حوار أجراه : الهادي غابري مع د . محمد رجب النجار*
●الدكتور محمد رجب النجار هل لك ان تعرف بنفسك؟
ــــــ الدكتور محمد رجب النجار حاصل على درجة دكتوراه في الأدب الشعبي العربي من جامعة القاهرة سنة 1976، وأعمل الآن أستاذا للفلكلور في جامعة الكويت ،وحاصل على درجة الأستاذية منذ أكثر من ثمانية عشر عاما ،ولي عدد هائل من البحوث والكتب ،وكلها تتمحور حول أهمية التراث الشعبي وكيفية الإفادة منه على كل المستويات،بدءا من فهم تاريخنا الاجتماعي والحضاري ، وإنتهاء بالجماليات، الإبداع الشعبي ، وكيفية توظيفه في الأعمال الإبداعية المعاصرة ،انطلاقا من أدب الطفل مرورا بالأدب الروائي والشعري، وانتهاء بالإبداع المسرحي. وقد انفردتُ بإعادة قراءة التراث العربي من منظور فولكلوري، فتحتُ عليه نافذة جديدة أستطيع أن أعيد من خلالها قراءة هذا التراث قراءة تثريه وتغنيه، وتستطيع أن تضعه في قلب الحاضر بدلا من أن يظلّ كامنا في أحضان الكتب والمكتبات. هذه مقدمة بسيطة قدمتُ بها نفسي ،لأنه من الصعب على المرء أن يقدم نفسه بنفسه، لأن حديث الذات عن الذات فيه شيء من النرجسية، وفيه شيء من الغرور، ولذا أكتفي بهذا التقديم لنفسي المختزل
●.يتصدّر التراث العربي بمأثوراته الشعبية المواجهة والدفاع عن سلّم القيم العربية المتبقية بعد سلسلة من النّهب المحلي ، والخارجي لأنماط التراث المادي والفكري والفني في فترات الانحطاط العربية التي مسحت تاريخا يمتدّ إلى اليوم، وربما أصبح نَهْبُ التراث أعمق في شكله ومضمونه في عصرنا الحالي، فكيف تفسر ذلك؟
ـــــــ بدايه دعني أتحدث عما تقصد بالتراث وبالمأثور الشعبي،فالتراث بمعناه المعروف هو ما يعادل الآن مصطلح ثقافة بالمعنى الأتروبولوجي ،أي كل أثر عن العرب من تراث مادي، حضاري، فكري، قيمي، ومعنوي اجتماعي.وإذا أخذنا التراث بالمعنى الثقافي فإن المأثورات الشعبية تمثل تحديدا جوهر الثقافة الشعبية لأن الثقافة العربية منذ القرن الثالث شرعت تزدوجُ فأصبحت ــ هناك ــ ثقافة للخاصة وثقافة للعامة، هيمنت ثقافة الخاصة لأنها ثقافة سلطة فهمّشت الثقافة الشعبية لصالح الثقافة الأولى، في حين كانت الثقافة الشعبية هي وحدها الأكثر صدقا وتعبيرا عن الإنسان والهم العربي في كل فنون الإبداع الشعبي التقليدي، وربما ما زاد من تهميشها أن الإبداعات والمأثورات القولية قد إستطاعت أن تواجه ببساطة وشجاعة المسكوت عنه ، وأن تنقذ كل ما هو خارج من منظومة القيم العربية الموروثة سواء على المستوى السياسي ، أو الإجتماعي أو على مستوى ثقافة الصفوة نفسها – وللأسف- ثقافة الصفوة دارت في فلك السلطة والسلطان، ولو صنفنا الشعر العربي مثلا لوجدنا ربعه في المديح ، وربعه في الهجاء وربعه في الوصف وربعه الآخر في الرثاء، هذه هي المشكلة إذن، فأين الإنسان العربي من موروثه الرسمي؟ لا وجود له! – وللأسف – التراث العربي الرسمي متمثل في أمرين فقط وهما الشعر وفن الرسائل يدوران في فلك السلطة سلبا وإيجابا؟ أما الإبداع القولي الذي ساير الشعب وعبر عنه فيتمثل في شؤون كثيرة هي كلها فنون مهمشة بدءا من التراث السردي الذي يبدأ بالنوادر والنكت، و النادرة الشعبية هي أفضل وسيلة لقول المسكوت عنه والمحظور ، وكذلك السير والملاحم الشعبية قد انتقدت الذات العامة ، ودافعت عنها إبان العصر المملوكي عندما سقطت الحضارة العربية الإسلامية وحينما تخلى أدباء الصفوة عن الشعب أبدع الشعب لنفسه من نفسه شعراء مبدعين ورواة تغنوا بقيمه ومثله العليا كماهي في الواقع ، بل لما ينبغي أن تكون حتى في مجال النوادر، وهي تختص بالنقد الإجتماعي اليومي فإنها كانت تطمح دائما إلى الدفاع عن نفسها، وأن تضع يدها على موضع الجرح في الذات في ممارستها اليومية فكانت المأثورات الشعبية هي الإبداع الحقيقي الموروث عن القيم العربية، ومثلا إذا نظرنا في سيرة عنترة ابن شداد وهي السيرة العربية الوحيدة التي تتغنى بالحرية الفردية ، وهي المقدمة الطبيعية لتحرير الجماعة، فأين هذا من الأدب الرسمي؟ وإذا نظرنا أيضا في سيرة الأميرة ذات الهمة أول، وأضخم سيرة في الأدب العالمي كله تتعهد ببطولتها إمرأة، وهذه المرأة أطلق عليها في السيرة نصف الأمة، ومعنى هذا أن الأدب الشعبي كان يحمل قيما إيجابية لفائدة المرأة في العصور الوسطى ، وعندما ازدوجت الثقافة بدأت المرأة توأد، وإن كان الوأد هنا معنويا ، وكأننا في حالة ردّة وإذا نظرنا في سيرة بني هلال -وهي سيرة غريبة جدا – ولكنها حقيقة وواقعية وهي تتغنى ، أو تتمحور حول مشكلة التنازع ، أو النزاع أو الصراع ما بين القيم القبلية الكامنة في الذات العربية ، وما بين النزوع القومي لها، لذلك تنتهي هذه السيرة نهاية مأساوية يمثلها ويجسدها المثل القائل:” كأنك يا بو زيد ماغزيت! هذه ليست نهاية بطل ملحمي على الإطلاق، بل هي نهاية بطل تراجيدي تضع يدنا على مأساة الذات العربية العامة في نزوعها القومي في بعض العناصر التي تنتزعها إلى الجانب القبلي، سواء بمعناه الإجتماعي أو بمعناه السياسي، والعيب -هنا- لم يكن في الجانب الاجتماعي، وإنما في الجانب السياسي. وأما سيرة “الظاهر بيبرس” فهي تتغنى أو تبحث أو تنشد عن الإيطوبيا أو مجتمع الكفاية والعدل كما تتخيله الشعوب المقهورة،..وقد عبرت كثير من الشعوب عن الظلم بمعنى الإجتماعي والسياسي في إبداعها الشعبي ، بحثا عن عالم أفضل بالإضافة إلى النزعة التعويضية التي كانت تحاول انتشال الإنسان العربي من وحدة اليأس والإحباط اليومي. أنا أتحفظ – أولا- عن كلمة الانحطاط لأنها شائعة في الآداب العربية. إن مصطلح عصور الانحطاط يطلق على العصر المملوك والعثماني وأنا أرى أنها عصور سقوط، ، ولكن لا يعني هذا أن نتجنبها في الدرس العلمي فهي – شئنا أم أبينا – جزء من ثقافتنا ونحن اليوم لا زلنا نعيش جزءا وقيما ورثناها عن العصر المملوكي ،وعندما انتبهنا في هذا العصر الى دراسة المأثورات الشعبية كان الوقت قد تأخر بمعنى أن المستشرقين كانوا قد درسوا هذا التراث ، واستلبوه لغاياتهم على عدة مستويات ومنه: التشكيك في التراث العربي واعتباره تراثا لفظيا لا إنشائيا ، وأنه لم يعرف الملحمة والمسرح والتراث السردي- مع أن العكس هو الصحيح تماما- وقد وصل التشكيك بالمستشرقين إلى حد إعتبار ألف ليلة وليلة تراثا فارسيا ، وكليلة ودمنة قالوا أنها مترجمة عن الهندية أو الفارسية – مع أن العكس هو الصحيح- وكان يهدف المستشرقون من وراء ذلك إلى اتهام العقلية والمخيلة العربية بأنها عقيم لا تعرف الإبداع ، ومن ثمة فهي عقلية تبعية ، ومعنى هذا فرض الهيمنة الأوروبية أيام الإستعمار وفرض نوع من الهيمنة الثقافية- الآن – في عصر العولمة من خلال – أولا – بداية استلاب إسرائيل للتراث الفلسطيني وتقدمه للشعوب الأوروبية ، وللعالم كله على أنها فنون إسرائيلية أصيلة، وفي هذا مغالطات تاريخية – لا أول لها ولا آخر- فاليهود يعرفون جيدا قيمة الفولكلور ومعطياته التاريخية، دلالته الحضارة بالنسبة إلى الثقافات العالمية فقاموا باستلاب التراث الفلسطيني، وقد شاهدت أكثر من مرة في المحافل الدولية الثوب الفلسطيني يقدم على أنه أفضل زي شعبي عالمي واسرائيلي ، وكذلك