الظاهرة السلفية بالوطن العربي في القرن العشرين:المفاهيم التــــــّيّــارات ، الأطروحات

بقلم: الأستاذ،  عبدالله الجابري

طرحت السّلفية في السنوات الأخيرة نفسها ، لا على مستوى التونسي المحلي ، بل وأيضا على المستوى العربي : الجزائر، العراق ،سوريا ، مصر …،  منذ الثمانينيات والتسعينيات، وخاصة في مطلع القرن الواحد والعشرين (القاعدة) ، بل وعلى المستوى العالمي كذلك: الولايات المتحدة  ، فرنسا…،  وهو الأمر الذي حيّر العقول ، واستوجب  بحوثا أكاديمية وعلمية ،تُمكّن من فهم هذه الظاهرة: ما حقيقتها؟ ما أهدافها؟ ما هي جذورها الفكرية والدينية؟ وكيف نعالجها؟

وفي هذا الإطار قد أنجز ـــ الباحث التونسي ـــ  الدكتور، كمال السّاكري: باحث في الشؤون التربوية ، والحضارة العربية الإسلامية بحثا في الغرض ،  سنة 2017 تحت عنوان :الإسلام السياسي بالوطن العربي في القرن العشرين: السّلفية أنموذجا، ثم نشر معظمه في كتاب اختار له عنوان : الظّاهرة السّلفية بالوطن العربي في القرن العشرين : المفاهيم والتيّارات و الأطروحات، دار شامة للنشر ، تونس  .2018

1- مبررات الأطروحة: ما هي حقيقة السّلفية وما سرّ عودتها القوية اليوم؟

2 –اشكاليات الأطروحة

  • هل السّلفية حركة دينية دعوية ، أو حركة سياسية تنشد الحكم؟

ب – السلفية حركة واحدة ، وإن بدت متعددة الفروع ،أم هي حركات متعددة ،ومتباينة حد التناقض في ما بينها؟

ج – هل السلفية حركة تجديد ديني، ونهوض سياسي وحضاري ..أو هي مجرد تيار تقليدي نكوصي ، يروم إعادة إنتاج الماضي الميت تحت شعار خُــلّب ،هو استعادة الدولة الإسلامية النموذجية عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، و الخلفاء الراشدين.

إن الهدف الأسمى من طرح هذه الإشكاليات  ،وتقليب الأمر من كافة وجوهه ،هو الإجابة عن فرضيتين أساسيتين صلب هذا البحث.

3 – فرضيتا البحث:

أ – إن السّلفية تنتمي إلى الإسلام السياسي.

وإن الإجابة عن الإشكاليات من شأنه أن يؤكد حقيقة ذلك الانتماء ، أو ينفيه كليا أو جزئيا.

ب – بل إن السلفية هي أمّ الحركات الإسلامية المكونة للإسلام السياسي على العكس من الرأي السائد القائل :بأن الإخوان المسلمين هم الأمّ.

وإن دراسة تاريخ نشأة الظاهرة السلفية ،وتتبع مسار تطورها ،و نوعية علاقاتها بالحركات الإسلامية من شأنه أن يصدّق الفرضية ، أو يفنّدها مطلقا أو نسبيا.

4 – الأعمال السّابقة

-لاشك في أن التحقق من هذه الفرضيات ، يمرّ عبر الاطلاع على الأعمال السابقة في الموضوع : .وهي قسمان بحوث جامعية في تونس، ومؤلفات مختلفة في تونس وخارجها.

-وبخصوص موضوع أطروحة  د . كمال  السّاكري حول السلفية ، فإنها الأولى من نوعها التي تناولت الكل السلفي، وربطته بالإسلام السياسي، بينما كانت “جميع” البحوث السابقة -في حدود اطلاعي- قد تناولت السلفية تناولا جزئيا وقلّما ربطتها بالإسلام السياسي…

  1. نتائج البحث:أربع نتائج كبرى

سعيا إلى التحقّق من فرضيتيْ البحث: أن السلفية تنتمي إلى الإسلام السياسي.

