اليوم ( الاقتصاد الرقمي ). على النُّخب أن تتجاوز تكلّسها نحو البحث عن المصادر الحقيقيّة للثروة، والاجتهاد في فهم قواعد التنافس الحقيقي، والاستثمار في العقل البشري وفي اقتصاد المعرفة.