قناع الرّمز في القصّة التّونسية القصيرة من خلال أقاصيص «أحمد ممّو »و«محمد الهادي بن صالح» و«إبراهيم الأسود»(*)

الدكتور الهادي غابري

بقلم : د. الهادي غابري

المقدّمة :

لقد انتشرت القصّة القصيرة في الوطن العربي على صفحات الجرائد ، وهي بمثابة الومضة الخاطفة ، وفيها  يكثّف القصاص أفكاره وآراءه وخواطره . وقد عرفت القصة القصيرة في تونس اطّرادا منذ الستينيات من القرن العشرين ، فأضحت أبرز الأشكال الأدبية جمالية ، وقدرة على تحليل الواقع ، ونقده في فترة التغيّرات والأزمات بأساليب متفاوتة، أثناء إلتباس الواقع بفساد معلن ،  أو مُضمر فانّ القصة القصية تنحو إلى التّرميز ،فـــ«الرّمزية طريقة فنّيّة خاصّة للتّعبير عن مجموعة من الأفكار الانفعالية في الفنّان ، مستخدمة الايحاء والتّلميح والإشارة . وهي ترتفع بالفعل الفني ألى مستوى تجريدي ــ وفي الوقت نفسه ــ تصوّر الجزء القاتم من النفس الإنسانية » (1).فالرّمزية ــ إذن ــ  لا تقتصر على القصّة القصيرة فقط ، بل «  هي قائمة في متْن الفنون منذ عهدها الأقدم »(2) والقصّة القصيرة جنس أدبي ، قد تداخل فيه فنون أخرى شتّى ، كالرّسم والموسيقى والمسرح … وتلك الفنون تشكّل فيما بينها البناء الفنّي للقصّة القصيرة ، فتزداد متانة خاصة إذا كان القصّاص مستندا إلى خلفية فكرية ، يقرأ من خلالها الأحداث الحافّة به ، وما ستؤول إليه بعد سنوات ، وهذه القراءة للأحداث لا ينقلها كما هي ،  بل يلجأ الى التّرميز طريقة فنّية فيغيّر من ملامح الأشياء،  ويبدّل الأسماء ، ويغيّب المكان والزمان للتّعمية ، اتقاء شرّ الرقابة الاجتماعية ، السياسية، الدينية على آرائه ، وقد اقتحمت المواضيع المحرّمة ، المحظورة .اخترنا ثلاث قصص قصيرة لقصّاصّي مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ،  كي نتبّين الرمز والأسلوب الفنّي الذي طبع تلك الاقاصيص ،  فميّزها عن غيرها . ولا يعني اختيارنا أنّ هذه القصص هي الأنموذج ، الأقدر على تمثُّل قناع الرّمز ،بل هي محاولة لقراءة الفنّ القصصي التونسي لثلاثة قصّاصين:  أحمد ممو  (1949 ….)، محمد الهادي بن صالح(1945 ــ 2019) ، إبراهيم الأسود (1943 ــ 2005)، تزامنوا ، جمَع بينهم ملتقى نادي القصة بالوردية منذ سنة 1964 حتى الآن ، وهو ما قرّب وجهات النظر بينهم في فنّ الكتابة، وكذلك في المرجعية الفكرية ، وإن كان هؤلاء الثلاثة غير ملتزمين بخطّ سياسي ،  أيديولوجي واضح ،  بل يلتقون في النقد السياسي مُتَوارين تحت قناع الرمز بأساليب ساخرة ، ماكرة إلى حدّ مسخ الشّخصية ، ووضعها في زاوية الإدانة تجني ثمار ما اقترفت .وفي القصص التي ندرسها نحاول تبيُّن قناع الرمز أسلوبا فنيا مع تحليل لبعض الأحداث الغرائبية . فكثيرا «ما يلجأ الرّمزيون في علاج مثل هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة » (3)أو الى الخرافات ، أو السّير الشّعبية لاستلهام البطل المنشود .النّزعة الرّمزية في القصّة التّونسية القصيرة ، روّادها كثُرٌ خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ، وفيها « كثير من اللّمسات الفنّية الموحية بالنّقد اللاذع  إلى بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية »(4) وهذه القصص لا تخلو من الغرائبية في أحداثها ، وهي تشكّل الوعي العام لكتّابها ، كما أنّ تلك القصص تعبّر عن  «حقبة هزيمة الآمال الكبيرة ، وعقابيل تمزيق الذات الجماعية ، عقب انحسار هذه الآمال ، والتّضاد الجارح بين الشّعارات المجلجلة ، والتّحقيقات المحدودة المشروطة »(5) التي يكرّسها النّظام على أرض الواقع ، فكان اللّجوء إلى الرّمز وسيلة لنقد سلبيات المرحلة التي تشي بالضّغط العام ، وغياب الحريات الفردية والجماعية ، «فيصبح الفرد عاجزا عن الحركة والفعل والاختيار »(6). وقد جسّم قصّاصو تلك المرحلة ذلك الواقع في أقاصيصهم ، متخفّين وراء قناع الرمز، لتبليغ أفكارهم خلال حقبة زمنية حرجة ، عرفت فيها تونس ظاهرة عبادة الشّخصية ، فكانت الهزّات الاجتماعية والسّياسية انعكاسا ، ورفضا لتلك الظّاهرة .رصدت القصّة القصيرة التونسية تلك الظاهرة ، ولكنها لم تعلن عنها مباشرة ، بل لمّحت إليها من خلال الشخصيات والمكان والزمان والأحداث .

