مستقبل الثّقافة العربية في علاقتها بالدّيمقراطية والمتغيّرات الدّولية

الهادي غابري

بقلم : د . الهادي غابري

تمرّ الثّقافة العربية ــ اليوم ــ بأزمة الحرية المفقودة .وهذه الأزمة قديمة قِدَمِ المثقّف العربي نفسه الملتزم بقضايا شعبه في الحرّية والديمقراطية . و لذلك  كان الصّراع حادّا بين المثقّف  من جهة  ،والسّلطة العربية من جهة أخرى . فالأوّل يريد تنوير الرّأي العام وإرشاده إلى سبل الحرية والدّيمقراطية  والعدالة الاجتماعية ، وأمّا الثّاني  وهو السّلطة العربية الرّاغبة بإلحاح  في تدجين  وإخماد أصوات المثقّفين بأشكال مختلفة ،  لا سيما في مثل هذه الظّروف الرّاهنة  ، والتي تواجه فيها البلدان العربية مصيرا مجهولا ، بسبب الحروب والتّكتّلات غربا  وشرقا ، ويُضاف إليها الصّراع التّقليدي في البلدان العربية منه : الطّائفي ، والقبلي ، والجهوي ، والحزبي ، والعسكري ، والدّيني ، علنا وسرّا . وهذا ينعكس على الثّقافة العربيّة التّنويرية ، فتجد نفسها محاصرة في عُنُقِ الزّجاجة ، فهي من جهة تكتوي بنار السّلطان ، ومن جهة أخرى تكتوي بصمت المجتمع العربي ، الذي يعاني من ازدياد أمّية المتعلّمين ، ومن القهر السّياسي .

فكيف سيكون مستقبل ثقافة عربية تحتضر ، وقد عانت طويلا من الإرهاب الدّاخلي والخارجي في ظلّ  متغيّرات دولية حثيثة  الخطى ؟ إنّ الجواب سيقودنا حتما إلى المثقّف العربي والدّيمقراطي ، وما هي المهامّ المُلقاة على عاتقه لإنقاذ ما يمكن انقاذه لأنّه «الطّليعة المسؤولة عن التّغييرات الأساسية التي تحدث في المجتمع »(1) ، رغم علاقة المثقّف العربي بالسّلطة ، هي علاقة ريْبَة  وشكّ ، فالسّلطة العربية تنظر إلى المثقّف على أنّه عنصر شرّ ينقد ُ توجّهاتها في الزّوايا ، وحتّى في أحلامه ، فمارست «بحقّه أصنافا من الموت أو العقاب ، أو الإهمال ، أو التّجاهل »(2) ، وتمسخ أنظمة عربية مثقّفيها ، فتنعتهم  «بالواغِش »أي «النّاس مُثيري القلاقل  والفتن » (3)على إثر الانتفاضات الشّعبية ، كما وصف الرّئيس المصري الرّاحل محمد أنور السّادات (1918 ــ 1981)المثقّفين المصريين خلال  أحداث سنة 1977 وسنة  1979 ، وتَهكَّمَ سلطان عربي آخر على كُتّاب القصّة والأقصوصة  والشّعراء .

فإثر كلّ تحرّك شعبي في أيّ بلد عربي ، إلاّ ونجد أسماء من المثقّفين قد دفعت الضّريبة  ، حتّى لو أنّها كانت بعيدة عمّا حدث ، وذلك ناتج عن عداوة السّلطان للثقافة  والمثقّفين «لأنّ الأمّة الجاهلة أسلس قيادا  من الأمّة المتعلمّة »(4) في نظره  ولذلك يلجأ السلطان إلى عقاب المثقّفين  وتأديبهم حسب مزاجه  وبطرق غريبة لأنّهم ابدوا آراءهم في  البلاد  وحسب رأيه المثقّفون «حَرافِيش»  و«ذُعْر» فمصير الواحد منهم «السّجن ، الحرمان من العمل  ، الحرمان من السّفر،  عدا عن مضايقات أخرى له ولأفراد أسرته ، خاصّة بعد أن أصبحت الدولة في أكثر بلدان العالم الثالث ربّ العمل القويّ ، أو الوحيد » .(5)