وأن السلفية هي أم ّالحركات الإسلامية المكونة للإسلام السياسي على العكس من الرأي السائد القائل بان الإخوان المسلمين هم الأمّ.

أولا: مدى صحة الفرضيتين:

  1. الفرضية الأولى: السلفية حركة سياسية رغم أنف المُنْكرين من دعاتها وخصومها.

 2- الفرضية الثانية:السلفية أمّ حركات الإسلام السياسي ، وليست خارجة عنه ولا فرعا منه.

أمكن للباحث د . كمال السّاكري ، تأكيد صحة الفرضية الأولى اعتمادا على الحجج التالية:

  • من الحركات السلفية ما تطرح العمل السياسي مباشرة مثل:  السلفية الإصلاحية ،والسلفية الوطنية والسلفية الحركية، وقد مارسته في الكويت والسعودية ومصر ، وبلدان المغرب العربي، ومن الحركات السلفية ما ترفض الشعار السياسي المباشر ،ولكنها تدعو إلى سياسة مغايرة مثل السلفية الأم ّ
  • (الوهّابية) والسلفية العلمية ،والسلفية الولائية ،والسلفية الجهادية الوهابية ، ارتضت اقتسام الداعية مع

الأمير ، الدين ، والدولة كل في مجال اختصاصه، الأول حارس للعقيدة ، والثاني مُنفذ للشريعة، ولا دخل لأحد في مجال الآخر نظريا على الأقل.

 ولمّا كانت الوهابية مسيطرة في التاريخ العربي الإسلامي منذ أزيَد من قرنين والنصف ، فقد شاع أن السلفية الوهابية ضد السياسة ، والعمل السياسي ، وهي حركة دينية دعوية صرف،  في حين أن نظرية الدولة ، والثقافة المفروضة كلها في السعودية ترجمة للسلفية الوهابية من غياب لدستور ، واحتكام لشريعة : حنبليّة الفقه ، وهابية الأديولوجيا،  مدججة بتعاليم ما يجوز ، وما لا يجوز بالحرام وبالحلال…

-أما السلفية العلمية فترفع شعار: ” من السياسة ترك السياسة” ومن الحكمة البدء بتصفية عقيدة المسلمين ، ولا سيما النشء وتطهيرها من شوائب الشرك والبدع أولا ، ثم الوصول بعد مدة آليا إلى الحكم الإسلامي، لا يعترف بالسياسة العصرية ، ويؤمن فقط بالسياسة الشرعية.

-أما السلفية الولائية فنادت بموالاة أولي الأمر، ولا سيما العائلة السعودية ، والتزام المناصحة السرية، وحرمت العمل السياسي ،وتعصّبت للحكام حتى تحولت إلى لاهوت كنسي ، وجواسيس على الضمائر ووشاة لدى الحكام..

– أما السلفية الجهادية الرافعة لشعار الجهاد ، فكفرت الكل حكاما ، ومحكومين ما داموا خارجين عن الشريعة وفق منظورها، وصرحت أن السياسة هي قتل الساسة الضالين واجتثاث ثقافتهم الكفرية ذات الجذور الغربية والشركية، .لكن محاولة رفض هذه الحركات الأربع للسياسة كشف عن تورطها فيها ، وسواء والى بعضها أولي الأمر أم عاداهم ، فلهم منظورهم التقليدي الموروث للسياسة ، وبالتالي فالكل يمارس السياسة ، ويجاهد من أجل فرضها،وإن شعارها من السياسة ترك السياسة ، ليس سوى تعمية على مفهومها الماضوي والقهري للسياسة.