الدبكة الفلسطينية والأغنية الشعبية أنها أفضل أغنية إسرائيلية، كل هذه الأشياء يشارك بها الإسرائيليون في المهرجانات الثقافية والفنية العالمية على أنها إبداع إسرائيلي، وكانوا يعرفون جيدا عقدة أمريكا في التراث إذ هي تعتبر كل شيء مرّ عليه ثلاثون سنة تراثا لأن أمريكا دولة خليط وجديدة ، ولا تمتلك تراثا عريقا ومن هنا يأتي اعتزازها جيدا بالتراث، والمهم أن إسرائيل عرفت كيف تخاطب العقل العالمي بلغة العقل العالمي من خلال لغة التراث العربي المسلوبة ، وقد كانت إسرائيل حريصة على أن تسلب الثقافة قبل أن تسلب الأرض لأن الثقافة جوهرها التراث الشعبي،وكنت قد ناديتُ في بداية السبعينات على الإهتمام بالتراث الشعبي الفلسطيني- واحمد الله – أن منظمة التحرير – آنذاك- استجابت وأسست وحدة خاصة بدراسة الفلكلور – ولي دراسات كثيرة في هذا المجال- ربما لا يعرف الكثيرون أنني كنت أول من رفع صوته مناديا بالحفاظ على الذاكرة الشعبية الفلسطينية من خلال تراثها ، وقد صدرت لي دراسة حول التراث الشعبي الفلسطيني في مجلة التراث الشعبي العراقية سنه 1974 هذه الدراسة الحكائي الفلسطيني، و قد ترجم بعض التراث الفلسطيني باللغة الإنجليزية بقلم أحد المستشرقين ومع ذلك لم يتورع اليهود عن استلاب هذا التراث ، وقد كنت أول من أفصح عن الأصول العربية لهذه الحكايات، وباختصار شديد الهوية تعني الثقافة ، والثقافة تعني أن جوهرها هو التراث الشعبي والعناية بهذا المأثور يعني تحديد الهوية وإبراز الخصوصية الثقافية التي هي خط الدفاع الأول في معركتنا الحضارية – الآن- بل ستزداد أهمية هذا الخط مع عصر العولمة ، وهو خط دفاعنا الأول والأخير وإذا فرطنا فيه فرطنا في كل شيء.
●يستدعي الروائي العربي التراث القديم ، ويسقطه على الواقع الحالي لأن الحاضر يُفسّر بالماضي المقيت الذي استبد فيه العنف سواء أكان ذلك العنف رسميا ــ صادرا عن السلطة -أو شعبيا وهو ما سعى إليه الروائي المصري جمال الغيطاني” في روايته ” الزيني بركات” فاستدعى أيام حكم المماليك بمصر لينقذ الواقع في مصر ــ خلال سنوات الستينيات من القرن العشرين ــ فكيف ترى دواعي هذا الاستلهام للتاريخ القديم بتراثه؟
ــــ أولا لا تعارض بين الوظيفتين : الوظيفة الجمالية ووظيفة القناع، فالأدب الشعبي – على مر العصور- كان يتّسم بأنه أدب مجهول المؤلف، وهذا الجهل بالمؤلف أعطاه مساحة من الحرية للتعبير عن المسكوت عنه ، كما نجد أيضا فنونا شعبية متخصصة في نقد الهيأتين السياسية والإجتماعية، وهذا التراث كان وليد عصره بالضرورة ، و في العصر الحديث يعيده بشروطه هو ، وبالشروط المعاصرة ، وشروط ومعطيات المجتمع ، وأعظم ما في التراث الشعبي أنه أولا تراث معروف عند المتلقي، وحين يستلهمه الروائي ويعيد خلخلته فأنه يعيد خلخلة أفق المتلقي ليطرح عليه قضايا جديدة ، وفي هذا يلعب الروائي دور الإدهاش على المستوى الوظيفي بطرحه قضايا جديدة معاصرة بالتراث، وبذلك يتجاوز الروائي الخطوط الحمراء سواء كانت على المستوى الرقابي الديني والرقابي السياسي. ومجرد إحياء التراث في حد ذاته ليس مهما، ولكن كيف يمكن توظيف هذا التراث في النص الأدبي كقناع أو كبنية شكلية فيعيد الروائي تحميله بنية مضمونية مخالفة ، وإلا ما فعل شيئا، هذا عادة المفهوم من كلمة استلهام، و الأقنعة كثيرة خاصة تلك التي يقدمها التراث والإبداع الشعبي ليس على مستوى الإبداع العربي ، بل على المستوى العالمي كله ولعلنا نذكر كتاب “الحيوان” “لجورج هنري” وقد انتقد من خلاله المجتمع الأمريكي والمجتمعات الرأسمالية، ولكن