 إنّ المثقّفين هم الأشدّ احساسا ، واستشرافا للمستقبل العربي نصرا ، أو هزيمة خيبة ، أو غنيمة . وتنبُّؤهم هذا يدفعهم إلى الاصداع بالرأي ، لإنارة الرّأي العام  ، وهذا يُغضب السلطان ، فيراقب الصّحف و النّشريات  ، ويراقب الانتاج الفكري  بصرامة  وحزم ،  كما يحاول قراءة ما يجول بذهن الكاتب قبل أن يكتبه ، أو ينطقه ،  فيبادر بإيقافه ، واستجوابه حول نواياه ، وأفكاره ،  ورموزها ، وهي داخل دماغه لم تر النّور بَعْدُ ،  وإذا حدث أن فلتت فكرة ، ورأت النور ،  ولم تطلها عبقرية الرقيب ، وقد تفشّت تلك الفكرة بين الناّس،  فإنّ الرّقيب العربي لن يقبل بهزيمة جهازه العجيب ، فيلجأ الى تكديس تُهَم ، وإشاعات ذميمة تمسّ من سمعة المثقّف: كالزّنى ، واللّواط ، والشّذوذ الجنسي  والمخدرات  ليكون المثقف ساقطا اجتماعيا  بعد ان عزل من كل اسلحة المقاومة ، وهذا الخوف من المثقّف ، يعني جيّدا أنّ المثقّفين «شريحة متميّزة داخل المجتمع بسلوكها ، وبأفكارها ، وأذواقها ، تسعى إلى تعديل القيم الثّابتة ، وإلى العمل أحيانا  كجماعة ضغط معنوي  من أجل مبدإ  ، أو قضية ما ».(6)

ولتحطيم  سلطة المثقف العربي المعنوية بطرق متعدّدة ، نذكر منها : رشوة بعض المثقّفين ،  والاستغناء عن المثقّفين التقدّميين ، واستبدالهم «بمثقّفين متواطئين معها ،  قبلوا أن يقوموا بدور وُعّاظ السلاطين ، لكن هؤلاء لم يتمكّنوا من ملء الفراغ الثقافي الذي أحدثه تغييب مثقفي المعارضة » .(7)  ومثقّفي التّنوير.

  وعلى مرّ التّاريخ الدولة العربية «تريد مثقفين يخدمون مصالحها ،  وينشرون سياساتها ،  ويثيرون تحالفاتها المتقلّبة ، والمتنقلة  ،على أنّ أدّلة كثيرة تشير إلى أنّ الدّولة [العربية ]تستخدم المثقفين  الانتهازيين  بكيفية لا تقل انتهازية فهي (أي الدولة ) ليست شديدة الثقة   في ولائهم  لها ، ولا حتّى بفاعليتهم الدائمة ، أو تأثيرهم  على مجموع المثقفين  الآخرين ،  وهذا يؤدّي  الى تشنّج مستمر ، ولكن خفيّ  بين الدولة  العربية  والانتهازيين ، ينتهي عادة بانتصارها ، وبإحلالها  مكانهم مثقفين أقلّ تصلّبا ، وأشدّ ولاء» . (8) فتغدق عليهم ألوانا من النّعم  ولو لفترة قصيرة ، كتلك الرّشاوى المُقنّعة  من مكافآت ، ومرتّبات لامعة ، ومراكز قيادية  في مؤسسات الثقافة ، والإعلام  والأحزاب والنّقابات ، وتذاكر السّفر إلى الخارج  لاستجمام ، كما تغدق الدولة العربية على المثقفين الانتهازيين جوائز التفوّق ، والتّقدير  والتشجيع ، وتروّج لهم على أنّهم فرسان القلم  والقرطاس،   فيوزّعون الابتسامات ، والارتسامات أمام عدسات التلفزيون مثل النّجوم اللامعة ،  أو بهلوانان السّيرك ، ومِثل هؤلاء المثقفين يساهمون بقسط كبير في إقصاء المثقّف المفكّر فيزوّدون المواطن العربي «بثقافة استهلاكية تجعله مواطنا مُمْتثلا و مُطِيعا »  (9) سهل القيادة في ظلّ غياب مثقف ملتزم بقضايا جوهرية كالحرية  والعدالة والديمقراطية . هذا المثقف الغائب ، والمعذّب في الحياة والموت ،   مازال أكثر عُرضة لانتهاكات المادية والمعنوية،  لأنّه واجَه ، ومازال يواجِه بصبر ، وعناد أنماطا من الاصولية : مشرقا ومغربا حدّدها الكاتب الجزائري يحيى أبو زكريا فيما يلي :