  • السلفية :حركة سياسية بامتياز لا هم لها –بمختلف تفرعاتها- إلا الوصول –سلما أو حربا- إلى تطبيق مشروعها السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي: أي السياسة الشرعية، وقد تجلى ذلك بوضوح في سعي مختلف تلك الحركات السلفية إلى السياسة ، والحكم حتى رأينا حركات سلفية علمية وحركية ، وولائية،  ووهابية طالما رفعت عقيرتها برفض السياسة ، تؤسس أحزابا مع الانتفاضات العربية المصطلح عليها من بعضهم :بالربيع العربي. (حزب النور السلفي العلمي في مصر سنة 2011 ، حزب الأصالة السلفي ، وحزب جبهة الإصلاح بتونس سنة 2011) فضلا عن تشكل التنظيمات الجهادية ، والحركية والوهابية،  والولائية في جمعيات دعوية ، وحركات جهادية رأيناها تنخرط في القاعدة وتساهم في إسقاط السوفيات بأفغانستان ــ في نهاية القرن العشرين ــــ وتدخل سوريا ،والعراق، وافريقيا ،وآسيا ،وأوروبا ، وتفتتح القرن الواحد والعشرين بإسقاط برجيْ أمريكا في  11سبتمبر 2001 ،وتتحول في معظمها إلى داعش لتبنّي دولتها في الموصل والرقة ، وتفعل الأفاعيل…
  • كل أولئك حجج برهنت على طبيعة السلفية السياسية، وأكدت صحة الفرضية مائة بالمائة.
  • الفرضية الثانية:السلفية أمّ حركات الإسلام السياسي وليست خارجة عنه ولا فرعا منه.
  • خلافا للسائد في متون البحوث وبطون الأطاريح ، ومصنفات الكتب ،والبحوث ، والدراسات العربية والغربية حول الظاهرة السلفية من أن حركة الإخوان المسلمين :هي أمّ الإسلام السياسي، وأن السلفية

إما خارجة عنه ،أو هي فرع منه في أحسن الحالات ، فإذن د . كمال الساكري استطاع أن يثبت العكس بعد بحث ، وتعمق وأدلته على ذلك ثلاثة:

  • دليل تاريخي بديهي تمثل في أسبقية السلفية ، ولاسيما الوهابية (1744م) على حركة الإخوان المسلمين(1928 م) بحوالي قرنين. ولقد بنت الوهابية دولتها،  ومارست الحكم فكونت أيديولوجيا دينية سياسية سلفية مكتملة ، لم تخالفها حركة الإخوان في العقيدة السلفية، وإنما في أسلوب الدعوة ومدى التفتح على العصر.
  • دليل عقلي افتراضي استنتاجي تساءل عن غياب السلفية عامة ، والوهابية خاصة عن الظهور خارج السعودية منذ الثلاثينيات فترة تأسيس الإخوان المسلمين إلى الستينيات ، وفترة بروز تنظيمات سلفية،  وجهادية ،وافترض اعتماد الوهابية التقية ، والتخفي في فروع الإخوان المسلمين بالوطن العربي والعالم ، وبالجمعيات الإصلاحية وتحفيظ القرآن وحفظ التراث..–بعد استقصاء أغلب تلك الفروع الإخوانية والجمعيات الإصلاحية ،وتحفيظ القرآن وحفظ التراث تبين صحة ذلك الافتراض.
  • –        فقد وجد د . كمال الساكري داخل الإخوان المسلمين من يتبنون السلفية عقيدة ، بل عثر على شهادات تاريخية لبعض قادة الجماعات الإسلامية مثل،  السيد راشد الغنوشي( رئيس حركة النهضة الإخوانية في تونس) في كتابه “من تجربة الحركة الإسلامية في تونس ، ص 83 ” يفيد أن مكونات الجماعة الإسلامية التونسية ثلاثة هي التدين التقليدي التونسي،  والتدين العقلاني ، والمكوّن الثالث التدين السلفي ..ونجد مثل هذا التساكن بين الإخوان والسلفيين في كافة الحركات الإخوانية ، وجماعات الإسلام السني ، بينما تكاد جمعيات المحافظة على التراث ، وتحفيظ القرآن والإصلاح الديني، والعمل الخيري تحتكرها الحركات السلفية على اختلاف توجهاتها.
  • السلفية حركة عريقة مرت بتجارب قاسية في نشر دعوتها ، وبناء دولتها ، وعرفت منعرجات