على مستوى الإبداع العربي نعرف هذا النمط بدءا من كليلة ودمنة الذي يروي قصة الصراع بين الثقافة والسلطة كما يقول ابن المقفع “إن الصراع بين القلم والسلطة صراع غير متكافئ عسكريا ، فعلى العلماء أن يتحيّلوا بأنماط الحيل، ومنها حيلة الحيوان فكانت أول قناع نعرفه في التراث العربي ، ثم جاء قناع آخر مواز له في الزمان والمكان وهو القناع الجحوي وهذا القناع وظفه الروائي العربي في نصه على أنه يتحدث عن جحا التاريخي ، بينما الحقيقة هو يتحدث عن جحا المعاصر هذه المجازية أو هذا القناع المجازي – إن صح التعبير- يعلن بقدر ما يضمر فهو يقول ولا يقول في نفس الوقت ، لأن التلاعب بهذا القناع يستطيع أن ينجي المبدع في صراعه مع السلطة فيعطيه قدرا من المساحة فيقول ما يريد دون الوقوع في قبضتها، وبطشها وعلى كل حال هذا القناع عرفناه منذ أيام إبن المقفع وقد عرفنا توظيف شخصية جحا مع أحمد علي بالكثير عندما كتب “مسمار جحا” ناقدا الإستعمار الانقليزي والقصر في ذلك الوقت ، ورغم اعتراض القصر والرقابة على هذا العمل ، ولكنهم لم يستطيعوا تقديم دليل يوقفون به المسرحية، وقد تقنع أيضا توفيق الحكيم بشخصية شهرزاد في بداية إبداعه المسرحي وإنتهاء المسرحية الشهيرة “مجلس العدل” التي نقد فيها مجلس الأمن الدولي ، وعلى وجه التحديد التواطؤ الذي تم بين أمريكا وبين إسرائيل كما كتب أيضا السلطان الحائر ويا طالع ، وكل هذه الأعمال وظف فيها الحكيم المأثورات التاريخية لنقد الواقع الإجتماعي والسياسي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، وقد حاول المويلحي أن يستلهم فن المقامة لنقد المظاهر السلبية في المجتمع المصري ، ولكن بلغ الإستلهام للتراث ذروته مع جمال الغيظاني وغيره من المعاصرين الذين استحضروا الخطاب الشعبي ، والخطاب التاريخي المملوكي الذي كان فيه التاريخ تراثا شعبيا لأن المؤرخين في هذه الفترة كانوا أشبه بالمدوّنين لما يدور في حركة الحياة اليومية، فالتاريخ عند إبن إياس والجبرتي مثلا هو ضرب من القص الشعبي مهما تقنعا بقناع التاريخ. والعلاقة بين التاريخ وبين القصة ليست علاقة بعيدة، لكن البعض من الروائيين استطاعوا أن يستلهموا ذلك الخطاب سواء في صورته التاريخية أو في صورته الشعبية وتقنعوا وراءه، و القناع هنا ليس بالضرورة أن تختبئ الروائي ، ولكن القناع أن يتخذ الروائي شخوصا تبدو وكأنها تعيش في الماضي، لكنها تخاطب الحاضر فعين على الماضي السحيق بمفاهيم معاصرة، وعين على الحاضر لتقول لنا عن أنماط التماثل أو التعارض مع هذه الفترات التي تبدو مذهلة في تاريخنا ، وكأن الروائي يقول للسلطة حذار… حذار فالبقاء للشعوب وليس للحكام وقديما قالوا :» إن التاريخ تصنعه العامة ويمليه الملوك.«
●لماذا تُحــارب البحوث التراثية ــ اليوم ــ في الوطن العربي ــ سواء أكانت بحوثا أدبية أو تاريخية ، ولا سيما إذا قُدّ مت هذه البحوث في المجال الاكاديمي سواء داخل الجامعات العربية أو الاجنبية ، بماذا تفسر هذا الاقصاء للتراث في بعض الجامعات العربية ؟