أحمد ممو

●الــــرّقابة : خلال شهر أكتوبر من سنة 1967 ، رافق «الشّاعر الرّاحل عامر بوترعة»(1948 ــ 2005) (7) ، أحمد ممّو إلى نادي القصّة بالوردية ، وعرّفه على أعضائه ، ومنذ ذلك التاريخ انتمى أحمد ممو إلى النّادي وظل ــ إلى اليوم ــ مواكبا لجلساته الأسبوعية ــ مساء كل يوم سبت ــــ قارئا لقصصه أو ناقدا لإنتاج غيره القصصي  . يمتلك أحمد ممو مواهب مختلفة في حقول الأدب والبحث والنقد والعلم ، وذلك بحم تكوينه العلمي الأكاديمي في مجال اختصاصه هندسة المياه . وقد تفتّقت قريحة أحمد ممو سنة 1965 ، وهو تلميذ بالسنة الرابعة ثانوي بالمدرسة الصّادقية ،  وقد كتب أوّل أقصوصة بعنوان : «خيط ينقطع» . وفي رصيد أحمد ممو ثلاثون قصّة قصيرة منشورة بالدوريات والصّحف ، أصدر بعضها في مجموعتين قصصيتين ، الأولى بعنوان : «لعبة مكعّبات الزّجاج» ، صدرت سنة 1974 ، والثانية بعنوان :« زمن الفئران الميكانيكية »، صدرت سنة 1980 ، وتضمّ تلك المجموعة عشرة قصص، كُتِبَت فيما بين سنوات  1970 و1980 . وتلك السّنوات وَسَمَهَا  المحلّلون السّياسيون «بزمن البطولات السّياسية والاقتصادية والاجتماعية»(8)  وسمّاها آخرون بسنوات الجمر ، وقد اكتوى بنارها جيل ما بعد الاستقلال ، وخاصة أجيال التّلاميذ والطّلبة ، هي أجيال فاعلة و مؤثّرة في الأحداث ، ولكنّ الهزيمة  كانت مآل تلك الأجيال ، إذ هي  فريسة شِدْقيْ المقصّ ،متعدّد الأحجام والألوان ، مثلما  صوّرته المجموعة القصصية« زمن الفئران الميكانيكية ». العنوان يحيل على القوارض المألوفة من صنف الفئران المُفْسدة ، لكنها فئران غريبة الخَلق ، هي  من أصول ميكانيكية ،  طرأت في زمن  غريب ، فالطّالب في اقصوصة مدينتي ولساني والمقصّ يتدرّب على المظاهرات ، ناظرا إلى قسمات وجهه حتى تكون أكثر قسوة ، وتعبيرا عن الرفض الجماعي « وجدت نفسي في المرّة الأخيرة أسيرُ في المظاهرات وسط الآخرين … كانت الوجوه مكفهرّة ، غاضبة ، والأفواه مفتوحة تتحرّك في كل الاتّجاهات »(9)، وقد غصّ بها الشّارع كالسّيل العرم،  حقيقة واقعة . وظّف أحمد ممو ظواهر فنّية ليبيّن حدّة التّناقض بين إرادة الشعب ، وقهر السلطة ، فلجأ ممّو إلى ظاهرة تقديم بطل القصة دون تحديد اسمه ، «ليتحقّق الإيحاء بشمول القضية وتعميم المعنى»(10) .يأخذ الشارع دورا رئيسيا في الأحداث ، فغدا شخصية مجهولة الهوية أيضا ، هو شارع يمْكن أن يقع في أيّ مدينة من العالم ، رغم دلالته الدافقة بالحياة ، فانه يوحي بعالم الفناء ، «إنّهم يطهّرون المدينة … لاحظت أن الشارع الحرية كان خاليا»(11) فهو كثير التفاصيل والمخاوف ، شرس يلتهم أصوات الحرية ،« فيلغي كل شخصية لا تحسنُ وضع أقدامها عليه ، كما يضيع كل فكر لم يحسن الدّخول إلى زواياه» (12) تكثر في شارع الحرية المقصّات الهندسية بتقاطعاتها« وفي كل ركن