 مأساوية في تاريخها،  وخاصة عشية بناء دولتها الثالثة في ثلاثينات القرن العشرين، عندما قبلت

بتحقيق دولتها في مقابل التخلص من تيار السلفية الجهادي،  العامل على نشر الدعوة في العالم غير مبال بالحدود الدولية ،  ولا سيما بعد سايكس بيكو(1916). فقطع عبدالعزيز ابن سعود رأس هذه التيار ، وجرّمه في السعودية وخارجها، هذا المعطى إضافة إلى رفض الواقع الدولي الاعتداء على حدود الدول ، وتجريم العنف أجبر الوهابية في السعودية إلى وهْبنة الدولة أيديولوجيا بتوظيف الدولة فرضا ، وإملاء،  وخارجها إلى التكيف مع الواقع الدولي الجديد بالاندماج صلب الحركات ، والجماعات والفعاليات الإسلامية متسترة عن حقيقة دعوتها متحينة الفرص،  وهو ما تحقق لها بداية من الستينات لظهور دول عربية ثورية ، وتقدمية تطعن في توجهات السعودية الثيوقراطية القمعية والمتخلفة ، وتستميل الشعوب إلى صفها، ثم خاصة بعد التسعينيات ، وتفجر الوهابية إلى حركات تتفق في المرجعية السلفية، وتختلف في أسلوب التغيير ،والموقف من الاستعانة بالأجنبي غداة غزو العراق للكويت سنة 1990.

  • هذه الأدلة التاريخية والوثائقية والعقلية الافتراضية الاستنتاجية أكدت فرضية الباحث د . كمال السّاكري بنسبة مائوية عالية: أن السلفية هي أمّ الإسلام السياسي وغيرها من الحركات فروع له.

ثانيا- توصل البحث إلى إنجاز مفهوم للسلفية هو الأكمل والأدق بعد طول فراغ معرفي.

  • مفهوم السلفية

-للإحاطة بمفهوم السلفية انطلق د . كمال السّاكري من التعريف اللغوي ثم من مدلولها في القرآن والحديث ولم يجد شيئا جديدا.

– فانتقل الباحث إلى التعريف الاصطلاحي مستثمرا مفهوم الظاهرة لدى كل من : دوركايم  وهوسرل  وكانط وطبّقه على السلفية، وتتبع تعريفات السلفية من أصحابها وخصومها، فاكتشف عمق التباين حد التناقض في التعريفات ، إذ بلغت المقابلات اتساعا في الأطروحة ، فاختصرها الباحث في خمس في كتاب الظاهرة السلفية (بين التقديس والتبديع ، وبين القدم والحداثة،  وبين النقل والعقل ، وبين الدعوة الصرف والجهاد الخالص ،  وبين الأصولية و الإصلاحية).

-هذا التباين الشديد في تقديم مفهوم مشترك للسلفية ناتج عن تضارب بين الآراء في تعريف السلفية

بسبب الجهل بحقيقتها ،وتعمد معظم الدارسين والناشطين توظيف السلفية مما دفع الباحث إلى تعميق النظر والبحث في السلفية ، باعتبارها ظاهرة اجتماعية تاريخية ذات مشروع سياسي ، لها طبيعتها ووظائفها الاجتماعية الحضارية ، ذهل عنها غالبية الفاعلين السلفيين والباحثين ، فتوصل إلى المفهوم الآتي:

-إن السلفية حمّالة أوجُه ومفهوم يقبل التعدد والاختلاف، وهذا ما تجاهله أو ذهل عنه أغلب الباحثين، ولقد تمكّن د . كمال  الساكري من البرهنة على تطور مفهوم السلفية، ليس فقط من خلال تعدد رموزها ،وحركاتها في الوطن لعربي في القرن العشرين ، بل ومن خلال أطروحاتها المختلفة والمتناقضة أيضا بين تيارين كبيرين أصيلين مكونين للسلفية، فسواء تعلق الأمر  بالعقيدة أم بالسياسة ، أم بالاقتصاد أم بالاجتماع ،أم بالثقافة فإن السلفية أيديولوجيتان : أيديولوجيا كلاسيكية ماضوية عقدية جامدة وأيديولوجيا عقلانية تجديدية شاملة وحداثية..

إن السلفية ظاهرة اجتماعية ذات مشروع سياسي بالمعنى الواسع للسياسة ، نشأت في القرن الثالث للهجرة  مع أحمد بن حنبل (780-855 م) واكتملت منهاجيا مع ابن تيمية 1263- 1328 م).ثم توالى حضور السلفية في التاريخ العربي الإسلامي بدرجات متفاوتة ، فاقترنت بالتقليد والمحافظة منذ تأسيسها إلى أواسط القرن التاسع عشر،  مع محمد بن عبد الوهاب( 1703-1792 م) والوهابية بداية من 1744 م،   غير أن السلفية قد شهدت تطورا مع السلفية الإصلاحية ، ثم السنوسية والمهدية السلفية ، ودخلت بها العقلانية ، وتبنت التفتح على العصر ومغادرة الجمود والعمل بالاجتهاد والمواءمة بين الوحي والعقل،  وطلب أسباب العلم والمدنية والجهاد في سبيل حرية الأوطان من المستعمر الدخيل ، والتحرر من ربقة الصوفية الطقوسية المستعمر الأصيل أي تجديده للمشروع السياسي السلفي..

فجمعت السلفية بين الشيء ونقيضه ، وهذا أكبر أسباب غموض مفهوم السلفية والتباسها، ولا يمكن حله إلا بالتفطن إلى تعدد مفهوم السلفية ودلالته على تصورين متناقضين في الآن نفسه: تيار تقليدي منغلق ملتفت إلى الماضي السحري والجنة المفقودة يتشبث بإعادة إنتاج المشروع السياسي الأول، وتيار تجديدي عقلاني يستقبل المستقبل متشوق إلى بناء دولة وطنية قومية إسلامية منشودة واعدة، وفق تصور تجديدي حداثي لمفهوم المشروع السياسي النهضوي العربي الإسلامي…

ثالثا: السلفية سبع حركات وليست حركة واحدة ، ولكنها من حيث الأيديولوجيا تياران متناقضان واحد كلاسيكي جامد وآخر حداثي تجديدي

 قادت  الباحث د . كمال الساكري محاولة تعريف السلفية ، وتقديم مفهوم واف لها إلى ملاحظة تعدد التعريفات وتناقضها، فسر تناقضها بتعدد حركات السلفية ،وأحصاها ،فوجدها سبع حركات.

  1.  فمنها السلفية الأمّ والمعروفة بالسلفية التاريخية ، أو الكلاسيكية التي ورثت مذهب أحمد بن حنبل، وتنظيرات السلفيين ،وإضافات ابن تيمية،  وتطبيقات الدولة المرابطية ، والدولة الوهابية.

2-والسلفية الإصلاحية بقيادة زعماء الجامعة الإسلامية النابذة للجمود الديني ،والمنادية بالتجديد والاجتهاد العقلي،  والمحاربة للتخلف والانغلاق،  والعاملة على النهوض الحضاري ، والتمدن والتقدم العصريين.

3 – السلفية الوطنية الرافعة للواء الاستقلال الوطني من براثن الاستعمار الغربي ، والحاملة لمشروع وطني واستقلال حضاري.

4 – السلفية الجهادية الرافضة للدعوة السلمية في بناء الخلافة الإسلامية ، والرافعة لراية الجهاد وسلاح العنف طريقة للتغيير.

