الناقد التونسي الطّلائعي ، محمد صالح بن عمر: أفق إصلاح الثقافة في تونس … ؟

حوار: أجراه ، حمادي الغِشّير

الناقد الطلائعي محمد الصالح بن عمر ،  طريف ، متواضع ، زاهد في الحياة ّ،يُرى طيلة ساعات في الصباح وفي المساء ، وهو يمارس رياضة المشي وأحيانا العدو رغم تقدّمه في السّنّ، ويصعد الروابي دون لهاث  كأنه في العشرين من عمره ،  ميّال إلى الفكاهة والنّوادر، سكوت ،  دائم الابتسام ، مدافع شرس عن الحق ، له خصوم كثيرون في الساحة الثقافية أشهرهم :المرحوم عبد الله مالك القاسمي الذي كتب ضده عشرين مقالا ، وحسّونة المصباحي العدو الأول لحركة الطليعة ، التقيناه ــ على حين غفلة ــ وهو يتمشّى  بتؤدة وحذر قرب بيته ، وكان  طورا يمسّد على ذقنه ، وبين الحين والآخر يسوّي قبّعته العجيبة ، ورغم  تواريه تحت القبّعة عرفناه ، فرحّب بنا في مقهى شعبي قرب مسكنه ، وأدلى لنا بالحوار التالي :

 

الشاعر الراحل ، عبدالله مالك القاسمي
  الشاعر الراحل ، عبدالله مالك القاسمي
الروائي حسونة المصباحي
الروائي حسونة المصباحي

 

●السيد ،  محمد الصالح بن عمر، نهنئك بالتكريم الذي حبتك به وزارة الثقافة بمدينة الثقافة ، ولا أحد ينكر أنك جدير به ، ماعدا الحاسدين والفاشلين والمكابرين ومن لف لفهم .لكننا لا نخفي عليك أن مسيرتك النقدية منذ الستينات يشوبها شيء من الغموض يحسن بنا أن نحاول تجليته معك لو سمحت .وأول نقطة تستوقفنا في هذه المسيرة الطويلة التي تمتد على  أكثر من نصف قرن دورك النشيط الفعال في الدفاع عن حركة “الطليعة ” التي نضع تسميتها بين ظفرين لأننا لا نعرف ان كانت تستحقها أم لا .فقد كانت حركة إقليمية  انفصالية صريحة تتنصّل من الأرومة العربية وتربط نفسها بما سماه المرحوم محمد مزالي “الأدب الجاهلي التونسي” ووجدت فيك وفي أحمد حاذق العرف بوقيْن دعائييْن مكّناها من فرض نفسها في الساحة الثقافية المحلية  قبل أن تنحل بسرعة وتختفي الى الأبد .فهل كان الحزب الدستوري الحاكم هو الذي جنّدك وأحمد جاذق العرف  للقيام بهذه المهمة ؟

الصحفي ، الناقد ، أحمد حاذق العرف

ـــ أولا لا معنى في تقديري  لما تسميه “إقليمية ” .فتونس لم تكن متّحدة   ترابيا مع دولة أخرى ثم انفصلت عنها  كما انفصلت سورية عن الجمهورية العربية المتحدة  التي كانت تضمها هي ومصر .فمنذ خروج الفاطميين من القيروان في اتجاه مصر سنة 362 للهجرة / وهذا الشعب مستقل عن المشرق  العربي .وأي مجموعة بشرية مهما كانت تعيش وحدها ألف سنة لا بد أن تتخلق لديها عادات وتقاليد  ولهجة وقيم ورموز وأن تتجمع  ضمن رصيدها التاريخي محن وانتصارات وخيبات  تؤول جميعا  إلى  تشكل هوية أو ذاتية أو لتسمّها ما شئت .ثم إننا نرى العراقيين حتي في ظل نظام صدام حسين يعتزون بماضيهم السومري والأكادي والسوريين بماضيهم السرياني واللبنانيين بماضيهم الفينيقي والمصريين بماضيهم الفرعوني فلم تنكر علينا الاعتزاز بماضينا السابق للفتح الإسلامي وهو جزء لا يتجزأ من تاريخنا ؟

ومع هذا  فالطليعة استعملت اللغة العربية في المقام الأول وحرص مؤسسها وزعيمها ومنظّرها  عز الدين المدني في قصصه ومسرحياته على النهل من أمات كتب التاريخ والأدب العربيين  منها خاصة تاريخ الطبري وتاريخ ابن عذاري ورسائل الجاحظ وحكابات ألف ليلة وليلة .فالطليعة لم تكن حركة انفصالية عن الأدب العربي بل  تتنزل فيه بعمق  إلا أنها رفضت أن تكون مجرد صدى للأدب المشرقي بالمفهوم الذي قصده الوزير  الأديب الصاحب بن عباد حين وصله كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي وكان قد صاغه على منوال كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ” هذه بضاعتنا ردّت الينا”.