ــــ إن محاربة التراث على مستوى الجامعات العربية ــ اليوم ــ لم تعد واردة الا في بعض الحالات النادرة والشاذّة جدّا، لسبب بسيط انه تمّ الاعتراف بالأدب الشعبي ، وأصبح مقرّرا دراسيا في بعض الجامعات العربية ، وأما إلغاء التراث والاعتراض عليه ، يعود إلى ايديولوجية قراءة هذا التراث ــ وهذه هي القضية ــ مشكلة التراث الشعبي ملك مشاع ، ومن حق كل انسان أن يقرأه كما يريد ، ولكن هذه القراءة للتراث قد تكون ايديولوجية ، وتوظيفها كان توظيفا ايديولوجيا ، وبالتالي تصطدم بالمثقفين ، وليس بالسلطة هذه المرة ،، واصطدامها باقتناعات هؤلاء المثقفين تجعلهم يحاربون الباحثين الجادين المتنورين خشية تعريتهم ، وهنا يكمن السؤال ، فمن أي زاوية يمكن تناول هذا التراث وكيف ؟ في عصرنا الحالي لان الرقابة على هذه البحوث لم تكن سياسية ، بل اصبحت رقابة بالمعنى الاكاديمي ، وهي في الحقيقة رقابة على التوجّهات الفكرية التي ينتمي إليها هؤلاء الذين يحاربون التراث الشعبي ، وطالما حُورب التراث الشعبي عبر مئات السنين من قبل الخاصة ، والفقهاء ورجال السلطة إلى درجة أن المحتسب ينزل في الساحات العامة ، والشوارع ويقبض على القُصّاص والرّواة ، ومع ذلك صمد هذا التراث لأنه بطبيعته يحمل جذور خلوده ، كما يحمل جذور فنائه في داخله ، فإذا عبّر عن همومه الناس اليومية وأحلامهم ، فهو خالد، وإذا فَقد التراث وظيفته تلك ، فهذا يعني موته وفناءه ، وقد عاش التراث الشعبي مئات السنين ، وكسر حواجز اللغة ، وفتح طريقه إلى العالمية قبل أن تعرف آدابنا هذا الطريق ، وقد استطاع هذا التراث اليوم الصمود أكثر عندما ظهرت الفنون الحديثة كالمسرح والسينما ، وبدأت تقضي على فنون السرد الطويلة مثل الملحمة ، ومع هذا الصمود فإن جانبا من التراث بدأ ينزوي تلقائيا، وقديما كانت أمهاتنا تردد أمثالنا الشعبية ، واليوم لم نعد نستخدم هذه الأمثال فبدأت تموت تلقائيا لكن موتها أو حياتها هي دليل على حيوية هذه الأمة أو عدم حيويتها، فالتراث الشعبي بحكم أنه مشاع ، وبحكم أنه تراث شفاهي أولا لم يمت ، وإنما هو يتوارى ويظهر أحيانا أخرى طبقا للحاجة إليه ، ولا أظن أن العرب وحدهم أصحاب تراث، فالتراث الشعبي موجود في كل الثقافات العالمية، والفرق بينها وبين الغرب فقط أن الغرب في طور الحضارة وبعد عصر النهضة ومن خلال دخوله في عصر الآلة ، بدأ الغربيون يستشعرون أهمية التراث الذي يطلقون عليه الآن ليس فقط تراثا شعبيا ، بل تراثا روحيا بالمعنى الثقافي للكلمة فبدأت العناية به في الغرب وفي الولايات المتحدة على وجه التحديد، فكانت عنايتهم بدراسة الفولكلور والاهتمام بالتراث عناية تفوق دراستهم للآداب الرسمية ، لأنهم وجدوا القيمة الحقيقية الكامنة في هذا التراث الشعبي ، وليس في التراث الرسمي المؤدلج سلبا وايجابا ، ويعني ذلك أن المبدع في التراث الرسمي ينتظر جزاء ، أما المبدع الشعبي لا ينتظر لا جزاء ولا مقابل ، وبالتالي عندما بدأت الجامعات العربية في إدخال هذا المأثور وإخضاعه للدراسة الأكاديمية تردد الكثير من الباحثين ، وخصوصا أن لدينا كثير من سدنة اللغة، وسدنة الأدب الكلاسيكي وهم يخشون أن العناية بهذا الأدب سيفضح ، وسيعري التراث الرسمي سواء من الناحية الإبداعية ، أو من الناحية الوظيفية. فالمشكلة هي العامية ومن قال أن العامية تعني الشعبية ، فألف ليلة وليلة لو ترجمتها إلى مائة لغة لن يقلل هذا من شعبيتها ، ولو أنك نظرت في كتاب الجبرتي لوجدت العامية فيه أكثر بروزا من ألف ليلة وليلة ، وربما كان كتاب ألف ليلة وليلة وسيلة أكثر فصاحة ، وحين تسأل بعضهم يقولون هذا تاريخ، وهذا أدب ومعنى هذا أن الأدب عندهم يساوي اللغة ، ولا يساوي الإبداع ، وإذا كنت تبحث عن اللغة وتريد الحفاظ عليها فلديك القرآن الكريم ، وهو وحده الكفيل بحفظ هذه اللغة ، وقد حافظ عليها أكثر من ألف وأربع مائة سنة ، وحين ننظر إلى الأدب الشعبي لا ننظر إليه من حيث الشكل ، وإنما ننظر إليه من حيث النمط الفني ، ومن حيث النمط الوظيفي من حيث ما يؤديه للناس وإلا لماذا يسمى تراثا شعبيا