5 – السلفية العلمية التي تنبذ العنف ، وتنادي بتصفية التراث ، وتربية النشء على قيم الإسلام النموذجي طريقا للتمكين.

6 – السلفية الحركية المشهورة بالسرورية ، والتي تدمج بين العقيدة السلفية ، والحراك السياسي الإخواني القطبي .

7– السلفية الولائية المنسوبة إلى الجامي ، وربيع المدخلي ، والمجرمة للخروج عن أولياء الأمور،  والموالية لهم حد الوشاية والسعاية والزبونية..

ويسجل الباحث الملاحظات التالية:

-أن هذه الحركات السبع مستقلة عن بعضها البعض من خلال خصائص كل واحدة ، ومن خلال الروابط التنظيمية الخاصة دون أن تمنع التنسيق مع بعضها .

–  خضوع التركيبة القيادية إلى الشكل العمودي: قيادة من العلماء والزعماء غالبا في المشرق العربي

والجزيرة ،وأتباع في المشرق ، والمغرب العربيين ، وخارجهما ، وأفقية من حيث الامتداد من المشرق إلى المغرب غالبا، فلم نجد حركة محدودة تنظيميا بحدود قطرها ، بل انتشرت كل حركة منها من المشرق حيث غالبا الزعامة  إلى المغرب والعالم حيث الأتباع عادة.

-هذا الامتداد الأفقي من الشرق إلى المغرب ،وتركز الزعامات في المشرق والجزيرة العربية

يؤكد مركزية المشرق ووحدة الثقافة ،والإطار الجغرافي والحضاري للدعوة السلفية (وحدة اللغة أداة التفاهم ووحدة القضايا بناء دولة  وطنية ، عند البعض عربية ، عند البعض الآخر وإسلامية جامعة عند الغالبية.

  • لقد صنفت الباحث الحركات السلفية إلى صنفين: صنف حسب الحركة ، والفصيل المستقل في بنائه التنظيمي وبعض مميزاته الفكرية والحركية، فوجد سبع سلفيات، وصنف ثان حسب التوجه الفكري السياسي العام ، فوجد تيارين سلفيين كبيرين داخل مفهوم السلفية الواحد ، تيار تقليدي ماضوي،  ويشتمل على السلفية الأمّ والعلمية والحركية ، والجهادية والولائية ، وتيار تجديدي حداثي ، ويضم السلفية الإصلاحية والوطنية.

رابعا:اختلاف أطروحات السلفية إلى تقليدية وحداثية في آن.

-تختلف الأطروحة السياسية في المعنى العام للسياسة باعتبارها شريعة في المفهوم التقليدي للسياسة ،والبديل السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي في المفهوم الحديث  إلى تياري السلفية الكلاسيكي والحداثي.

-فإن تأملنا الأيديولوجية السلفية الكلاسيكية في فهمها للعقيدة والشريعة ، وأمعنا النظر في مفهومها للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والحدود الشرعية والعلاقات الخارجية مع الدول تبين أنها بالفعل – حسب الباحث-مجرد توجه تقليدي نكوصي يريد إعادة إنتاج الماضي المتخلف في العقيدة ، والشريعة على حد سواء، ففي العقيدة كشف البحث عن الفصام الحاد بين شعار الرحمة ، والتسامح المرفوع من لدن السلفية الكلاسيكية،  والتكفير والتبديع والتقتيل الممارس من قبلهم على عكس السلفية الحديثة المقرة لرحمة الإسلام ، وتفتحه على المغاير ، ورفضه التكفير والتقتيل بين المسلمين والمغايرين ، وحصر القتال والجهاد في حال التعرض للعدوان فقط..