الكاتب المسرحي ، عزالدين المدني

. فالطلائعيون التونسيون  أرادوا إغناء الأدب العربي  بإنشاء فرع جديد له  لكن متميز عن الأدب المشرقي .فكانت القصة التجريبية التونسية  وقصيدة “غير العمودي والحر” والنقد الذي يمارس المناهج الحديثة  دون الوقوع في الإسقاط  وكل هذا كان إضافة إلى الأدب العربي لا   انفصالا عنه .

ولكم كنت تعجبني مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة ” هناك الوطن الأ كبر والوطن الأصغر”.فتعلقنا بتونس لا يعني انفصالنا عن الوطن العربي.

●لا نهرب  من الموضوع الذي نحن بصدد الحديث فيه .هل التونسيون في نذرك عرب أو غير عرب؟

  • التونسيون عرب لكن ليس بالمفهوم العرقي البغيض . فالمفاهيم العرقية بأنواعها مرفوضة لأنها تدخل في الفكر العنصري المدان اليوم عالميا . إنما كل من عدّ اللغة العربية لغته الرسمية فهو عربي. وهذا ينطبق كل الانطباق على التونسيين ولا شك في ذلك لكنهم تونسيون عرب. وبهذا المعنى لا يمكن أن ننكر وجود هناك نقاط اتفاق ونقاط اختلاف بين كل شعبين عربيين

وكذلك التونسيون مسلمون لكنهم ليسوا مسلمين في المطلق لأن بينهم نقاط اختلاف مثلا وبين عدة شعوب إسلامية أخرى كالإيرانيين والأفغان والشيشان والقطريين والبحرينيين والأتراك. والتونسيون متوسطيون لكنهم يختلفون عن أقرب شعوب البحر الأبيض  إليهم كالايطاليين والفرنسيين والإسبان الذين احتلون لكننا استقللنا عنهم  .وهكذا كما ترى تتأسس الهوية التونسية أوّلا على الانتماء إلى الأرض ثم تغتنى بعناصر وافدة من خارجها فرضها التاريخ والجغرافيا لذا فأنا تونسي عربي وتونسي مسلم وتونسي متوسطي ولست عربيا في المطلق ولا مسلما في المطلق ولا متوسطيا في المطلق.

●لكن إذا تمسك كل قطر عربي بهويته فعلينا أن نقبر فكرة الوحدة العربية  التي لن يتقدم العرب إلا بها .

  •  عمليا الوحدة العربية قد تحققت ثقافيا والحمد لله بفضل الفايسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي.انظر مثلا  كم من شاعر عربي وشاعرة عربية في منتخبي الشعري العالمي. وهذا هو الشكل الصحيح للوحدة. أما سياسيا فمن الأخطاء الدعوة إلى وحدة عربية اندماجية اليوم وإخضاع كل العرب لحكم مركزي فمثل هذه الدولة ستبقى إلى الأبد مهددة بالحركات لانفصالية ولن تتفرغ للتنمية والبناء .إن أفضل شكل للوحدة العربية هو أنموذج الاتحاد الأوروبي الذي مكّن أروبا من التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي مع حفاظ كل قطر من أقطاره على استقلاله الداخلي.

● الاستاذ محمد الصالح ، الوضع الثقافي في تونس مترد .فقد خفّض في  ميزانية وزارة الثقافة خلال العشر سنوات الماضية بنسبة أكثر من خمسين في المائة .وهو ما انعكس سلبا على النشاط الثقافي بوجه عام وعلى الكتاب الذي هو دعامة أي  ثقافة وطنية .فكيف ترى الخروج من هذا الوضع؟