لأنه تعبير عن وجدان الجماعة ، وعن الضمير الجمعي وعن المسكوت عنه، وعما تحلم به الجماعة ، وأظن أنه من حق المجتمع الشعبي أن يحلم لأنه لا يقدر أي كان في عصرنا أن يجعل الثقافة قصرا على فئة دون فنون أخرى ، وخصوصا أننا في مجتمعات نسبة الأمية فيها 99 ٪حتى وقت قريب فهل يعقل أن يحرم هؤلاء الناس من التذوق الفني ، لأن الفن والحاسة الجمالية حاسّة مشروعة وشرعية لكل طفل منذ لحظة مولده، فهو يستشعر الفن بمجرد أن يسمع مجموعة من الإيقاعات يرقص، ويبتسم ويضحك فهذا حق فطري للناس فلماذا نحرم العامة من الفن؟ السبب بسيط أنهم يتحدثون بلغة الحياة اليومية أي باللغة المحلية ، ولا يملكون اللغة الفصحى وحق الإبداع بالفصحى ، والمشكلة أن مبدعي الفصحى هم الذين تخلوا عن الشعب فالإدانة إذن لمثقفي ومبدعي الخاصة ، فإن هؤلاء لو كانوا جديرين فعلا بالحديث عن الثقافة ، والحديث عن الشعوب لكان اتجاههم الأول هو دراسة هذه الشعوب ، وهذا ما يفسر القطيعة بين المثقفين وبين قواعدهم الشعبية ، فالمثقفون في واد يتحدثون باسم الشعب ولا يعرفون شيئا عن هذا الشعب وهذه مشكلة حقيقية تفسر لنا كل أزمة الفكر العربي المعاصر وأزمة المفكرين العرب فعن أي ثقافة يتحدث المثقفون العرب؟ هل عن الثقافة المتحفية الموجودة في الكتب أم عن الثقافة التي يمارسها الشعب، وهي الثقافة الحقيقية ، لو هضم اولئك المثقفين تلك الثقافة الشعبية والتحموا بمنتجيها الأساسيين لكان للمثقف العربي دور أكثر إيجابية ، وأكثر فعالية وقد انتقلت عزلة المثقف العربي إلى الأكاديمي فانحصر في إطار دراسته المحدودة ، وتخيل أن إبداع الأمة منحصر فقط في الشعر تحديدا في الشعر الغنائي والخطب والرسائل. ومن هنا لا نلوم الغرب حينما يقول أن العقلية العربية عقيم ، والحال أن كل شعوب الأرض عرفت الإبداع الملحمي والروائي ، والمسرحي ، والغنائي ، كل هذا من التراث العربي- للأسف – فهو منحصر في الجامعة كما فقط التراث الغنائي والتراث النثري الممجوج وبالتالي ، بدأ استقراؤنا لهذا التراث ناقصا ولازلنا إلى هذه اللحظة نزعم أن الأدب العربي لم يعرف الملحمة والمسرح والإبداع الروائي ، وكأن العرب بدعة بين الشعوب لأن دائرة الأفق مازالت لم تتوسع بعد عند العرب لاستنطاق الأدب المنطوق، فتتغير الصورة تماما، واليوم في الدول المتقدمة لايفرقون بين إبداع الخاصة وإبداع العامة ، بل هناك تكامل بينهما ولذلك تحتفي كل الشعوب – اليوم – بتراثها الشعبي ومنها الملاحم التي كانت بالعامية وتبنتها تلك الشعوب فملحمة “دانتي” في “الكوميديا الإلهية” كانت مكتوبة بالعامية وهي الملحمة التي ارتقت باللهجة الايطالية إلى درجة اللغة الرسمية للدولة، ومثال أخر على ذلك ملحمة “الكاليغالا”وهذه الملحمة أنشأت دولة هولندا، وقد جاءت هذه الملحمة باللغة الهولندية القديمة وكانت هولندا قد تمزقت سياسيا ، وضاعت هويتها حتى جاء علماء اللغة ، وجمعوا هذه الملحمة وأعادوا إحيائها فأحيوا الهوية الهولندية ، ومن ثمّة نشأت الدولة الهولندية التي هي مدينة في مولدها لملحمة “كاليغالا” التي كانت صياغتها باللغة الهولندية القديمة، وفي ذلك يرجع الفضل إلى علماء اللغة ، ونشير في هذا الصدد ان ولادة الفولكلور الألماني كانت في أحضان عالمين من علماء اللغة وهم الأخوان “ڨريم” إذن فإن قضية اللغة ليست بهذا الحجم الذي نخشاه ، وإنما نحن في الحقيقة نخشى مضامين التراث الشعبي لأنه صريح في تعابيره ، فإلى أي مدى نمتلك الشجاعة الأدبية لمواجهة الذات، وهذا هو موطن الحذر من التراث الشعبي على وجه التحديد.
