عبد الوهاب البياتي (1926ــ 1999)
ــ1 ــ
من القاع أناديك
لساني جفّ واحترقتْ
فراشاتي على فيك
أهذا الثلج من برد لياليك؟
أهذا الفقر من جود أياديك؟
على بوّابة الليلِ
يسابق ظلهّ ظلي
ويقبع ساغباً عريان في الحقل
ويتبعني إلى النهر
أهذا الحجر الصامت قبري؟
أهذا الزمن المصلوب في الساحات من عمري؟
أهذا أنت يا فقري؟
بلا وجهٍ ، بلا وطنِ
أهذا أنت يا زمني؟
يخدش وجهك المرآة
ضميرك تحت أحذية البغايا مات
و باعكَ اهلُكَ الفقراء
إلى الموتى من الأحياء
فمن سيبيع للموتى؟
ومن سيبد الصمتا ؟
ومن منّا؟
شجاع زمانه ليعيد ما قلنا
ومن سيبوح للريحِ
بما يوحي
بأنا لم نزل أحياء
أهذا القمر الميت إنسان؟
على سارية الفجر, على حائط بستان
أتسرقني؟
أتتركني؟
بلا وطن وأكفان
صغارا ، آه قد كنا، وقد كان…
لو انّ الفقر إنسان
إذن لقتلته وشربتُ من دمِه
لو أن الفقر إنسان
ــ 2ــ
ناديتُ بالبواخر المسافرةْ
بالبجعة المهاجرة
بليةٍ ، رغم النجوم ، ما طرة
بورق الخريف، بالعنون
بكل ما كان وما يكون
بالنار, بالغصون
بالشارع الجمهور
بقطرات الماء, بالجسور
بالنجمة المحطّمةْ
بالذكريات الهرمة
بكل ساعات البيوت المظلمة
بالكلمة
بريشة الفنان
بالظل والألوان
والبحر والربان
ان نحترق
لتنطلق
منا شرارات تُضيءُ صرخة الثوار
وتوقظ إليك الذي مات على الجدار
ــ 3ــ
يطاردني بلا رحمة
يسد عليَّ بالظلمة
شوارع هذه المدن التي نامت بلا نجمة
يطل عليَّ من كأسي
ويستلقي على الكرسي
جريدتهُ تغطي نصفه العاري
لفافتهُ بلا نار
مخالبه بأغواري:
جليد أسود ورماد أمطار
أهذا أنت عبر زجاج مقهى الليل في المطرِ؟
بلا عينين، كالقدرِ
تحث خطاك في أثري
تطاردني إلى الوادي
أهذا أنت يا جاري؟
كأن شوارع المدن
خيوط منك يا كفني
تطاردني
تُعلقني
على شباك مستشفى
ومن منفى إلى منفى
تسدّ عليّ بالظلمة
شوارع هذه المدن التي نامت بلا نجمة
أما في قلبك الحجري من رحمة؟
ـــ 4ــ
غريباً كنت في وطني وفي المنفى
جراحاتي في غدٍ فاها
لتسألني
لتصلبني
على شباك مستشفى
فأوّاها
بعيد أنت يا وطني
كحلم عبر نافذة القطار أراك في الوسن
نخيلك في ضباب الفجر أيقظني
أهذا أنت يا قدري؟
تجر وراءك العربات والموتى
وتنصب في الطريق لنا الشِراك وتسرق البسمة
وتُغرق هذه الغابات بالعتمة
عصافير بلا عشٍّ
وأنت تدق في الرفش
على بوابة الفجرِ
لتحفر في فنادق هذه المدن التي ماتت ومات ربيعها
قبري
لتمنح خادم المقهى الذي استنزفنه أجرى
غني أنت يا فقري
سيسرقك اللصوص وأنت لا تدري
ــ 5ــ
أتسمع صيحة الديكِ؟
هي الثورة؟
ملاك أنت فوق جبينه زهرة
يقول لجاره ويموء كالهرّة
كأن الليل قيثارة
ولكن المبغي صامتٌ وسماؤه خرساء منهارة
وجاري يقلب الكرسي
ويُغرق ضاحكاً عينيه في كأسي
أبيعك رأس “فينوس” بقرشيْن
ولوحاتي وخرقة ذلك الدرويش بالدّيْنِ
أبيعك هذه الشمعة
إذا أوقدتها حملتك أجنحة من المتعة
إلى قلعة
بها الإنسان لا يسأم
ولا يشقى ولا يهرم
يُقضّي عمره في ليلها الأبدي لا يحلم:
بصيحات العصافيرِ
وميلاده الأزاهير
ولكن الرياح، ستطفئ الشمعة
فنغرق هذه القلعة
سيحرق نفسه جاري
ويبقى ذلك الحبل الثقيل بغير أنوار
فأوّاها
أتنطلق هذه الصخرة؟
وتفتح في غدٍ فاها
ويجري الماء منها قطرةً قطرة
وتنبت فوقها زهرة
وتحملني ليالي الصمت للمقهى
شريداً ما له مأوى
يجوب شوارع المدن التي نامت بلا نجمة
على عكازة ويغيب في الظلمة
ــ 6ــ
قلت: لكم أعود
لكني احترقت في الموانئ البعيدة
أصابني الدوار، زلّت قدمي
سقطتُ في المصيدة
أوْسمتي، شارةُ حبي سرقت
وكانت القصيدة
أسلحتي الوحيدة
في مدن العالم، في منازلي الشريدة
بها فقأت عيون اللصوص والضفادع البليدة
من يشتري قصيدة؟
لقاء هذا القمر الغارق في بحيرة السماء
فوق القمم المديدة
لقاء هذا المطر الأخضر،هذي الزهرة الفريدة
ومن يفك الشاعر الأسير؟
من أسره، من ظلمات عصرنا، من قلق المصير
الشعر كان قدري يا قاتلي الأخير
من يمسح التراب عن زجاج هذا الفندق الحقير؟
وقعت في الكمين
يا أيها الشاهد، فأحلف لهم اليمين
ولتمسح النجوم بالمنديلْ
فليس للعالم من بديل
وليس للثورة من سبيل
الا بأن تدكّ هذا الجبل الثقيل
وقعت في الكمين
فامشِ على رأسك ولتصفق الليلة باليسارة ، باليمين
فحفلةُ الليلة ليست فرحاً محضاً وليست أبدا تأبين
سقطت في المصيدة
فاكتب لنا قصيدة
عن النجوم وانهِها نهايةً سعيدة
قلت لكم: أعود
لكني احترقت في الموانئ البعيدة
وكانت القصيدة
أسلحتي الوحيدة
بها فقأت أعين اللصوص والضفادع البليدة