«الأصولية الفرانكفونية ، الأصولية البربرية ، الأصولية البورجوازية ، الأصولية العسكرية ، الأصولية العلمانية ، الأصولية البوليسية ، الأصولية المافوية ، الأصولية الجهوية والعشائرية». (10)، ونضيف إليها ، الأصولية الدينية .

ومثل هذا المثقّف المستنير، وهو يواجِه قوى التّطرّف لا يقدر على العنف ، ممّا يجعله مضطرّا على اختيار «طريق المساومة والمسايرة  » (11) خوفا على حياته المهدّدة برصاص  هذه الأصوليات في البلاد العربية  وإن لم يُحسّ بالأمان في وطنه ، فإنّه يختار المنفى  وراء البحارــ ببلاد الغرب ــ  بعد أن تيقّن أنّه كان «يسبح ضدّ التيّار في وضْع يتّسم بانعدام حرية التُفكير ، والتّعبير  ، وغياب الحوار،  وضمور الحقوق الأساسية، وطغيان أسلوب التصفية  الجسدية  على أسلوب الحوار العقلاني الهادئ  والبنّاء » .(12)

وفي المنفى ــ ببلاد الغرب ــ يحلم المثقّف العربي بأن يقول كلمته بكلّ حرية ، عَبر وسائل الإعلام التي تفتح ذراعيها له مهلّلة لامتصاص ما عنده ، وعندما يصحو هذا المثقف العربي الهارب ،يجد نفسه بين براثن مخابرات البلد المُضيف التي لها ألف وجْه،  فيتعرّض الى الابتزاز الفكري بموالاة ذلك النظام ، فعليه إصدار بيانات ،  ومقالات : معسولة للمُضيف ، وأخرى ، شتْم  ، وذمّ لموْطنه  ومواطنيه . وإذا  رفض ، فالتّرحيل مصيره ، والعودة الى وطنه حيث السّجن مفتوح للعائد ، و الهارب، وهو كذلك عُرضة للاغتيال بحادث سيّارة مدبّر، أو هو مُعرّض للاختطاف ، وذلك «من خلال تعاون أو شراء عناصر في أجهزة الأمن للبلد المُضيف » .(3 1)

أمّا المثقّف العربي الذي لجأ إلى بلد عربي آخر مغتنما التّناقض بين بلده ، وذلك البلد العربي  حالما بحرية أكثر، فإنّه يقع في الوهم ، ويصبح فريسة سهلة لكلا البلدين ، لأنّه محلّ مساومة ، وذلك أنّ الدول العربية تنسق بخفاء فيما بينها نتيجة المصالح المشتركة ، وخاصة « في المجال الأمني  لأنّ أبرز أهداف الأنظمة العربية ، وجميعها تشترك في خصائص واحدة  ، أو متقاربة متمثّلة في : محاربة  المعارضة ، وترويض الخصوم ، حماية الأنظمة العربية الاستبدادية ،  وهذا يجعل وزراء الداخلية العرب يلتقون دوْريّا ،  ويتّفقون على القضايا الأساسية ، رغم وجود الخلافات ، والخصومات ». (14)  وأكثر النّاس عُرضة للتسليم  والتبادل ، هو المثقّف العربي في الدّرجة الأولى ، لأنّ الأنظمة العربية تنظر إليه مجرما خطيرا ينغّص عليها ساعات اللذة والنعمة  من خلال نقده ، وفتح عيون، وآذان المواطنين على أسرار السلطان الذي يسوسهم ، وبذلك اقترف المثقف العربي المحظور ، واقترف المُحرّم  ، وبما أنّ الأنظمة العربية تريد مثقّفين «مُؤِيّدين أكثر  ممّا تريد معارضين حتّى للغير،  ولأنّها تريد فكرا داجنا  أكثر ممّا تريد فكرا مختلفا  ، أو نقديا  ولو للآخر ، رغم كونه خصما .» (15)  فتلك الأنظمة العربية الاستبدادية تلجأ إلى مخاتلة المثقف العربي ، فتضعه في صندوق خشبي ، بعد  تخديره ــ  وهو مقيم ببلد اللّجوء الغربي أو العربي ــ ليستفيق بعد سويْعات فيجد نفسه بين يدي جلاديه  في وطنه الأصلي ، كي  يتعلّم درسا بهراوة الجلاّد : إنّ« الحاكم [العربي] لا يريد من المفكّر تفكيره الحرّ، بل تفكيره الموالي ، إنّه يريد أن يسمع منه تأييدا ، لا اعتراضا .» (16)