●عرفك المثقفون وبسطاء الناس بقراءاتك المتعددة للتراث ، وأخيرا اتجهت في بعض دراساتك إلى إعادة قراءة كتاب كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع، فما هي الإضافة في قراءتك لهذا الأثر الانساني، وهل سبقتَ غيرك من الدارسين – وهم كُثر- لاستكشاف مكنون ذلك الأثر الفكري الذي ما يزال يثير جدلا واسعا منذ القدم إلى اليوم بين جمهور المفكرين؟
ـــــ كتاب كليلة ودمنة من الكتب التي توقفت عندها طويلا لأنها نمط من الإبداع السردي استلهم فيه منشئه الإبداع الشعبي ، وهو القصص على لسان الحيوان، ثم تحول كليلة ودمنة إلى أدب سردي كتابي، ثم تحول مرة أخرى من ذلك النمط إلى أدب سردي شفاهي في صورة شعبية أخرى. وأما الجديد الذي أضفته في دراستي لكتاب كليلة ودمنة أنني أثبت ُبمجموعة من الأدلة أن كتاب كليلة ودمنة كتاب عربي قح ّبهذا حللت مشكلة الإنتماء، وقد ظل هذا الكتاب مدة طويلة بلا هوية، بلا أب في تراثنا الأدبي العربي لأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمن ، وحين وضعت ُهذا الكتاب موضع الدراسة من منظور فولكلوري، كم هالتني المفاجآت التي صادفتها على سبيل المثال كثرة الدراسات حوله : ومنها تلك التي تعود إلى القرن الرابع هجري ورأسها كتاب اسمه “تاهات “أمثال كتاب كليلة ودمنة لكاتب عربي قديم إسمه بن عمر اليمني ، متوفّي في القرن الرابع ،و ينصّ المؤلف في هذا الكتاب صراحة أن كتاب كليلة ودمنة هو من وضع بن المقفع من تأليفه ،وأنه نسبه إلى الفرس-فقط- تشييدا بذكرهم ورواجا للكتاب أي كان ذلك لأسباب شعوبية واقتصادية ، وقد قال البيروني أيضا في القرن الرابع : إن ابن المقفع قرأ النص الفارسي وقارنه بالنص الهندي ثم ترك الإثنين وكتب نصا جديدا ، وأضاف إلى الكتابين الهندي والفارسي فصولا جديدة للنص ، وقد عثر الباحث المستشرق”تيدور دنفي” في القرن التاسع عشر على الأصل الهندي للنص وإسمه”البانشتنرا” وترجم بعد ذلك الكتاب إلى الانجليزية ومنها إلى العربية سنه 1970 وهذا يعني- باختصار- أن الأصل الهندي الذي زعموا أن ابن المقفع قد نقل منه أصبح موجودا لدينا ، وبالتالي أصبحت المقارنة النصية بين الكتابين يسيرة ، وكم هالنا الفرق في مستوى بنية الكتاب، فالكتاب العربي له بنية قائمة مستقلة ليست موجودة في الأصل الهندي،، وهي بنية تشبه بنية شهرزاد وشهريار في كتاب ألف ليلة وليلة. وعندما قرأ ابن المقفع بعض النصوص القديمة عن الأصل الهندي لم ينقلها حرفيا ، وإنما أعاد إنتاجها بالمعنى العلمي الدقيق لهذه الكلمة بمعنى أنه أخضعها للمعطيات الثقافية والدينية والقيمية للإسلام، ولم يلتزم ببيئتها الأصلية الوثنية التي كانت فيها الآلهة متعددة، وقد غير ابن المقفع العنوان ليشي بشفرته السياسية الذي هو كتاب كليلة ودمنة ، وأما الكتاب الهندي ألأصلي فاسمه”أسوار الحكمة الخمسة” وهذا الكتاب يتكون من خمسة أبواب بينما كتاب كليلة ودمنة يتكون من ستة عشر فصلا ، ومنها أربعة فصول هي عبارة عن مقدمات، وهذه الفصول المقدمات والفصول الأخرى التي أضافها ليست موجودة في الأصل الهندي على الإطلاق، بل مأخوذة من التراث العربي إضافة إلى قضايا أخرى في الكتاب لا علاقة لها بالأصل الهندي، والمسألة – اليوم- لم تعد تحتاج إلى كثير من الذكاء في دراسة الفرق بين الكتابين الهندي والعربي، وحتى عندما عُثر في نهاية القرن التاسع عشر على الأصل السرياني المنقول عن الفارسية فشتّان بين الكتابين ، ويكفي أن نعرف أن منظومة القيم السياسية في الكتاب الهندي كانت موجّهة لتعليم النخبة بالمعنى السياسي ، أي الواجبات السياسية ، وبينما كتاب كليلة ودمنة مُوجّه إلى الخاصة ،ومُوجّه إلى العامة لأن الهدف منه هو تعليم الناس ما عليهم من واجبات ، وما لهم من حقوق، ويكفي أن تعرف المنطلق في المفهوم السياسي،فالأصل الهندي كان يؤمن بالغالية تبرّر الوسيلة بصرف النظر عن شرف الغاية، أو شرف الوسيلة، وهذا ليس مهمّا، بل المهمّ كيف تحقق مصلحتك الفردية بصرف النظر عن أي اعتبار للمجتمع الذي تعيش فيه، في حين يرى ابن المقفع العكس أن شرف الوسيلة من نبل الغاية ،وان نبل الوسيلة من شرف الغاية ، وهذا يدل أن ابن المقفع عندما كان يكتب استحضر الكتاب الهندي، ولكنه كتب كتابه كليلة ودمنة ببنية سردية أو قصصية مخالفة، فهي بنية تخضع لآليات السرد الكتابي ، وليس لآليات السرد الشفاهي كما كان الحال في الكتاب الهندي، وآليات السرد الهندي هي آليات شفاهية وكل قصة لها بدايتها ولها نهايتها ، ويمكن بتْرها من أصلها فتكون قصة منفصلة تماما ، بينما ابن المقفع على العكس لا يمكن إجتثاث قصة من قصة لأنه لا يُصرّح بالنهاية في قصصه فكان الملك يسأله كيف كان ذلك؟ ويدخل في القصة ثانية وهكذا، فالبنية السردية نفسها معايرة تماما لبنية السؤال الدائم والجواب السردي الحاضر، وهذه البنية تخضع لآليات السرد الكتابي والبنية في كليلة ودمنة هي بنية مفتوحة مثل بنية حكايات ألف ليلة وليلة ، وبهذا نتبيّن أسباب الخلاف بين أكثر من نسخة لكتاب كليلة ودمنة ، وقد قال ابن المقفع منذ البداية :”إن كتابه له وظيفة سياسية” وهي الوظيفة التي عهد بها الفيلسوف خاصة ، وأما الكتاب الهندي فله وظيفة تعليمية بحتة، والوظيفة السياسية هي التي أودت بابن المقفع إلى تلك النهاية الفاجعة له، ويكفي أن نعرف أن كتب التراث وخصوصا كتاب الوزراء للصولي يقول :”إن أبا جعفر المنصور عندما قرأ الكتاب وفهم المغزى السياسي، وهو مغزى تحريضي ، وخشي المنصور أن يكون ابن المقفع شهيد الكلمة لأنه كتب في المحظور السياسي فاتهمه بتهمة سائدة في ذلك العصر ، وهي تهمة الزندقة التي تجعل الرأي العام يتخلى عن المتهم ببساطة ، وتتمثل شناعة العقوبة أنه أوتي بابن المقفع وقطّعت أجزاء جسده قطعة ، قطعة وألقي بها في التنور، لتحترق أمام عينيه إلى أن تبقى كتلة من جسمه فتفيض روحه فيلقى بتلك الكتلة أيضا في النار ، فأي نهاية بشعة هذه؟ ثم إن الكتاب الهندي والفارسي ظلا موجودين أيام ابن المقفع وأما الكتاب الوحيد الذي صودر، فهو النسخة التي أصدرها ابن المقفع مما يدل أنها كانت نسخة مغايرة تماما للنسخ الأخرى السائدة، فلما ضاعت هذه النسخة وقدّر لكتاب ابن المقفع أنه هو الذي ينتشر، ويترجم إلى أكثر من خمسين لغة في عصره لماذا آثر الفرس-إذا كان الكتاب فارسيا النسخة الخاصة بكليلة ودمنة لابن المقفع ، وأهملوا نسختهم حتى ضاعت ولم يعثر عليها حتى الآن؟ في حين كان الفرس يسمون نسخة ابن المقفع بــ”قرآن القوم” لا لأن الكتاب فارسي الأصل ولكنه استطاع أن يعبر عن الكثير من القضايا التي كانت تشغلهم آنذاك ، أو كجزء من الشعوبية أنهم كانوا يتباهون بهذا الكتاب لأن كاتبه ابن المقفع فارسي الأصل ، ومهما كان الأمر فإن سبب وضع كتاب كليلة ودمنة سياسي بحت منشأه قصة خيالية لا علاقة لها بالحقيقة ، ولا بالتاريخ وذلك كي يأخذ بيد القارئ ليقول له إن هذا الكتاب كتاب سياسي وإن المشكلة هي الصراع بين الثقافة والسلطة ، فكيف يمكن للمثقف أن يقول رأيه ف السلطة دون الوقوع تحت طائلة هذه السلطة ، ويقول إن توجيه الحاكم فرض واجب على المثقف ، وهذا هو دوره الحقيقي لا أن يدور المثقف في فلك السلطة بل عليه توجيهه ، وهذه أفكار غير موجودة على الإطلاق لا من حيث البنية ، ولا من حيث المضمون في الأصل الهندي ، والمسألة الآن بسيطة فالكتاب بين أيدينا، لماذا نظل نزعم ان الكتاب مترجم وعندما أخذ “لا فونتين” مثلا الحكايات على لسان الحيوانات وصاغها شعرا لماذا لا تقول “لا فونتين” مترجم ولماذا نقول عنه مبدعا؟ فالعبرة- هنا – ليست في اشخاص النص القديم إنما في إعادة توظيف هذا النص القديم لخدمة قضايا معاصرة ، وهذه هي أوجه الإبداع التي تقدم بها ابن المقفع وأصبح جديرا بأن ينتمي الكتاب إليه كمؤلف ، وأن تحتضن الكتابة العربية هذا الكتاب باعتباره إبداعا عربيا محضا وليس كتابا مترجما.
*محمد رجب النجار (1941 ــ 2005) كاتب ، أكاديمي مصري بجامعة دولة الكويت ، أجرينا معه هذا الحوار ـــ في آخر سنوات التسعينيات من القرن العشرين ــ أثناء حلوله ضيفا مشاركا بمداخلة في ندوة فكرية انتظمت بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس .