خير الدين التونسي والمؤسّسات الأوروبية

خير الدين التونسي والمؤسّسات الأوروبية
خير الدين التونسي والمؤسّسات الأوروبية
إبراهيم جدلة

أ.د. إبراهيم جدلة

أستاذ التاريخ ــ  كلية الآداب والفنون والإنسانيات ــ منوبة ــ تونس 

كانت حركة خير الدين التونسي الإصلاحية سابقة لحركة الأفغانى و عبده لكن مفعوله لم يتجاوز حدوده البلاد التونسية.وفى المقابل يمكن القول أن أفكار خير الدين كانت أكثر ارتباطا بالواقع حيث غذتها ممارسة السلطة (الوزارة سنة 1869 و الوزارة الكبرى سنة 1873) ودعمتها إصلاحاته في مجال التعليم بصفة خاصة (تأسيس المدرسة الصادقيّة  سنة 1875 وإصلاح التعليم الزيتوني سنة 1878)،أخيرا لا بد من الملاحظة أن  ثقافة خير الدين كانت أعمق من ثقافة معاصريه من المصلحين وأفكاره كانت أكثر وثوقا وتأثرا بالغرب الأوروبي.

ضرورة الإصلاح وتصوّر الإصلاح:

إن الظروف الموضوعية التي أحاطت بولادة أفكار خير الدين الإصلاحية لا يمكن فصلها عما تعرض له العالم العربي الإسلامي أثناء القرن التاسع عشر انطلاقا من حملة نابليون على مصر(1800) واحتلال الجزائر(1830)و بداية التسرب الاستعماري… وهي أحداث هزت النخبة السياسية و الفكرية و جعلتها تفكر في الحلول التي من شانها إيقاف تقدم الغرب وإنقاذ الأمة الإسلامية،أي محاولة إصلاح الأوضاع الداخلية للبلاد العربية الإسلامية .جاءت المبادرة الأولي من رجال السياسة محمد علي (مصر) احمد باي (تونس) داود باشا (العراق) الأمير بشير الثاني (لبنان)… و قد رأي جميعهم أن إصلاح الدولة يمر بإصلاح الجيش (أنظر خاصة تجربة تونس و مصر).وقد واكب هذه التصورات و المحاولات إرسال بعض البعثات إلي الخارج و تكثيف التعاون العسكري والتعامل السياسي مع أوروبا (زيارة احمد باي إلى باريس).في هذا الإطار يمكن الحديث عن صدام بين حضارتين نتجت عنه ردود فعل مختلفة كانت أكثرها واقعية وعقلانية مواقف وأفكار خير الدين الذي قال “سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه “إن التمدن الأوروباوى تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع ,فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلاإذا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية,فيمكن نجاتهم من الغرق….ويعلق خير الدين على هذه المقولة بموقف مساند قائلا: “و هذا التمثيل المحزن لمحب الوطن مما يصدقه العيان و التجربة…”[1]. بل أكثر من ذلك يبدو خير الدين مقتنعا بهذه الفكرة حتى انه نادى بضرورة الأخذ عن الغرب و محاكاته في كل ما يمكن آن يكون مجلبة للفائدة. ويقول في هذا المجال “لا يتهيأ لنا آن نميز ما يليق بنا.. إلا بمعرفةأحوال من ليس من حزبنا “[2]  ويبرر ذلك بالحاجة المتبادلة بين العالمين.”لم يتوقف ان نتصور الدنيا بصورة بلدة متحدة تسكنها أمم متعددة, حاجة بعضهم لبعض متأكدة…” [3] وهذه مقولة لا تختلف عما نردده اليوم من ان العالم أصبح قرية صغيرة …

الإصلاح السياسي في فكر خير الدين:

لم يبد خير الدين تخوّفه من التعامل مع الغرب الأوروبي و نادى بان “نتخير من الحضارة الغربية ما ينفعنا ولايتنافى و شريعتنا”[4]. وكان يرى أن النمو الحقيقي للبلاد يخضع لشرط هام وهو”حسن الإمارة المتولد منه الآمن”[5]. ويرى في نفس السياق أن التقدم لا يتيسر” بدون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي العدل و الحرية “[6]..  و من جهة أخرىأكد خير الدين على توزيع المسؤولية و الابتعاد على الاستبداد والعمل بالرأي الواحد[7]وبعد مقارنة بين الأوضاعالإسلامية العامة الأوضاعالأوروبيةأثرى خير الدين القاموس السياسي العربي بعدة مفاهيم جديدة تم استعمالها لأول مرة (خاصة بمحتواها السياسي) من ذلك بعض المصطلحات مثل,الوطن ,الجمهورية ,حقوق الإنسان ,الكونستيتوسيون,Constitution)(الحرية الشخصية ,الحرية السياسية , حرية الطبع و النشر .. و اعتبر خير الدين أن الرفاه الاقتصادي و التطور لايمكن ان ينجرا إلا عن الحرية. و قد قال في هذا الصدد ” رأينا بالمشاهدة إن البلدان التي ارتفعت إلى درجات العمران هي التي تأسست بها عروق الحرية و الكونستيتوسيون المرادف للتنظيمات السياسية فاجتنى أهلها ثمارها”[8].و لاتنبع أصالة خير الدين الإصلاحية من هذا التحليل المتميز للأوضاع و محاولة إيجاد حلول تبدو طوباوية و متقدمة على عصر لم يعرف بعد في هذه الربوع مفاهيم ’الشعب,الوطن, المواطنة… بل تنبع من كون هذه الأفكار مازالت إلى يومنا هذا محل نقاش كذلك كان لخير الدين وضوح كبير في تحاليله و تصوراته وهى تحاليل لاتختلف كثيرا عن بعض التحاليل العلمية الحديثة التي تناولت مسائل العلاقات بين العالم الرأسمالي و العالم المتخلف و تمحورت تحاليله حول :

1)انخرام التوازن بين العالمين الأوروبى و الإسلامي

2)أسباب تفوق الأوروبيين.

3) ضرورة المعالجة السياسية لمشاكل العالم الإسلامي.

أوروبا و الإسلام في فكر خير الدين :

  1. التبادل غير المتكافئ(l’échange inégal)

لاحظ خير الدين أن المعاملات التجارية و الاقتصادية بين العالمين تنبني على قاعدة انعدام  التكافؤلصالح الطرف الأوروبي و يصف العملية ببساطة مقنعة ” و مصداق ذلك ما نشاهده من أن صاحب الغنم منا و متولد الحرير و زارع القطن مثلا يقتحم تعب ذلك سنة كاملة و يبيع ما ينتجه عمله للإفرنجي بثمن يسير, ثم يشريه منه بعد اصطناعه في مدة يسيرة بأضعاف ما باعه به”[9].

2) التبعية(la dépendance)

ينطلق خير الدين من مسالة المبادلات و انخرام الميزان التجاري قائلا: “إذا ازدادت قيمة الداخل (الواردات) على قيمة الخارج (الصادرات) فحينئذ يتوقع الخراب لا محالة ….” [10] هذا العجز عادة ما يؤدي للحاجة . والحاجة تخلق التبعية: ” فان احتياج المملكة لغيرها مانع لاستقلالها “. بل أكثر من ذلك فهو يرى أن “الاحتياج دال على التأخر ” وهذه الظاهرة تتطلب الإصلاح والإصلاح بالنسبة إليه يتمثل أساسا في المعالجة السياسية.

3) وجوب اعتماد التنظيمات:

لم يفكر خير الدين في الحلول العسكرية أو الاقتصادية بل اتجه مباشرة نحو جوهر المسالة اي الحل السياسي . وقد انتهى في خاتمة تحاليله إلى أن قوة الإفرنج وتقدم الغرب يرجع أساسا إلى :

   – “حسن التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية “

  – ” الحرية المؤسسة على العدل وحسن النظام “

 – “التنظيمات المؤسسة على العدل السياسي

 – “التقدم المؤسس على العدل والعلوم “

ونلاحظ أن خير الدين يستعمل قبل كل شيء كلمة “العدل” وهي بالنسبة إليه تخضع لمفهوم الغزالي للعدل أي: “عمران البلاد وامن العباد”.

تأثير حركة التنوير الأوروبي على خير الدين :

كان تأثير هذه الحركة واضحا على فكر خير الدين الذي يفيدنا بأنه اطلع على أهم مؤلفات فلاسفة الأنوار مونتسكيو , فولتر , جون جاك روسو….