 وفي ظل هذا الحصار الداخلي ، والخارجي الذي تعرفه الثقافة العربية ــ اليوم ــ أكثر من أيّ وقت مضى ، نجد الدول الغربية قد فتحت أفْق الكلمة ، وحرية التعبير للمثقّف  ليشارك في التنمية ، وفي القرار السياسي  برأيه الحرّ  المستقلّ،   ونجحد في المقابل ، وعلى العكس تماما الأنظمة العربية تقف من الثقافة  والمثقفين موقف العداء ، وهذا يذكّرنا بموقف النازيين ، والفاشست  من الحرية  والديمقراطية ، والثقافة  التي أصبحت خطرا داهما  عَبّر عنه بول يوزِف غوبلز (1897ــ1945) Paul Joseph Goebbels‏) هوــ  وزير الدعاية الألماني عهد أدولف هتلر (1889ــ1945)  Adolf Hitler ــ بكلمته الشهيرة «عندما أسمع كلمة ثقافة أضع يدي على مسدّسي ». (17)

وأمّا السّلطان العربي عند سماعه لكلمة ثقافة ، لا يضع يده على مسدسه فقط ، بل يحرّك آلياته العسكرية الثقيلة، ومختلف الأجهزة التّقنية الحديثة  للتّشويش ، و خَصْي  المثقفين عضويا وفكريا ، حتى يتحوّل هذا القطاع  العريض  من المثقفين  «إلى أجهزة إرسال آلية ، وهو الأمر الذي حوّل جماهير الثقافة الى أجهزة استقبال سلبية ، شاعت في صفوف منها البلبلة ، وفي صفوف أخرى اللاّمبالاة » .(18)

 وهذا المشهد السّوداوي لواقع الثقافة العربية، يجعلنا نفهم أنّ «غياب الديمقراطية،  قد أثمر انتعاشا للفكر الرّجعي ، وذلك لأنّ تصدّي النّظام [العربي ] لليمين المتطرف كان  نقديا إداريا ، ولم يحدث أن كان تصدّيا فكريا ، ولم يكن يسمح في الأغلب الأعمّ لتيارات أخرى بهذا التّصدّي، ممّا نتج عنه أن كُرّست أفكار ، وثقافات بالغة التّخلف  والضّرر ببنائنا الاجتماعي »(19)،  فلا غرابة أن تعُجّ المكتبات العربية بكتب صفراء :كتحضير الأرواح  والاتصال بالجنّ ،  والعثور على الكنوز المدفونة ،  وغيرها من كتب التّقريب بين الأحبّة  والتّفريق بين الأزواج … إلى غير ذلك من الثّقافات التي تكرس غياب الوعي  والدعوة الى سلفية وجاهلية جديدة .