مقصّ» (13)ولا يخلو بيت من مقصّ حديدي ،يسوّي ، يشذّب الأقمشة،   وتتوالد في شوارع المدينة مقصّات بشريّة ممّا يجعل «المكان عنصرا يوحي بالغربة»(14) لأنّ المقصّ البشري سيطر عليه ، فغدا شخصية محورية مسيرا للأحداث بعجائبية ،  مهيمنا على كل فضاء علني ، سري ، فكانت أدوارا لمقصّ متعدّدة ، تغيّر من معالم الأشياء والإنسان ، فأضحت المدينة مسخا «اني أحسّ أنّ هذه المدينة ، قد تحوّلت إلى مقصّ كبير قديم صدئ ،ينفتح الآن ببطء لكي ينغلق بعد ذلك على رقبتي»(15) . عالم المقصّات في مجموعة «زمن الفئران الميكانيكية »غريب عجيب ، يشي بعالم الخرافة ، واللاّمعقول ، المباغتة ، أمّا  تقطيع أوصال الأفراد ، فهو عمل يومي لتلك المقصّات المتناسلة بأعداد مهولة «في كلّ ركن مقصّ … وراء كلّ باب مقصّ … المقصّات تتجوّل في المعابر …وتحت الأسرّة … ولا أحد يستطيع أن يوقف حركتها »(16) أنشأت تلك المقصّات عالم رعب واقعي يفوق عالم قصص الخيال العلمي ، وإن انتهج أحمد ممّو« في كتابته منهج الواقعية الاجتماعية »(17) ومع ذلك يلجأ ممو إلى الرّمز في أقاصيصه «فالأدب يستحسن فيه الإيحاء بدل الإفصاح » (18)وهذا الأسلوب الفنّي استمدّه أحمد ممو من بيئته البربرية الصّحراوية ،  ومن تجاربه في فنّ كتابة القصة القصيرة «فكانت الحاجة الى التّعبير غير المباشر عن أشياء غامضة في الكون ، تعجز الواقعية عن التعبير عنها»(19)  فوظف أحمد ممو أسلوب الخرافة ، والحكاية السّاخرة التي تمتّ إلى ماض، ومكان غير معلوميْن إيغالا في الرّمز «في تلك المدينة كان هناك حزب سياسي ، وكانت هناك شرطة ، وكانت الشرطة تحرس المدينة ، والمدينة تحرس الحزب السياسي ، والحزب السياسي يحرس السلطان ، والسلطان يحرس الحواجز من حوله ، وكل الناس بخير ، مادام الحزب بخير ، ومادامت الشرطة بخير »(20) . تُبرز أقاصيص أحمد ممو مظاهر العنف في أبشع مظاهره، دلالة على فساد الضّمائر والذِّمم « وكان أبي يقول لها : أنّه لا يستطيع أن يعيش في ذلك المنزل الذي تتحرّك فيه المقصّات ــ كما تتحرّك التّيّارات الهوائية ــ في جميع الاتّجاهات ، إذ يمكن لذلك المقصّ أن يغافله في أيّ لحظة لكي يستلّ لسانه »(21)مجتمع أقاصيص «زمن الفئرا ن الميكانيكية» مجتمع الصّمت والأفواه الملجومة ، وإذا فُتِح فمٌ ،  وتحرّك لسان ، فمصيره القطْف بحركة مباغتة ، دون معرفة السّبب ، وبذلك يُحْكم على الأفراد بإغلاق أفواههم جيّدا  و لكن « يُصادف أن ينسى الإنسان فمه مفتوحا عندما ينام ، أو عندما يتكلّم .  وفجأة يجد لسانه يتدلّى من فمه ، أو هو قد اختفى تماما ، ولم يبْق إلاّ جذوره ، وسريعا ينسى الناس إنه كان في يوم ما بلسان طويل هكذا …! ، أنه كان يقول به أشياء كثيرة ، لأنهم يعلمون أنهم لو تحدّثوا عن ذلك اللّسان فإنّ ألسنتهم ستقصّ بنفس الشّكل »(22) يطال المقصّ حرّية الرأي  والتّعبير والمنشورات ، إذ الرّقيب «قد يتناول المقصّ لكي يقصّ جملة أو اكثر … قد تفكّر في نشره ، ولكنّ  أحدا يمتنع عن ذلك …. قد يأخذه من عندك ويقرأه وحيدا ….