وأثناء حديثه عن مونتسكيو أعطانا خير الدين تلخيصا موجزا من كتابه المسمى “بحكمة القوانين” الذي بين فيه الحقوق الإنسانية وقسمها إلى ثلاثة أقسام , أولها الحقوق المعتبرة بين الأمم في خلطتها (علاقاتها) السياسية والمتجرية . وثانيها حقوق الدول على رعاياها, وثالثها حقوق الأهالي فيما بينهم.

ومن جهة أخرى حاول أن يفسر لقارئه بعض المفاهيم الجديدة أو الغريبة عن العالم العربي الإسلامي, من ذلك مفهوم “الجمهورية”وهو حسب رأيه “كناية عن انتخاب الأمة رئيسا لدولتها يتصرف في إدارتها بمقتضى القوانين…”ويركز خير الدين أساسا على مفهومين هامين وهما: “الحرية والتنظيمات”.

الحرية:

 وهو يقسمها إلى ثلاثة أقسام حرية شخصية , حرية سياسية , وأخيرا حرية التعبير.

الحرية الشخصية:وهي حسبتعريفه:”إطلاق تصرف الإنسان في ذاته, وكسبه… ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم , بحيث أن الإنسان لا يخشى هضيمته في ذاته . ولا في سائر حقوقه ,ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيهقوانين البلاد المتقرّرة لدى المجالس وبالجملة . فالقوانين تقيد الرعاة كما تقيد الرعية”[11].

الحرية السياسية : وهي تتمثل في تدخل الرعية في سياسة الدولة بواسطة ممثليهم في إطار “مجلس نواب العامة”  أو “مجلس   ) وهم حسب رأيه “أهل الحل والعقد”Représentants الوكلاء (

حرية التعبير : ويعبر عنها خير الدين بمصطلح “حرية المطبعة” أي : “أن لا يمنع احد منهم في أن يكتب ما يظهر له من المصالح في الكتب والجرنالات التي تطلع عليها العامة…”[12]

التنظيمات:

ينطلق خير الدين من فكرة أن إطلاق أيدي الملوك دون قيد يمكن أن يجلب الظلم, والظلم بسبب خراب الممالك.

لذى فهو يلح على تأسيس تنظيمات يعتبرها شرطا أساسيا للتمدن والثروة . وهذه التنظيمات أوالقوانين تنقسم إلىقسمين:

– قوانين تخص الحقوق المرعية بين الدولة والرعية.

– قوانين تخص حقوق الأهالي فيما بينهم.

وهو يعبر بذلك عن الحاجة إلى سياسة تعاقدية بين المواطنين والدولة. أي تنازل المواطنين عن حقوقهم الطبيعية لفائدة الدولة وفي المقابل تمتع المواطنين بفوائد الفانون الطبيعي وذلك بتقييد ( أي مراقبة ) هذه الدولة وقد عبر عن ذلك قائلا:”المناضلة عن حقوق الأهالي والاحتساب على الدولة”. ويلح خير الدين على مفهوم الدولة الدستورية قائلا :” إنإجراء القوانين المذكورة يتوقف على موافقة المجلس الأعلى (مجلس النواب) على كونها غير مخالفة للكونستيتوسيون…”وفي نهاية المطاف يعتقد خير الدين أن تفوق الأوروبيين واستيلائهم على ممالك كثيرة ,هو نتيجة مباشرة “إجراء القوانين السياسية التي مدارها على ما تقتضيه الحرية المشروعة سابقا من حفظ حقوق الإنسان في نفسه وعرضه وماله”.

الحدود الموضوعية والفكرية لإصلاحات خير الدين:

رغم انه نادي أساسا بإصلاح الهياكل السياسية ,فان خير الدين اجل أو ترك تماما الجانب السياسي وربما كان عاجزا عن القيام بالإصلاحات السياسية أو حتى التأثير على أصحاب القرار لتغير مؤسسات الدولة أو تعديل العلاقة بين الدولة والمجتمع (بين الراعي والرعية) لكن هذا لا ينفي كون إصلاحاته شملت العديد من الميادين الأخرى: الاقتصادية والمالية والتربوية (إصلاح التعليم) والقضائية .لكن بصفة عامة ظلت إصلاحاته محدودة و على المستوى السياسي غير قابلة للتطبيق.