  ومثل هذه المؤلّفات تجد صدى ، ورواجا في الأوساط الشّعبية ، وحتّى بين صفوف المتعلمين  من حملة الشهادات العليا الأمّيين ، ولم يحدث أن صُودرت هذه المؤلفات ، أو سُجن مؤلفوها  ، عكس الثقافة الملتزمة الهادفة التي تتعرّض ــ يوميا ــ إلى الحصار والمراقبة ، والحظر  من قِبل الرقيب العربي ، «حتى لم يعد الكلام ممكنا إلاّ بالثاّنويات ، وبالتّفاهات .» (20)، وهكذا ساهم السّلطان العربي في اغتيال العقل النّقدي التنويري ، لأنّه غيّب الديمقراطية  ، وخنق حرية التّعبير،  فكان الجو ملائما لانطلاق شبح الأصولية  بأنواعها لقطف رؤوس المثقفين ، وقد حان قطافها مثلها مثل: رأس الشّرطي  ،ورأس السّائح  ، «فالمثقّف هو واعظ السّلطان ،  وشريكه الذي يشير عليه باستعمال القسوة ،  أو يزيّنها في عينيه، فيبدو أمرا مقبولا مبرّرا ، والشّرطي هو عين الحاكم وهراوته  وحرسه ، والسّائح هو الغريب القادم من وراء الحدود المتلصّص المثير للرّيب والشّكوك.» (21)

إنّ المثقّف العربي في محنة ، فكيف يقوم بدوره الرّيادي ؟  وحرية التعبير مُقيّدة  والديمقراطية غائبة .  وأجهزة التّنصّت الآلية والبشرية في خيوط الكهرباء،  وفي أنابيب الماء  وقنوات التّطهير، وشبح الأصولية في كل زاوية مظلمة يترصّده ،  ورغم هذا فإنّ المثقف العربي  يكون دوره فاعلا  وكبيرا ، عندما يكون في مجموعة ، ومجموعة منظّمة .

«ولكن اين المنبر ؟ أين الكيان ؟ أين المؤسّسة ؟ أظنّ هذا النّقص  هو الذي غيّب المثقّف العربي .» (22) ، وهو تلاحقه رقابة السلطة باستمرار في يقظته   وأحلامه ، فتحوّلت تلك الرقابة إلى رقابة داخلية تحاصر نصوصه ، خشية صفْع السّلطة العربية ، ممّا يجعل المثقّف العربي يمشي منْحنيا،  كأبطال الرّواية السّاخرة : الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل ــ صدرت سنة 1974 ــ  للأديب الفلسطيني ، إميل حبيبي (1921 ــ 1996)  ، وقد وصف الشّاعر العباسي ابن الرومي(221 هــ /836 م ــ 283 هـ /896 م) شخصا صُفِع مرّة ، فأصبح منحنيا باستمرار  خوفا من صفْعة ثانية متوَقّعة :

فصــرتُ أخادعه  وغار قذاله

فكأنّه متربّــــص أن يُصْفَــعا

وكأنّما صُفِعت قَفاه مرّة

فأحسّ ثانية لها فــتجمّعا

هذه هي صورة المثقف العربي منتج الثقافة  ، ومبدعها  فضرورة سيكون انتاجه الفكري صورة لانحنائه خوفا من الصّفْع على القفا ، فالتزم المشي منحنيا عكس مشيته الأولى مرفوع الهامة غداة مرحلة التحرر الوطني  من الاستعمار الغربي ،   فألهَم الجماهير شعره الحماسي التّحريضي  ، وأدبه الهادف ، وأمّا اليوم  في ظل متغيرات جدّ خطيرة تعصف بالبلدان العربية ، واحدة واحدة : من فرض وصاية ،  إلى استعمار مباشر،  إلى خلق توتّرات  ،وثغرات داخل البلدان العربية ، فإنّ المثقف العربي مكبّل ــ  اليوم ــ بقيود شتّى : من لجْم  لفمه،   وشذْب لطول لسانه  ، وإهدار لكرامته  حتّى ينسجم مع قول الشّاعر اللّبناني ، بشارة الخوري المعروف باسم ، الأخطل الصّغير (1885 ــ 1968) .