قد ينشر كلماتي  جملا ناقصة ، عندما ينتهي السّطر قبل أن تنتهي الجملة »(23) . رقابة المقصّ في مجموعة «زمن الفئران الميكانيكية »تعطّل «أهمّ ملكات الإنسان ، ومن ثمّة ميدان الخلق والإبداع …ويُحرم الأدباء والباحثون من أقدس الحريات : حرية التفكير والقول والنشر »(24) في مدن الصّمت ، أهلها خرسان ، بُكْم ، طالتهم المقصّات ، أصابهم تشوّه جسدي ونفسي ، لاحقتهم الأشباح ، فاختفى البعض قسرا «سألته ماذا يحدث عندما يختفي شخص ما من المدينة أثناء الليل  ، ويتحاشى الآخرون الحديث عنه ؟ ،  قال جدّي : ذلك من علامات ظهور سيدي عبد القادر» (25) تقسو المدينة بمقصّاتها الوحشية على الأفراد ، لتخلق «مواطنا ممتثلا ، ومطيعا »(26) ورغم ذلك لا يدفع أحمد ممو بأبطاله إلى الهزيمة، فالضحيّة في مجموعة «زمن الفئران الميكانيكية »تتحدّى الجلاّدين ومقصّاتهم بقولها  : «إنّكم قد تقصّون لساني ، وقد تقصّون ساقي ، وقد تقصّون أجزاء لأخرى من جسدي ، ولكني سأكتب ، وأكتب ، و أكتب ، وأعلّق ما أكتبه على الجدران ، وعندما تقصّون يدي سأفكّر …وعندما تقصّون رأسي سينبت من جديد »(27)  وظّف أحمد ممو في أقاصيصه  فنيات حديثة ومنها : تقنيات الصورة السينمائية في وصفه للمظاهرات ، وسطوة عنف السّلطة ، واستجواب الموقوفين،  فتعذيبهم بمقرات الحجز العَفِنة  ، لم تكن صورا صامتة ، بل هي ناطقة رغم تشوّه الألسن ، نتيجة تكرار القصّ لكلّ لسان ينبت من جديد ، وقد أفاد أحمد ممو من اختصاصه العلمي القائم على:  الملاحظة ، التجربة ، النتيجة ، كلّ ذلك ساهم في بناء القصص بلغة بسيطة ، مقنعة ، قَدَرَت على توطيد علاقة القارئ بالبطل ، وقد لامس حافّة الجنون لهول المكابدة تحت وطأة سلطة سياسية استبدادية قمعية ، غابت فيها حقوق الانسان ، فقُبِرَت الحرية .  عالم قصصي يشي بزمن قَلِق ، مُرْبك ، وهو زمن السبعينيات من القرن العشرين  ، عبّرت عنه الشّخوص رمزا،  وواقعا ، فانعكست فيه أساليب البيئة الصّحراوية ، وتأثيرات الثّقافة الأمازيغية بجبال تمزرت ـــ جنوب مدينة قابس ـــ موطن أحمد ممو ، وهو مشدود إليها  رغم استقراره بالمدن الكبرى ،  ولذلك انحاز إلى أسلوب الرّمز ، وهو الأبلغ في فنّ التّعبير الأدبي ، وأشدّ تأثيرا في أغوار النّفس البشرية ، والرّمز سِمَة عصور الاستبداد السياسي ، وهي وسيلة فنيّة تمكّن الكاتب الإفلات  من قبضة الرّقيب البارع في قصّ الورق ، وتشذيب الألسن ، وإلجام الأقلام ، ورغم ذلك يُهزَم الرقيب « قالت عدلية : إنّه من المُسلّي أن تكون الألسنة تنبت من جديد ، وإلاّ أصاب اليأس الإنسان بشكل قاتل ، بعد أن يقُصّوا لسانه للمرّة الأولى» (28) .