-أما في الشريعة  فتتبني السلفية الكلاسيكية الدولة الثيوقراطية نظاما سياسيا،  وتقف عند الاقتصاد الريعي الحربي القديم غزوا ، وغنيمة ، وتشرع نظاما تراتبيا عبوديا ، وليس عباديا على رأي حامد أبو زيد ذكوريا لا دور للمرأة فيه ، طائفيا اجتماعيا ، وتؤبد منظورا ثقافيا قروسطيا أحادي التسلط على رأي الجابري ضد العلم والمدنية والعصر والإنسانية ،  قوامه منظور تقديسي وقفي لا بشري اجتهادي..

أما إن تفحصنا الأيديولوجية السلفية الحديثة في منظورها للعقيدة والشريعة استنتجنا : أنها حركة تجديد ديني لوثري ، ونهوض سياسي حداثي، أما منهجها فعقلاني يعظم العقل والاجتهاد ، وينزل القرآن المكانته العليا، أما الشريعة فقابلة للتطوير،  وليست وقفية بل متطورة تطور الوعي الإنساني،  ونوازل العصر وفق فهم جدلي لصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان… 

خاتمة:

إن جوهر المشكلة في تصورات البشر، وهذه التصورات نتيجة ثقافة وممارسة، وتلك الثقافة والممارسة كانت في أغلب فترات الإسلام التاريخي مظلمة لسيطرة الاستبداد ، وفرض الحكم الوراثي منذ انقلاب معاوية بن أبي سفيان على الشورى، أضف إليها ضعف الأمة الإسلامية ، واحتلالها ونهبها ، وتدميرها من الصليبيين والتتار ، والحكام الناهجين نهجهم،كل ذلك شكل ثقافة إسلامية عبودية لا عبادية.

فقد هيمن في الممارسة شكل واحد للسلطة والثقافة ، ويحاول محمد عابد الجابري أن يغوص فيه على السبب وفق منهجه الأركيولوجي يقول:”إن السبب في نظرنا هو أن مبدأ “طاعة السلطان من طاعة الله” والدين والملك :توأمان قدهيمن هيمنة شبه مطلقة على الساحة الفكرية في الثقافة العربية، والذين لم يأخذوا هذا المبدأ على أنه يعبر عن حقيقة ما يقرره الدين قبلوه كضرورة ، تدفع محظور “الفتنة”. والحق أن الضمير الديني في الإسلام الذي هو أصلا متحرر من وزر”الخطيئة الأصلية” (خطيئة آدم) قد حمل نفسه وزرا آخر، هو وزر “الفتنة الكبرى” قد بررت على الدوام قبول العيش باستكانة تحت الحكم الذي أصله فتنة ! فكانت النتيجة قيام الحكم في الإسلام ، وعلى الدوام إلى الآن على وحدانية التسلط..”[1].

وصورة الإسلام التاريخية مناقضة تماما لصورة الإسلام المعيارية. ولئن احتفظ الإسلام المعياري بقداسة نص القرآن ، وعظمة طروحاته في العقيدة والشريعة والأخلاق والقيم،  وسعة آفاقه ورحمته حتى أن التكفير الصريح في القرآن واحد وهو الشرك بالله،يقول تعالى: “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك.. “[2].-حتى حق الثناء فما أوسع رحمة الله ، وما أفسح مناكب الإسلام ، وما أقل الذنوب والنواقض فيه ، وما أجمل صورة الإسلام ، وما أجلها وما أرحمها- فإن بعض البشر يضيقون واسعا ، ويشوهون جميلا ، ويمررون زلالا، لا لعلة في الكون سوى أنهم ،  إما بغاة يهدمون صالحا ، ويقيمون فاسدا لمآربهم الخاصة ، أو لأنهم ضحايا يعيدون إنتاج ما تمثلوه على وجه عبودي لا عبادي ، فيخيرون الأصفاد على الانطلاق ، وظلام الكهف على نور الشمس.

الهوامش :

1ـــــــ محمد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، (دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية)، ط 2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، شباط/ فبراير 2006، ص 630.

2 ـــــ سورة: النساء، رقم 48.


اترك تعليقاً