– في كلامك شيء من الصحة وهو أن وضع الثقافة  في تونس قد تدهور لكني أربأ بنفسي عن توجيه التهم إلى أي طرف كان  لأن التدهور كما قلت شمل كل القطاعات لا القطاع الثقافي فحسب. والسبب هو سوء فهم حقيقة ما وقع  قبيل الثورة .فما وقع فعلا هو تغيير عميق طرأ على البنية السوسيولوجية للمجتمع التونسي.وذلك  بتضخم فئة كانت في بداية الثمانينات جنينية. وهي فئة العاطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا لكنها بداية من أواخر التسعينات تضخمت .وهو ما أجبر الدولة إذ ذاك على إحداث مناظرة الكاباس .لكن تلك المناظرة لم تف بالحاجة لأن عدد المراكز التي كانت تفتح في نطاقها لا يتجاوز الثلاثة آلاف مركز ثم ازدادت تضخما إلى أن بلغ عدد أولئك الشبان والشابات  سنة 2010  نصف مليون شاب وشابة فتحركوا سلميا للمطالبة بحقهم في العمل فتدخلت أطراف خارجية لها أجندات معروفة من قبل  فأطيح بالنظام .وعندها جاء معارضو بورقيبة وابن علي وقالوا نحن البديل الذي سينقذ تونس من الفقر والاستبداد والفساد ويجعل منها سويسرا العرب. لكنهم عجزوا عن تسيير شؤون البلاد ولم يفتحوا  حتى اليوم الملف الرئيسي وهو ملف بطالة الشباب الحاصل على الشهادات العليا والملف المرتبط به وهو ملف تنمية الجهات المهمشة .والسبب الحقيقي لهذا الفشل هو العجز عن التسيير  مع عدم استقرار الحكومات والتطاحن اللفظي المستمر بين الأحزاب لأن  تونس بلد صغير  مساحته أصغر من مساحة ولاية من ولايات الهند   لا يزيد عدد أفراد شعبه على  اثني عشر مليون نسمة أي  تقريبا ثلثي سكان القاهرة .

فما الحل؟ الحل كان سهلا في سنة 2011 لأن ديون الدولة انذاك لم تكن تتجاوز خمسا وعشرين في المائة أما اليوم  فمديونية تتجاوز الخمس والسبعين في المائة و أجور موظفي القطاع العام تبتلع نصف ميزانية الدولة التي يقترض جانب كبير منها من صندوق النقد الدولي بدلا من استثمار ما يقترض في التنمية وإحداث مواطن الشغل نحتاج إلى عشر سنوات من البذل والكد والتقشف للخروج من هذا الوضع مع التعويل على الإعانات الخارجية من البلدان الصديقة التي وقفت الى جانبنا بعد الثورة وهي ألمانيا وفرنسا و إيطاليا التي توفر مؤسساتها المنتصبة في تونس اليوم  حوالي مائة ألف موطن شغل  مع الأمل في أن تغير الدول العربية الثرية طريقة تاملها ع تونس وهي ربط تقديم الإعانات لها باجبارها على الاصطفاف وراءها سياسيا

إذن نرجع الآن  إلى سؤالك :الثقافة في تونس لن تخرج من وضعها الحالي إلا بالتخفيف من حدة المشكلات الاقتصادية المتراكمة.وهذا ممكن تدريجيا مع القيام بالكثير من التضحيات مثل منع استيراد الكماليات لفترة طويلة والإقبال على كل ما هو تونسي محلي .

●وهناك تهمة أخرى موجهة إليك وهي أنك في التسعينات أعليت من شأن من سُمُّوا بشعراء التسعينات” وهم مجموعة من الشعراء والشاعرات اتخذوا الهذيان أسلوبا في الكتابة ومن التهويمات  غرضا لها بدعوى تصويرهم لذواتهم من داخل اللاوعي .ولقد شكلوا فريقا هيمن على الساحة الثقافية وهمّش الشعر النضالي الثوري الذي قاده الشاعر الكبير محمد الصغير أولاد أحمد وقد أشيع إذ ذاك أن التجمع الدستوري المنحل هو الذي مول سرا تلك الموجة الشعرية                                                                                                                                                                   

  • أطمئنك سي حمادي الغشّير بأني لم تطأ قدماي في حياتي شعبة دستورية ولا لجنة تنسيق حزبي ودار التجمع دخلتها  مرة واحدة بإلحاح من أستاذي منجي الشملي الذي دعاني سنة 2008 إلى حضور محاضرة ألقاها هناك  عن الطاهر الحداد .وليتني ما حضرت، لأني وجدت مجموعة من الشعراء والكتاب رأيت واحدا منهم بعد الثورة بأسبوعين فقط في لقطة تلفزية يلقي  شعرا ثوريا بنادي الطاهر الحداد ومعه عازف على العود وتحول آخرون إلى ثوريين أكثر من شي قيفارا .