محمد الهادي بن صالح

●مجتمع الخُرسان : وَسَم محمد الهادي بن صالح مجموعته بعنوان هذه القصّة «وعد الأخرس والعلاقات المتوتّرة» وفيها يروي سيرة « رجل غريب قَدِم من بعيد »(29)فاستقرّ على ضفاف بحيرة ، يتسلّى برمْي الحصى في مائها ، فيشكّل دوائر ، وفجأة اختفى ذلك الغريب الوافد فــ«استبدّ الهلع بسكّان القرية»(30) لأنّه أصبح «معلما من معالم القرية الثّابتة »(31)، هو جزء من تاريخ ذاكرتها ، فلذلك هبّ الشّباب بحثا عنه ، فعثروا على رجل يُعْرَف  بالأخرس ، فأخبرهم بأنّ لسان المفقود قد قُطِع ، كان موت الرجل الغريب  مفزعا غريبا ، حزن عليه أهل القرية «وتحجّرت نظراتهم رعبا وهلعا » (32) ، بسبب  الموت  الغامض المشبوه، بعد التّمثيل بأجزاء من  جسده .  اختار محمد الهادي بن صالح «البحيرة» مكانا لأحداث القصة ،حيث يُطلب من الأخرس الجلوس« ساكنا ، كأنّه الجماد ،كأنّه صائد سمك،  وحذوه حفنة من الحصى،  يرمي الواحدة في بقعة محدّدة بدقّة غريبة،  إذ لا تنزل الحصاة إلاّ في ذلك المكان الذي أراده لها، فتولّد دوائر صغيرة،  تدرّج الدائرة الصغيرة نحو الاتّساع ، تكبر الدائرة ، وتتّضح أكثر على سطح البحيرة، تملأ الدائرة مساحة ما على سطح البحيرة »(33) . هذا العمل روتيني ، لا يملّ منه الأخرس طوال النّهار ، وهو كذلك لا يبرح  ضفاف البحيرة كمكان« حافل بالأسرار ،  مليءبكلّ ما يخشاه  ، ويحبّه »(34) فمثّل له مكان ألفة ، يتأمل فيه شؤونا كثيرة ، تهمّ حياة الإنسان وجوهره ، ومن ذلك المكان وحركة الماء ودوائره ، يستلهم الأخرس الحكمة ، ويبحث عن حلّ وأجوبة لأسئلة ، تدور بخلد أهل القرية« وعد بأن يحدّثنا عن المدينة الفاضلة … وعن الحاكم العادل … وعن الأموال المهرّبة ….وعن المؤسّسات تكتسح الشّوارع …وعن الأراضي القاحلة … وعن القصور الفخمة »(35) رأى البعض في حكايات الأخرس التي ينوى إذاعتها بين النّاس خطرا على مصالحهم  ، فتلك الحكايات قد تفتح العيون ، فيثور عليهم المغبونون «ولذلك وجب قطْع لسانه . ذلك اللّسان الطّويل الذي قال عنه بعضهم : إنّه صالح ـــ بعد قطْعه طبعا ــ لكي يكون شريطا لنشر الثّياب المغسولة »(36) .وهكذا  فقَد الأخرس القدرة على الكلام «الذي أنعم الله به على البشر دون سائر المخلوقات الأخرى »(37) وبهذه النهاية يشير  محمد الهادي بن صالح إلى قيمة اللّسان وخطره ، إذا ولَجَ المناطق المحظورة ، وفي نفس الوقت ينقد قوى الزّجر ، وردع الألسنة إلى حدّ قصّها بوحشية ، وبما أنّه كأيّ إنسان يخشى قطع لسانه ، فإنّ محمد الهادي بن صالح لم يذكر المكان بالتّحديد ، بل غيّبه ، ولم يحدّد البلد ، أو حتّى التّضاريس الجغرافية ، أو المعالم التّاريخية ، أو عناصر الطّبيعة من أشجار وحيوان الحافّة بالبحيرة . قد تشي بحقيقة وواقعية تلك البحيرة ، فجاءت في القصّة بحيرة متخيّلة في ذهن القارئ ، فهي تقع في أيّ مكان من العالم ، حيث تغيب الحرية ومساحة الفكر الحرّ ، فتكون نهاية المفكرين شأنها شأن نهاية الأخرس ، ويختلف الناس في تفسير هذه النهاية المأسوية  «وزعم البعض الآخر أنّ مسّا من الجنون قد أصابه ، وبذلك انعدم صوته ، والجنون في هذه الحالة نِعْمة …وأكّد البعض الآخر أنّ العقل سليم …ولكنّ الرّجل قد بَلعَ لسانه » (38). منذ البداية  طمس محمد الهادي بن صالح معالم البحيرة لتصبح بحيرة الجنون ، روّادها مجانين ، ولكن أيّ مجانين ؟ هل هم مجانين الحقيقة والمعرفة؟  ، ينزوون ، يتأمّلون ، أم هم مجانين« بلا عقل حسب المزاعم »(39)؟  إنّ  الجنون في هذه القصّة ،هو وليد ظروف ضاغطة دفعت الأخرس إلى حافّة الجنون ، لهول ما رآه من انهيار كامل للقيم الأصيلة ، فكان جنونه نتيجة حتمية لواقع يرفضه ، حاول مقاومته بلسانه ناقدا معلّما ، وبقطْع ذلك اللّسان أصِيب الأخرس بالجنون. هكذا  ينتهي بطل محمد الهادي بن صالح إلى التّشوّه الجسدي إلى حدّ العجز ، فهو كائن متحرّك ، ولكنّه صامت مخبول ، لا يميّز ، هو علامة مملكة الخرسان،  والمجانين ، لأنّ الزّمن الذي  عاصره الأخرس ، هو زمن الصّمت الاضطراري بامتياز . لا تخلو هذه القصّة من إشارات رامزة إلى قضايا راهنة ، ألبسها الكاتب ثوب المجانين ،  والخُرسان  المشوّهين ، وحكايات التّراث القديمة ، لينقد واقعا ما دون التّصريح مباشرة على غير عادته في بعض قصصه ورواياته . وهذا الرمز الذي اختاره محمد الهادي بن صالح لا يُعْنَى بتقديم صورة مفصّلة للبيئة والأحداث ، وإنّما حاول خلاله إبراز أفكاره بوسائل مختلفة،  لنقد بعض مظاهر الفساد بأنواعه ، فجاء صمت الأخرس رغم خَرَسِه دلالة عميقة على الاحتجاج والرفض ، ويكون الصّمت أبلغ من الكلام ، وإن كان صمت الأخرس في هذه القصّة اضطرارا وليس اختيارا .