* الحدود الموضوعية

لا بد من الملاحظة إن هذه الإصلاحات لم تكن تتويجا لتطور اقتصادي واجتماعي طبيعي أي أنها لم تكن استجابة لنضالات أو مطالب فئة أو طبقة معينة من المجتمع بل كانت نتيجة تقليد سلبي لما يقع في المجتمعات الأخرى أو نتيجة ضغوطات القوى الأجنبية (مثلا قانون عهد الأمان) لذلك فهي لم تؤد إلى التغيير الفعلي للجسم الاجتماعي والأوضاع السياسية و لم تحد من تخلف البلاد ولم تمنع دخول الاستعمار.

وفي باب العوائق الموضوعية لهذه الإصلاحات يمكن أن نذكر أيضا بداية التسرب الاستعماري و هيمنة القوى الأجنبية على مصير البلاد ولذلك حرصت القوى الاستعمارية أن لا تسمح بالإصلاح أو محاولته إلا بالقدر الذي إن يخدم مصلحة الغرب أو يساعد على نشر قيمه و أفكاره.

*الحدود الذاتية

وهي تتمثل في القناعات الداخلية الذاتية لخير الدين و المرتبطة أساسا في تمسكه بمفهوم الخلافة العثمانية ومحاولة بحثه عن حلول عملية ذات مرجعية إسلامية.

فرغم ان مرجعية خير الدين النظرية من خلال كتابة “أقوم المسالك” كانت غربية ورغم عدم الحاجة على التنظيمات العثمانية (خط شريفي 1839,خط همايون 1856).فإنه كان شديد التمسك بمفهوم “الخلافة العثمانية” وقد حاول تكريس تبعية تونس لها و كان غرضه من ذلك إدماج تونس في مجال كبير (دول كبرى) وكان يرى أن حماية تونس من الاستعمار تمر عبر هذه التبعية.

ومن جهة ثانية كانت حلوله الغربية في تصورها تتحول إلى تجارب إسلامية  عندما يحاول إيعاز تطبيقها .لذلك نراه يتحدث عن “الشورى” و “المشورة”و”ضرورة الشرع السماوي” (مقابل السياسة العقلية التي نادى بها).كما نادى بمشاركة “أهل الحل والعقدة” (علماء الأمة وأعيان رجالها). إضافة لذلك فهو يشترط :”مراعاة العادات والأمكنة و الأزمنة التي تعتبر شريعتنا اختلاف إحكامها اعتبارا كليا”[13].

وقد أدى به هذا التناقض بين واقعه وبين ماحصل له من أفكار جديدة (الأفكار الغربية) إلى نوع من الازدواجية الفكرية و هي ازدواجية ستظل ملازمة للفكر العربي الإسلامي عامة حتى أيامنا هذه (أي ما يزيد عن قرن).

وفي مذكراته المنشورة باللغة الفرنسية والتي تعبر عن قناعاته الفعلية كتب خير الدين :”إن التطبيق الواضح للشريعة الإسلامية أدى دائما إلى نتائج باهرة لا ترجع للصدفة و لا لظروف استثنائية لكن للنتيجة الطبيعية لروحها ومقتضياتها العجيبة”[14]ولعل خير الدين في أخريات حياته ,عندما أصبح يعيش في اسطنبول ,أصبح أكثر قناعة لا بالحلول الدينية فقط (أي الرجوع إلى الشريعة).بل أكثر قناعة بعدم إمكانية تطبيق المؤسسات الغربية في المجتمعات العربية الإسلامية آنذاك وهو ما نلمسه من خلال مذكراته اثر حديثه عن الشريعة الإسلامية :[15]“عندما نريد تعويضها (أي الشريعة) بنظام هجين من المؤسسات الأوروبية  والتي تصبح بلا مضمون وغير صالحة عندما نريد تطبيقها بالقوة على تقاليدناوعلى وضعيتنا الاجتماعية تتحصل على نتائج سلبية ومن جهة أخرى و مبدئيا يستحيل زرع مؤسسات بلد في بلد آخر  حيث تختلف طبائع البشر وأخلاقهم وتربيتهم حتى الظروف المناخية…”


أقوم المسالك، تونس 1972، ص166[1]

 نفسه،ص82[2]

3نفسه، ص82

4نفسه، ص85

5نفسه، ص89

6نفسه، ص95-96

نفسه، ص 112.[7]

 نفسه، ص 210[8]

 نفسه، ص93[9]

 نفسه، ص93[10]

نفسه، ص207 [11]

نفسه، ص208 [12]

 نفسه ص224[13]

Mémoires,  p 136 [14]

Ibid., p. 137[15]

اترك تعليقاً