كل ما في الأمر أن شعراء التسعينات جيل ظهر مباشرة بعد  انهيار المعسكر الاشتراكي وانقسام الصف العربي على إثر اندلاع حرب الخليج الثانية ضد العراق فأدىت الصدمة التي حلت بالعرب عامة إلى انكفائهم على ذواتهم  ويأسهم  من المستقبل العربي فكتبوا بأسلوب اختلف عن أسلوب سابقيهم الذين كانوا واثقين من أنفسهم ومن وضوح رؤاههم فطفقوا يخاطبون الجماهير ويستحثونها على الفعل.

لكني لم أتخصص في شعر شعراء  التسعينات بل كتبت في الفترة نفسها عن شعراء وكتّاب كثيرين ينتمون إلى الأجيال السابقة منذ بداية القرن العشرين. وتجد دراساتي عن هؤلاء في مجلة “رحاب المعرفة “للمرحوم جعفر ماجد وفي كتبي المختلفة التي صدرت في تلك الفترة وبعدها بقليل. وهكذا فشعراء التسعينات شعراء تونسيون ظهروا في ظرف تاريخي  معين أثر في مواقفهم من الواقع وفي أسلوبهم فكان من باب الموضوعية الاهتمام بهم كغيرهم من أجيال الشّعر التّونسيّ..أما حزب التجمع فكان الشعر من آخر اهتماماته.

● لماذا لم ترفض الجائزة التقديرية في النقد التي منحك ايها الرئيس المخلوع سنة 2010؟

  • لماذا أرفض تلك الجائزة وأنا صاحب أكبر مدونة نقدية عن ؟لأدب التونسي؟ ولماذا أرفضها وقد تسلمها منه أساتذتي الكبار عبد القادر المهيري وأحمد عبد السلام ومنجي الشملي ومحمد السويسي ومحمد اليعلاوي وتوفيق بكار،  ..،  وقد شكروه على إسنادها إليهم ؟ بل لم يرفضها حتى أدباء عرب مثل المغربي محمد بنيس الذي جاء إلى تونس وتسلم تلك الجائزة منه وشكره. 

●كان الشاعر الكبير محمد الصغير أولاد أحمد يشتكي منك لأنك تجاهلته ولم تكتب عنه .

الشاعر الراحل ، محمد الصغير أولاد أحمد

محمد الصغير ولاد أحمد كان صديقا حميما . فقد اشتغل معي في جريدة “الرأي” المستقلة من سنة 1979 الى سنة 1983.وذلك  قبل أن يعرف شاعرا .وكنت أول من نشر له قصيدة في الصفحات الثقافية “للرأي” لكنه فيما بعد هاجم النقاد مرارا وتكرار في ركنه الأسبوعي بمجلة “الملاحظ”واتهمهم بالتمعش مما ينتجه الشعراء والقصاصون والروائيون . لذلك كان من حقي ألا أكتب عنه وصارحته بذلك . لكن ضميري يوبخني أحيانا لأن أولاد أحمد كان من القلة التي دافعت عني سنة 1990 حين شنت تلك الحملة الضخمة ضد مختاراتي الشعرية التي صدرت عن “بيت الحكمة” بقرطاح .فنشر أولاد أحمد مقالا مطولا ساحقا بمجلة “المغرب”  ضد عبد الله مالك القاسمي ومن انضم إليه من خصوم المختارات ، إلا أني أجد نفسي اليوم عاجزا عن الاهتمام به لا بالكتابة عنه ولا بتنظيم ندوة عنه لأن السياسيين استحوذوا عليه فلا تستطيع أن تقول فيه كلمة إلا مدحا وهذا يتعارض مع قناعاتي النقدية  فلا يوجد أي كاتب و شاعر فوق النقد. ثم هؤلاء السياسيون  لم يتورعوا عن تزييف تاريخه .فقد حرر المرحوم  ركنا أسبوعيا بمجلة “الملاحظ” من سنة إنشائها 1993 إلى سنة توقفها 2011.أي إنه  كتب في تلك المجلة ما يقارب الستمائة مقال .لكن حين توفي ونشروا في الصحف ترجمته ضربوا صفحا عن  ذلك الكم الضخم من المقالات .فأي ناقد موضوعي يستطيع أن يدرس آثار أولاد أحمد في وضع هذا؟                                                                                          

اترك تعليقاً