ابراهيم الأسود

الحيوان الخُرافي : في أقصوصة التّنّين يستلهم ابراهيم الأسود خرافة شعبية ـــ خرافة التّنّين ـــ «مخلوق أسطوري يتردّد ذكره في فلكلور شعوب العالم القديم ، وكثير من شعوب العالم الجديد . وكلّ التّنانين لها جسد ثعبان ، أو تمساح تغطّيه حراشف ، وأقدامه الأمامية ورأسه تشبه أقدام ورأس الأسد أو النّسر أو الصّقر . وكثير من التّنانين لها أجنحة . والصّفات الجسمانية للتّنّين تختلف من مكان لآخر »(40). هذا الّتّنين الأسطوري حلّ بالقرية ، وشرع بنشر الموت والرّعب والدّمار (41)، فحاول السّكّان إقامة« الحواجز والعراقيل … ولكن عبثا …لم يكن ليوقف زحفه شيء»(42) . ولكن اتحاد الرجال وعزيمتهم قضت على الوحش «وكان يوما خالدا ، يوم هوى التّنّين في الكمين ، فتحوّل الجبّ في لحظات إلى أتّون يتصاعد لهبه إلى السّماء …، وكالرّعد دوّى شخير الوحش قبل أن يتهاوى كجبل»(43) .وبذلك تخلّصت القرية من شرّه ، وازدهرت ، وكثر فيها العسل ، فخشي النّاس تذوّقه ، لأنّه قد يكون النّحل تغذّى من لحم التّنّين المسموم، فجرّبوه على« بريّْك ، كان شيخا متهدّما تجاوز المائة بقليل …فحياته لا نفع فيها ، وموته لا يُعتبر خسارة »(44). ولكن حدثت المفاجأة التي لاتُصدّق  «وحدثت المعجزة أمام أعين الجميع … ما كاد يتذوّق العسل حتّى طرأت على وجهه ، وجسمه تحوّلات غريبة …شُعيْرات رأسه راحت تتساقط ، ليحلّ محلّها شعر فاحم كريش الغربان …اختفت التّجاعيد من وجهه فجأة ، وتحوّل في ومضة إلى شابّ في غاية القوّة والوسامة …هبّ واقفا كالمارد ، وراح يحدّق في وجوهنا بعينيْن يشعّ من حدقيْهما بريق مرعب …وما ندري يا ولدي ، إلاّ ونحن نسجد أمامه إجلالا وخشوعا »(45) . وقد تحوّل بريّْك إلى مخلوق عجيب ، ولم يقدِر الناس على مقاومته ، وأسف النّاس على ماضيهم مع ذلك التّنّين الذي أرغموه على الهلاك ، ولكن جاءت صورته في شخص تنّين جديد «يوم ظهر التّنّين ببلادنا ، تكتّلنا يدا واحدة ، وقاومنا بضراوة حتّى قُتل …لكنه بعث من جديد في شكل آدمي هذه المرّة … عادفي صورة بْريّْك … لكن القليل منّا أدرك ذلك» (46) .يكشف إبراهيم الأسود مكان هلاك التّنّين من خلال العودة إلى الماضي «سأخرج معك في الصّباح ، يابُنيّ لأريك الجُبّ الذي حفرناه للتّنّين … سيظلّ أثرا تفتخر به الأجيال ، كما تفتخر بآثار قرطاج والقيروان »(47) . التّنّين هو الاستعمار الفرنسي ، الذي اجتاح تونس ، فأتى على خيراتها ، مخلّفا بين أهلها الجوع ، المرض ، الجهل ، الفقر . وقد رمز إبراهيم الأسود إليه بصورة الوحش الخرافي دلالة على خبثه وشرّه . ويحمل هذا اللّجوء إلى الرّمز ومضات نقد ومقارنة لواقع راهن ، قد أثّر فيه ، فذكّره بالتّنّين الاستعماري ، فماثله بشخصية أسطورية راهنة ، أطلق عليها اسما ساخرا :بْريّْك ،« ولكنّه تنّين مخيف ، بدأ يزحف و يتنامى …سأريك أيضا الحيّ الجديد بقصوره الشّامخة الذي بناه بريّك لنفسه وأعوانه  … ولابدّ أن نمرّ على جبل الصّنوبر، لأريك مصانع العسل التي شيّدها بْريّْك»(48) .  من خلال الشّخصية الأسطورية يشير إبراهيم الأسود إلى العدالة الاجتماعية ، وهي محور هامّ مفقود ، بعد سرقة المجهود الجماعي ، وتحوُّله إلى فائدة شخص واحد ، قد يكون إقطاعيا ، رأسماليا ، يتغذّى من عرق الأغلبية وفي الآن نفسه يشير إلى أنّ التّنّين إذا اختفى ، فإنّه يعود بألف لون لنهب الخيرات ، ولإبلاغ هذه الفكرة التجأ ابراهيم الأسود إلى الرّمز بهدف نقد الرّاهن متستّرا بالخرافة الشّعبيّة القديمة جدّا ، موظّفا إيّاها توظيفا يخدم فنّه القصصي، دون السّقوط في التّصريح المباشر، وبذلك قَدَرَ على نقد أعوص القضايا إشكالا مستلهما خرافة شعبية رمزية ، زاوجت بين التّنين القديم والتّنّين الحديث ، تاركا للقارئ المقارنة والجدل والنّقاش . وهو يتساءل حول حقيقة التّنّين ، فهل هو الاستعمار في شكله الجديد ؟ أم هو الحاكم الجديد من صلب الوطن؟ ، وقد نصّبه الاستعمار في ثوب وطني ،  ـــ بعد رحيله الشّكلي ـــ ليكون سلطة قهر تجثم على صدور المواطنين .إنّ أحداث القصّة تشي بعالم الفساد السّياسي في مكان ما ،بعد نيْل ذلك المكان استقلاله من الاستعمار المباشر ، وهذا يدلّ على خيبة الاستقلال ، وخيانة ، فغدر الحكومات الوطنية لمنظورها ، واعدة إيّاهم بالعسل ، وفي الواقع يجنون وخز الإبر . صوّرت القصّة التّونسية  القصيرة  ــــ خلال السبعينيات من القرن العشرين ــــ ملامح كثيرة لهذا التّنّين ، منبّهة إلى خطره ، إذا طال عمره ، فقد يُهلك الجميع قمعا وسجونا  ،فيسود عالم الصّمت  في مملكة التّنّين الأبديّة .