ألْجِمْ لسَانك ألْجِمِ

فالـــموْتُ للمتكلِّمِ

لا يسْألونَكَ أثِمْتَ

أمْ لــــمْ تَـأثَــــــمِ

السلطة العربية تخشى الرأي الحرّ ،  ولذلك تحرص على مراقبة الشّفوي والمكتوب ،  وتدقّق في اللغة بصفتها مجالا للتفكير ،  فتلجأ الى تأويل الكلمات لتسوّغ مراقبتها هادفة إلى حماية ذاتها ، بمراقبة الآخر ، وهي ممارسة طاردة للمختلف والضّدّي ، ولذلك أنشأت السّلطة العربية  وظيفة المراقبة والتلصّص  والتنصّت ، سمتها القهر والعنف نتيجة رعْب  أصحاب السّلطة من أصحاب العقول ــ أي المثقّفين ــ  ،  ويتنافس  في قهر المثقّف العربي كلّ من : الفقيه ، أو الرّئيس ، أو الملك ، أو شيخ القبيلة ، أو الأمير ، أو السلطان ، أو الزّعيم الأيديولوجي ، أو حارس البوّابة ، أو رجل الأمن في الشارع ، وقد لقى أعلام الفكر والثقافة العربية ــ قديما ــ حتفهم بسبب آرائهم الحرّة ، منهم : الشاعر العباسي الصوفي الحسين بن منصور  الحلاج (244 هــ 309 هــ / 858 م ــ 922 م) كان شهيدا وعنوانا للقتل العرفاني  ، وكان الشّاعر العبّاسي  أبو الطيّب المتنبّي ( 303هــ 354 هـ /915 م ــ 965 م ) ضحيّة للقتل البياني  ، وكان الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (520 هــ 1126 م / 595 هــ 1198م) ضحيّة للطّرد البرهاني .  

الهوامش :

 1 ــ هشام شرابي مقدّمات لدراسة المجتمع العربي ، دار الطليعة ، بيروت،  ط ، 4 1991،  ص 99

 2 ــ عبد الله أبو هيف ، عقل للإيجار،  مجلة الناقد ، عدد 84 ، لندن ،   1995،  ص 88

 3 ــ يوسف القعيد ، تجربة جيل ، مجلة مواقف ، عدد 69  ، بيروت 1992،  ص 123

4 ــ ن .م ،  ص 123

5 ــ عبد الرحمان منيف ،  الكاتب والمنفى ،  ط1، بيروت  1992، ص 88

6 ــ المختار بنعبدلاوي ، الثقافة العربية ومعطيات الواقع الراهن ، والآفاق المتطورة ، مجلة الوحدة ، عدد 101 / 102 مارس ، بيروت 1993 ، ص 44

7 ــ مراد كاسوحة،  المثقف العربي الواقع والطموح، مجلة  الوحدة العربية عدد 66 مارس ، بيروت  1990 ، ص 92

8 ــ سماح ادريس ، المثقف العربي والسّلطة،  دار الآداب ط1،  بيروت 1992 ، ص 119 ــ 120

9 ــ يحيى أبو زكرياء ، البقرة الحلوب ، مجلةالناقد عدد 84 ، لندن 1995 ، ص 46

10 ــ م . ن ، ص 46

11 ــ هشام شرابي ، مقدمات لدراسة المجتمع العربي ، ص 102

12 ــ كلمة الوحدة ،  مهام المثقف العربي  وتحديات المرحلة الراهنة ، مجلة الوحدة عدد 66 مارس ، بيروت  1990، ص 9

13 ــ عبد الرحمان منيف ،الكاتب والمنفى ،ص 91

14 ــ عبد الرحمان منيف ،  الكاتب والمنفى، ص 93

15 ــ عبد الرحمان منيف ، الكاتب والمنفى ، ص 94

16 ــ توفيق الحكيم ، عودة الوعي ، ص 37

17 ــ غالي شكري ، ثقافتنا بين نعم ولا ، الدار العربية للكتاب ، ط1  تونس 1984 ، ص 27

18 ــ م .ن ، ص 34 ــ 35

19 ــ م . ن ، ص 36 ــ 37

 20 ــ برهان غليون، اغتيال العقل، مكتبة مدبولي ، ط3 ، مصر  1984 ، ص 325

 21 ــ فاضل الربيعي، أغنية الخوف ، مجلة الناقد، عدد 84  لندن 1995 ، ص 85

22 ــ ندوة مجلة ، المستقبل العربي ، المثقف العربي مهامه الراهنة ، عدد 51 بيروت 1983 ،  ص 122

اترك تعليقاً