 الخاتمة : يمكن إجمال أسباب ميل القصص الثّلاثة إلى القناع الرّمز ، أسلوبا فنّيا في الكتابة إلى : 1 ـــــــــ الظّروف السّياسية القهرية ـــ أثناء مرحلة الستّينيات والسّبعينيات من القرن العشرين ــــ:  حتّمت تلك الظّروف الكتابة الرّمزية في القصّة القصيرة ، فبات الرّمز سِمَة المرحلة ، ليفلت القصّاص من قبضة الرّقيب ، وقد أحكم قبضته على الفكر ، وصادر الحرّيات متوسّلا بالمقصّ تشذيبا للّسان ، وقطعا للورق ، وتجفيفا للقلم .2 ــــــ وتّر القلق  والصّراع الأحداث ، فالتقط القصّاص مشهدا ، ومضة ، تجربة خاطفة ، بدا خلالها الشّخوص في حالة  توتّر وجنون ، لهول الاضطهاد المسلّط عليهم ، فكانت نهايات القصص مفتوحة، وبقي مصير البطل معلّقا . 3 ــــ تواردت الأفكار بين القصّاصين الثّلاثة ، صاغها كلّ حسب ثقافته وأسلوبه ، ومع ذلك يُوجَد  خيط  ناظم بينهم : أفكارهم متلاقحة ، متناسلة بفضل الجدل بينهم . 4 ــــ سيطرت الانعكاسات البيئية على أفكار القصّاصين ، وأساسا الفضاء الصّحراوي منبع الأسلوب الرّمزي ، وهو الأبلغ والأشدّ تأثيرا في النّفس البشريّة .

الهوامش :

  • 1 ـــ فاطمة الزهراء ، العناصر الرّمزية في القصّة القصيرة ، دار نهضة مصر ، ط1 ، القاهرة 1984 ، ص 20  
  • 2 ــــ إيليا حاوي ، الرّمزية والسّريالية في الشّعر الغربي ، دار الثقافة ، ط1 ، بيروت 1983 ، ص 13
  • 3 ـــ محمد مندور ، الأدب ومذاهبه ، دار نهضة مصر للنشر ، د . ت ، ص 125
  • 4 ـــ محمد الهادي العامري ، القصّة التّونسية القصيرة ، دار بوسلامة للطباعة ، ط1 ، تونس 1980 ، ص 78
  • 5 ـــ إدوارد الخرّاط ، الحساسية الجديدة ، مقالات في الظّاهرة القصصية ، دار الآداب ، ط1 ، بيروت 1993 ، ص128
  • 6 ــ محمد رجب الباردي ، شخص المثقّف في الرّواية العربية المعاصرة ، الدار التونسية للنشر ، ط1 ، تونس 1993، ص 138
  • 7– محمد الهادي بن صالح ، أحمد ممو بين الإشعاع والإبداع ، المسار ، عدد 22/ 23 ، تونس ، ديسمبر 1994 ، ص109
  • 8 ــ م . ن ، ص 109
  • 9 ـــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، صفاء للنشر ، ط1 ، تونس 1980 ، ص 53
  • 10 ـــ فاطمة الزهراء ، العناصر الرّمزية في القصّة القصيرة ، دار نهضة مصر ، ط1 ، القاهرة 1984 ، ص 97
  • 11 ـــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، ص 78
  • 12 ــ ياسين النّصير ، الرّواية والمكان ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1986 ، ص 118
  • 13 ـــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، ص 66
  • 14 ـــ فاطمة الزهراء ، العناصر الرّمزية في القصّة القصيرة ، دار نهضة مصر ، ط1 ، القاهرة 1984 ، ص 71
  • 15 ـــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، ص 77
  • 16 ـــ   ، م . ن ،  ص 77
  • 17 ــ محمد الهادي بن صالح ، أحمد ممو بين الإشعاع والإبداع ، المسار ، عدد 22/ 23 ، تونس ، ديسمبر 1994 ، ص66
  • 18 ــ م . ن ، ص 109
  • 19 ــ فاطمة الزهراء ، العناصر الرّمزية في القصّة القصيرة ، دار نهضة مصر ، ط1 ، القاهرة 1984 ، ص 15
  • 20 ــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، ص45
  • 21 ـــ م ، ن ، ص 63
  • 22 ـــ م . ن ، ص 63
  • 23 ـــ م . ن ، ص 17
  • 24 ـــ    جلول عزونة ، الإبداع والرّقابة ، المسار ، عدد 8 ، تونس 1991 ، ص 134
  • 25 ـــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، ص48
  • 26 ــ يحي أبو زكريا ، البقرة الحلوب ، الناقد ، عدد 84 ، لندن 1995 ، ص 46
  • 27 ــ أحمد ممو ، زمن الفئران الميكانيكية ، ص81
  • 28 ــ م . ن ، ص 80
  • 29 ــ محمد الهادي بن صالح ، وعد الأخرس والعلاقات المتوتّرة ، الدار العربية للكتاب ، ط1 ، تونس 1988 ، ص 6
  • 30 ــ م. ن ، ص 6
  • 31 ــ م . ن ، ص 5
  • 32 ــ م. ، ، ص 9
  • 33 ــ م . ن ، ص 5
  • 34 ـــ ياسين النّصير ، الرّواية والمكان ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1986 ، ص 39
  • 35 ــ محمد الهادي بن صالح ، وعد الأخرس والعلاقات المتوتّرة ، الدار العربية للكتاب ، ط1 ، تونس 1988 ، ص 7
  • 36 ـــ م . ن ،ص 7 ـــ 8
  • 37 ــ م . ن ،ص 9
  • 38 ــ م .ن ، ص9
  • 39 ــ م .ن ، ص 7
  • 40 ـــ  عبد الحميد يونس ، معجم الفولكلور ، مكتبة لبنان ، ط1 ، بيروت 1988 ، ص 98
  • إ41 ـــ براهيم الأسود ، أحلام بحّار مُتْعَب ، الشركة التونسية لفنون الرسم ، ط1 ، تونس 1988 ، ص 104
  • 42 ـــ م.ن ، ص 104
  • 43 ـــ م .ن، ص 105
  • 44 ـــ م .ن ، ص 106
  • 45 ـــ م .ن ، ص 107
  • م46 ــ .ن ، ص107
  • 47 ــ م . ن ، ص 108
  • 48 ــ م .ن ، ص 108

(*) صَدَر هذا المقال في مجلة الحياة الثقافية ، تونس ، عدد 129 نوفمبر

اترك تعليقاً