الدّين والسياسة في فتوى عدم دفْن المتجنّسين في المقابر الاسلامية

: د . الطاهر المناعي ، أستاذ التاريخ ، كلية الآداب والفنون والانسانيات ، منوبة ـ تونس

نقول بدءا ، إنّ الفتوى في العصور الاسلامية الحديثة هي في الغالب آلية فقهية ، يُراد منها : استصدار رأي شرعي لمعضلة دينية ، أو مدنية باعتبارها مأزقا اجتماعيا ، ولكن الفتوى ليست بمرتبة الحكم الشّرعي المُلزم ، ولا هي بمنزلة القانون المدني ، وإنما هي حلّ عملي واجتهاد شخصي ، ومَخْرج ذكي في غياب النص و القانون ، وهي في النهاية مجرّد جواب عمّا يُشكل من المسائل الشرعية ، ومع ذلك فللفتوى من قوّة التأثير ما يجعلها زمن صدورها ، وفي فترات الأزمات الاجتماعية تُحدث دويّا  ، وتلقَى تجاوبا شعبيا لافتا،وتصبح أفضل أسلحة المواجهة في الصراعات الدينية والسياسية ، بقطع النظر عن آلياتها والخلفيات التي تحرّكها .

وفي هذا الاطار يتنزّل موضوعنا الدين والسياسة في فتوى عدم دفْن المتجنّسين في المقابر الاسلامية بتونس ، فترة الثلاثينات من القرن العشرين المنصرم .

يقوم التصوّر المنهجي لهذا العمل على مرحلتين : الأولى تأطيرية تاريخية ، وهي ضرورية لتحيين ، أو تزمين الفتوى ، والثانية تأويلية تهمّ مختلف قراءات التعبير الديني عن الصراع السياسي من خلال قانون التجنيس ، والفتاوى والأحداث المترتّبة عليه .

المرحلة الأولى : في 20 ديسمبر من سنة 1923 أصدرت الحماية الفرنسية قانون التّجنيس في عهد محمد الحبيب باي (1922 ــ 1929) المعروف “بانقياده للسلطة “،(1) ويتكون القانون من خمسة وعشرين فصلا تحدد الشروط والطرق العملية التي يصبح بها الشخص ــ التونسي المقيم ــ فرنسي الجنسية ،” وزَعمت السلطة أن القانون سيكون اختياريا لا اجباريا ، ولكنه فتح أبواب التَّفَرْنُسِ للتونسيين لمن يحسن الفرنسية كتابة وقراءة ، وللمُجنّدين برّا وبحرا ، وللمتزوّجين بالفرنسيات ، ولمن لهم مزايا على الدولة الفرنسية “(2) ، “و يُعتبر من ذوي الجنسية الفرنسية  كل أجنبي مولود بالبلاد التونسية ، أو قد وُلد أحد أبويه بالإيالة التونسية أيضا ، ويتمّ بصورة آلية ابتداء من الجيل الثالث ، أمّا المنتمين للجيل الرابع فسيكونون فرنسيين اجباريا “(3) ، ورغم معارضة التونسيين الشديدة لهذا القانون ، “فقد تجنّس البعض منهم ، وكثير من الايطاليين  واليهود والمالطيين” (3) خلال السنوات العشر اللاحقة دون أن يثير القانون مشاكل داخلية تُذكر بسبب بطء عملية التجنيس  ،وسرّيتها في كثير من الأحيان .#ذلك ان المتجنّس لا يستطيع ان يجاهر بحَمْله الجنسية الفرنسية خشية رد فعل الاهالي عليه ، هؤلاء ينبذونه ويقاطعونه بمجرد علمهم بتجنّسه ، ورغم التكتم الشديد الذي احاط بتلك العملية من قبل الادارة خلال العشرينيات ، فان الباحثين استطاعوا ان يكشفوا ما جرى ، وان يقدموا الاحصاءائيات الخاصة بتجنيس المسلمين بداية من سنة 1924 وقد يكون وصل عددهم سنة 1933 الى حدود 710 مسلما حاملا للجنسية الفرنسية#(4)

المرحلة الثانية : في بداية الثلاثينيات عادت قضية التّجنيس لتتصدّر الأحداث الداخلية عندما تُوفِّيَ عدد من التونسيين المتجنّسين، ورفض المسلمون دفنهم في مقابرهم ، وأصبحت كل حالة دفْن لهؤلاء مناسبة لمشادات عنيفة بين المسلمين وقوى الأمن ، وأولى المصادمات كانت بمقبرة بنزرت يوم 31 ديسمبر سنة 1932 ، فقد مَنَعَ المتظاهرون دفْن  المُسمّى شعبان بالمقبرة الاسلامية ، وتمّ دفْنُه بالمقبرة الأوروبية ، وقد تدعّم موقف الأهالي بفتوى “الشيخ ادريس الشريف “(5) ببنزرت الداعية الى اعتبار المتجنس غير مسلم  ، ولا يجوز دفْنه مع المسلمين ، وقد كانت هذه الفتوى احدى العوامل الرئيسية في ايقاظ الشعور الديني و الوطني لدى الاهالي .

أمّا داخل السلطة فقد أثارت هذه الفتوى حفيظة الأستاذ عبد القادر القبائلي رئيس “رابطة المتجنّسين”(6) ، فوجَّه بتأييد من السيد منشكور شكاية شديدة اللهجة الى السيد مورينو  وزير المستعمرات ، وإلى أصدقائه بفرنسا يحتجّ فيها على تقصير الحكومة ، ويطلب تسليط عقوبات مثالية على العامل والمفتي ، وحتّى على المراقب المدني ببنزرت ، وقد أمرت الخارجية الفرنسية المقيم العام بتونس بإيجاد حلّ ، فأوكل الأمر إلى الوزير الأكبر الذي اتّصل بالباي ، إلا أن الباي رفض زَجَّه في هذا الموضوع ، واقترح إحداث مقبرة على حِدَة للمتجنسين ، ولكن المقيم العام وبالتعاون مع الوزير الأكبر الهادي لخوة تمكّن من الحصول على فتوى حنفية ،  وأخرى مالكية من شيْخَيْ الإسلام بالجامع الأعظم  وهما : محمد بن يوسف  النيفر ، ومحمد الطاهر بن عاشور مُضَادَّة لما جاءت به فتوى شيخ بنزرت التي كانت تحظى بتأييد شعبي مطلق ، اجتمع الشيخان بعلماء الحنفية والمالكية في 3 و 4 افريل سنة 1933 ، وقدّما فتوى ايجابية ” للسؤال المطروح عليهما من قِبَلِ الحكومة “(7) ، ومضمونها “أنّ المتجنّس مُرتدّ ، ولكن توبته مقبولة بشرط أن يُعلن شفويا تخلّيه عن جنسيته الفرنسية ، ويمكن آنذاك دفْنه في المقابر الاسلامية “(8) .

وقد جدّت أحداث دامية بالعاصمة يوْميْ 14 و15 أفريل سنة 1933 نتيجة إصرار السّلط الاستعمارية على دَفْن احد المتجنسين ، وهو موسى بن سعيد شاوش بإدارة المالية سابقا ، وفي 22 أفريل دُفْن بفري فيل ـ منزل بورقيبة حاليا ــ المتجنس عيسى بوعَقْلِين بالمقبرة الاسلامية تحت السلاح ، فجُرح واعتُقل عدد كبير من المسلمين ، وتجددت المصادمات في غرة ماي بتونس العاصمة بمناسبة دفْن زوجة عبد القادر القبايلي ، وقد دُفنت بمقبرة الجلاز تحت حراسة مشددة كامل النهار و اليل بمساعدة الشرطة والجيش .

هذه الحوادث مضافة الى فتوى علماء الجامع الأعظم ، سيستثمرها استثمارا سياسيا ناجحا أعضاء الحركة الوطنية  ، وخاصة منهم ،  المحامي الحبيب بورقيبة في مقالاته بجريدة العمل التونسي ،  إذ هي تأتي في سياق اعتداءات سابقة على مشاعر المسلمين : منها إقامة تمثال #الكاردينال لافيجيري #( 9)بساحة  البورصة قبالة #أكبر باب من ابواب المدينة العتيقة في 23 نوفمبر 1925# (10) ، وعُقد المؤتمر الافخارستي ، وهو تظاهرة مسيحية عالمية نظمتها الكنيسة في ضاحية قرطاج من 7 إلى 11 ماي سنة 1930 #لتؤكّد بشكل مفضوح الحضور المسيحي بافريقيا عامة وتونس خاصة #(11).

 هذه اذن جملة المعطيات التاريخية الحافة بموضوع التجنيس، فكيف قُرِئَ هذا القانون ؟  وكيف أُوِّلَتْ  الاحداث المرتبطة به ؟ وأين يتجلّى التعبير الديني عن الصراع السياسي بين الفاعلين في مَجَاليْ السياسة والدين ؟.

القراءة الأولى : إن قانون التّجنيس الصادر سنة 1923 له صبغة تنظيمية إدارية ، وهو ما يعني أن التوتسي المتجنّس سواء أكان مسلما أو يهوديا ، لا يفقد ديانته بمجرد حصوله على الجنسية الفرنسية ، لأن الجنسية والديانة أمران منفصلان: انفصال الاهداف والغايات التي يسعى اليها واضع القانون من ناحية ، والراغب في الحصول على الجنسية التونسية من ناحية أخرى ،#فسلطة الحماية كانت تهدف من وراء هذا القانون الى جعل العنصر الفرنسي اكثر عددا وقوة لمزيد السطرة الداخلية على البلاد ، ووضع حد للصراع القائم بينها  وبين ايطاليا على منطقة تونس الاستراتيجية ، وذلك بالحدّ من تزايد عددهم ، وقطْع أطماعهم ،# (12) أما الراغبون في الحصول على الجنسية من التونسيين ،  فقد كانوا قِلَّة ممن انخرطوا في سلك الإدارة الفرنسية ، أو التحقوا بجيشها ، دفعتهم الامتيازات والإغراءات الى التجنيس ، يعني أن المكاسب المادية ، وأحيانا المعنوية هي المبرر الأقوى للحصول على الجنسية ، رغم أن قضية التجنيس  ــ كما ذكرت  ــ لا تهمّ الا فئة قليلة من التونسيين ، فانها اعتبرت في تلك الفترة قضية شعب مهدد في جنسيته وقوميته ودينه بل في وجوده الحضاري ككل ، وقد اجمع علماء الزيتونة ابان صدور قانون التجنيس على ان في التجنيس ردة  وخروجا عن الاسلام لان المسلم اذا خرج من حكم القران لا يبقى مسلما وسيخضع  للقوانين الوضعية في الزواج والطلاق  والميراث وقد يحمل السلاح لمقاتلة اخوانه في الدين  والوطن وهو ما يعني انه اصبح كافرا بمجرد حصوله على جنسية اخرى  وفي هذا يقول صالح فرحات  المحامي وعضو الحزب الحر الدستوري الجديد: “إن الجنسية والديانة عندنا ليست الا شيئا واحدا” (13) ، وأُفْتِيَ محمد شاكر  وكيل الجامع الأزهر فأجاب ” مرتدّ  عن الدين الاسلامي بإجماع المسلمين ،  وملعُون على لسان الشريعة الاسلامية ، والسّنّة ، والأولين ،  والآخرين ، كل امرئ من الشّعب التونسي ، أو من أيّ شعب اسلامي آخر تجنس بالجنسية الفرنسوية ، أو بجنسية غير جنسيته الإسلامية “(9) ولا يخفى علينا ما في هذا المُطلق ، و الصريح بين الجنسية والديانة  من أسلمة للسياسي  من ناحية ،  وتسييس للإسلامي من ناحية ثانية  ، “إن الردة السياسية باختيار الجنسية الفرنسية ، سيُنظر إليها منذ تلك اللحظة على أنها ردّة دينية” (14)

القراءة الثانية : إذا كان الحصول على الجنسية ليس له علاقة واقعا وقانونا بالهويّة الدينيّة ، ولم يكن أمْر تطبيق الشريعة إلاّ تِعِلّة ، فإنه من ناحية أخرى له علاقة بالهويّة السياسية ، وهنا يبدو أن السياسة الاستعمارية انقلبت على المبدإ القانوني الذي جاءت من اجله وهو الحماية ، فحوّلت الحماية الى استعمار مباشر،  وسعت الى تحويل الاستعمار المباشر إلى إلحاق وإدماج ،  ولم تنجح في ذلك ،   وما لم تحقّقه بالقوة والعنف ، حاولت ادراكه بواسطة التجنيس ومن هنا وضعت النخبة التونسية التجنيس في اطاره الصحيح اذ هو يمثل خطرا يمس الذاتية السياسية التونسية مساسا كبيرا لان معاهدة باردو كما يقول صالح فرحات ” اعترفت لنا باحترام سيادتنا الداخلية ، وغاية التجنيس هي الاكثار من عدد الفرنسيين للتغلب على الاهالي ، وهذا سيجعل عدد التونسيين يتناقص ، وفي ذلك مسّ بسلطة أميرنا الذي سيرى عدد رعاياه يتناقص  ” (15)

وفي هذا الاطار ذاته كتب احمد الصافي رسالة احتجاج الى الرئيس الفرنسي بتاريخ 2 اكتوبر 1923 عبر له فيها عن سخط الشعب العميق على هذا المشروع لانه يقضي على دين التونسيين ووطنيتهم واكد له ان المعاهدات المبرمة بين تونس والحكومة الفرنسية تلتزم باحترام الشخصية القضائية التونسية # وان مشروع التجنيس يهدد الاسلام في هذه البلاد وعليه فهو خرق مزدوج للمعاهدات #(16) وقد ناقش الطاهر الحداد قانون التجنيس من الوجهة السياسية والقانونية في مقال له بجريدة الامة بتاريخ 13 نوفمبر 1923 بعنوان التجنيس نكث للعهدة ذكر فيه ان هذا القانون الذي جاء ليّصَيِّر التونسيين فرنسيين يتناقض بوضوح تام مع معاهدة الصلح والمودة التي وقع تأكيدها  ، وتحديدها في ما يُسمّى بمعاهدة باردو ، ولم تكن مسألة التجنيس في اعتقاده #فجأة في سير السياسة الفرنسية فهي على مبدا ثابت  ، هو الالحاق التام ضمن الامبراطورية الفرنسية بشمال افريقيا “(13)

أستنتج أن التجنيس وُضِع في إطاريْن :الأول ديني ، ولم تكن له  تأثيرات ، ولا أبعاد ،لأن جميع الفتاوى  لن تحول دون تجنيس بعض التونسيين  والأجانب ، مما يؤكّد أن الاعتراضات الدينية كانت شبه مُفْتعلة في العشرينيات ، والثاني سياسي ، حقّق نجاحا ، فقد أدركتْ سلطة الحماية جزءا من أهدافها ، وهو تحويل بعض العناصر الأهلية ، وغيرها إلى الجنسية الفرنسية ، ممّا ضخم فعلا عدد جاليتها مقارنة بالجاليات الأخرى ، وفي ذلك دعم لسياستها الاستيطانية ، والتونسيون كانوا على وعي كبير بالأبعاد السياسية لعملية التجنيس ، ولم يكن بأيديهم أيّ سلاح لمواجهة القانون ، إلاّ بإقحامه قصْرا في دائرة المُقدّس ، مما يعني أنّ الدخول إلى الجنسية الفرنسية ، معناه الخروج من ملّة  النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،  وما يُسْتَتْبَعُ من شعور بالغربة والاغتراب في مجتمع يستمد قوته وتماسكه من فيض عاطفته الدينية .

 القراءة الثالثة : في بداية الثلاثينيات ، وبمناسبة موت بعض المتجنّسين ــ كما رأينا ـ تعود ظاهرة التعبير الديني الى الصراع السياسي من جديد ، فالمتجنس الميت من الوجهة القانونية هو مسلم ديانة وفرنسي جنسية ، ولكن من الناحية الشرعية هو مرتدّ وكافر ، وقد أفتى الشيخ ادريس الشريف في حينه  بضرورة دفنه خارج المقابر الاسلامية ، وهو ما وقع فعلا ، وقد كشفت الحوادث التي أشرنا إليها سابقا عن مدى مركزية المسالة الدينية في الشعور الجمعي ، الأمر الذي مكّن زعماء الحركة الوطنية ، ومنهم الحبيب بورقيبة من وسيلة ناجحة لتأطير الجماهير وتوجيهها سياسيا ، فقد كان بورقيبة يمهّد للانشقاق عت اللجنة التنفيذية ، وهو في حاجة في تلك الفترة إلى دعم جماهيري والى زعامة حزبية وخاصة ان المؤسسة الدينية بالوانها المختلفة لازمت الصمت ، فاستثمر الحزب هذه المسالة للربط بين الوطنية  والدين ، وقد مثّل ذلك نقطة تحوّل تجلّت في بداية دخول الجماهير الشعبية ” للنضال السياسي من بوابة الدين ، و افتكاك الحزب لصفة المتحدّث باسم المقدّس  “(14) وفي الحقيقة ان مشروع التجنيس هذا كما يشير الى ذلك بعضهم # كان له اكثر من هدف فزيادة على انه خرق للشريعة الاسلامية واخضاع المسلمين الى قوانين وضعية فان الهدف الاسمى هو القضاء على مقوماتهم الشخصية كاللغة والدين والقيم واستلابهم الروحي فيصيرون جثثا هامدة تقودها المادة الحيوانية الى دائرة الالحاد ويترتب ذلك كله زوال المقاومة والشعور الوطني(17)

وعندما أصبح ” الشعب يُسْمَعُ صوته” (18) ولم يعد يخشى استفزازات سلطة الحماية ، وتأزّم الوضع بتونس إلى حدّ يُنذر بالانفجار، عمدت سلطة الحماية ، وهي سلطة علمانية إلى مواجهة غليان الشعب ، باستصدار فتوى من المجلس الشّرعي تُجيز ظاهريا ــ على الأقل ــدفْن المتجنّسين في المقابر الاسلامية ، وهي فتوى تتصدّى لفتوى الشيخ ادريس، وهي التي كانت بالأساس فتوى دينية ، واسْتُثْمِرت لأغراض سياسية ودعائية ، بينما فتوى علماء الزيتونة الرسميين ، هي فتوى سياسية ، اكتست لبوسا دينيا ” كادت تجعل البلاد نهْبا للنار ، ومسرحا لاهراق الدماء”(17) لأن الشعب اشتم فيها رائحة المؤامرة .

 وهو ما دفع أساتذة الزيتونة الى الاتصال ببورقيبة ، وعبّروا له عن عدم رضاهم عن الفتوى والتّبرّؤ منها ، “وبدا لهم أنّه  من العبث أن يحتوي الدين الاسلامي في صُلب نصوصه نفسها أحكاما من شأنها أن تُعين على هدْمه ، بفتح باب الغفران في وجوه المارقين من حظيرته ، والمُعرضين عن الخضوع لتعاليمه “(19)

 ورغم أن الحكومة أعرضت عن الفتوى الرسمية ، وقررت دفن المتجنسين في مقبرة خاصة بجهة بورجل ، فان الفاعل السياسي حصد من الشعبية والكارازمية بالقدر الذي عبر عنه الشعب  من غضب واستنكار تجاه سلطة الحماية ، وتجاه رجال الدين الرسميين ” فقد ظهر هؤلاء في صورة الجبناء والانتفاعيين  والمتواطئين مع الحماية (20)

وليس غريبا أن تُطرح هذه الحوادث في مجال الصراع السياسي مع فرنسا ، فقد كان بورقيبة “من أشدّ المعارضين  لدعوة الحداد الى السّفور ، ودعوة السلطة الى نزع الشاشية في المعهد العلوي ” (21) لأنّه كان يؤمن أنّ تلك المظاهر رموز عربية اسلامية ، وجزءا من شخصية البلاد  وهويّتها ، وفي الحفاظ عليها حفاظ على الأمة من الفناء والانصهار ، زد على ذلك فان التخلي عنها كالتخلّي عن الجنسية ، ويعتبر في فلسفة بورقيبة السياسية ” نيلا من كرامتنا لأن هذا الصنيع ناشئ عن التمسك بنظرية التفوق الفرنسي ، وإرادة فرضها في كافة مظاهر الحياة “(22)

 القراءة الرابعة : في قضية التجنيس والفتاوى التي صاحبتها ، هناك مسألتان : الأولى ارتباط الجنسية بالدين ، أي ارتباط المتجنّس بالهوية الدينية للبلاد، وهو ارتباط وُضِع في دائرة الدفاع عن المُقوّمات الذاتية للأمة  ، والتي منها الجنسية والحجاب والشاشية ،ذلك أن الاستعمار سعى الى تفكيك كل المؤسسات الوطنية ، ومنها المؤسسة الرمزية عَبْر محاولة إدماج العنصر الأهلي في الثقافة الفرنسية ،  وحشَد لذلك كل الوسائل : قانون التجنيس ، #المؤتمر الأفخارستي# ( 23) ، تعليم الفتيات في مدارس الراهبات ، إقامة تمثال #الكاردينال لافيجري #( 24)، قبالة أحد أبواب المدينة العتيقة ، دفْن المتجنس في المقابر الاسلامية …

لكن ارتباط الجنسية بالدين زال بعد الاستقلال ،لأن الفاعل السياسي يعتقد أنّ هويّة البلاد لم تعد في خطر ، وأنّ المُسبّب الاستعماري قد زال،  فلا يُخشى على هذه الهوية من الانصهار والتلاشي  ، لذلك طالب بورقيبة بنزع الحجاب والسّفْساري، لم يعد حَمْلُ جنسية أجنبية مَثار جدل ديني ، الثورة شعبية في الدولة الحديثة ، إذن ما الذي بقي؟

بقيت المسألة الثانية قائمة وهي جنسية المقبرة : هل المقبرة مجرد ومجموعة حفر لدفن الموتى ، أم هي صور مُصغّرة لمجتمع الأحياء ؟ لكن الأحياء تحدّد ــ عادة ــ جنسياتهم في إطار هويتهم السياسية ، أمّا الاموات فتتحدّد هويتهم بانتمائهم الديني،  وهو ما يجعل دفْن غير المسلمين في مقابر اسلامية أمرا مرفوضا  ، هناك مفارقة عجيبة : الأديان السماوية والمجتمعات المُوحّدة تتحاور، بل البشرية كلها ، عاشت ولا تزال تعيش اندماجا كليا : ــ  في السكن، الادارة ، المدارس ، الأسواق ــ  في جميع الفضاءات المفتوحة  التي أنشأتها المجتمعات الحديثة على اختلاف أديانها : تسامح ، وتآخ ، و تضامن،  الناس يعيشون في فضاء واحد يجمعهم جميعا دون تفرقة ، تختلط الأجناس والأديان والمذاهب .

 لم يُباح للأموات ما يُباح للأحياء ؟ لماذا عندما يموت المؤمن يحتاج الى فضاء خاصّ به ، باعتباره مسلما ، أو مسيحيا ، أو يهوديا ؟هل للأجساد هوية ؟  من المؤكد في الديانات السماوية أنّ جسد الميّت ليس مجرّد جُثّة : فيه جانب قُدسي ، فيه جوهر يجعل وجوده إلى جانب أجساد أخرى يعرّضه إلى الاختلاط ، إذن هناك خطر التّدنيس ذلك ” أنّ كلّ اختلاط  من منظور سوسيولوجي ، هو عملية خطيرة تجلب الفوضى  ، ويُخشى ــ بصفة خاصّة  ــ أن تختلط الصفات الواجب تركها  بعيدا ، إذا أُرِيد لها المحافظة على فضائلها الخاصّة  ، لهذا السبب يرى روجي كيوا ، أنّ أغلب الممنوعات في المجتمعات التي يُقال إنّها بدائية  ، هي ممنوعات تخصّ ــ في المقام الأوّل ــ الاختلاط ،  لأنّه من المسلّم به أن التَّماسّ المباشر،  أو غير المباشر ،  والحضور المتوازي في نفس المكان المغلق يمثّلان في حدّ ذاتهما اختلاطا “(25)

المقبرة من الأماكن المغلقة ينطبق عليها ما ينطبق على دور العبادة ، لها قداستها وطهرها ، وتُمارس فيها طقوس خاصّة بكل ديانة ،  ومن هنا توجّب الفصل بين الأموات ذوي الجنسيات الدينية المختلفة ، لقد أُبِيحَ الاختلاط للأحياء في الحياة الدنيا ، لأنّها فضاءات مفتوحة ، ومُنِعَ في دور العبادة  والمقابر: مَنْعا للتّدنيس ،وتأكيدا للطهارة من زاوية عقدية ، ولكن من الوجهة الفلسفية ، والمنطقية والعلمية ، وحتى الدينية ، يكون من العبث جمْع الأحياء ، وفصْل الأموات في مجتمعات متديّنة ، تنادي بالتّآخي والتضامن والحوار ، #وتدعو الى تقارب إنساني شامل #(25)، فهل نحتاج اليوم إلى فتاوى تعيد النظر في علاقة الأموات بعضهم ببعض ، في ظل التّسامح الديني ،  وعولمة القِيَم .

الهوامش :

1 ــ هوابن عم محمد الناصر باي ،تولّى حكم تونس وعمره 65 سنة ،ولم تكن له شخصية محمد الناصر الذي هدّد في 5 افريل سنة 1922 بالتنحي عن العرش ،إذا لم تستجب فرنسا لمطالب الدستوريين ، في عهد محمد الحبيب مرّر المقيم العام لوسيان سان اصلاحات 11 جويلية سنة 1922 التي رفضها الدستوريون جملة وتفصيلا ، انظر يوسف مناصرية ، الحزب الحر الدستوري التونسي (1919 ـ 1934) بيروت دار الغرب الاسلامي 1988 ، ص 132

2 ــ الطاهر الحداد ، التجنّس نكث للعهد ، جريدة الامة ، تونس ، بتاريخ 13 نوفمبر 1923

3ـ احمد القصاب ، تاريخ تونس المعاصر (1881 ــ 1956) تعريب حمادي الساحلي ، الشركة التونسية  للتوزيع 1986 ، ص 522

4 ــ  يحيى الغول ، التجنّس الفرنسي والحركة الوطنية التونسية ، بحث اللغة الفرنسية ، مرقون لنيل شهادة الكفاءة في البحث ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس 1973 ، ص 54

5ـ وُلد  الشّيخ ، إدريس ببنزرت سنة 1886 ، وتوفي بها سنة 1934

6ــ اسست رابطة الفرنسيين المسلمين بتونس في 15 ديسمبر 1924 بقرار من الوزير الاكبر ،تهدف هذه الرابطة الى تمتين الصلة بين المتجنسين، ومدّ يد المساعدة اليهم وتشجيع غيرهم على الجنسية الفرنسية ،والدفاع عن حقوقهم السياسية والاجتماعية وتعريفهم بكرم الجمهورية الفرنسية ,Mustapha Kraim ,Nationalisme et Syndicalisme en ، ص 277Tunisie

7ـ عُرض عليهم السؤال التالي :ما حُكْم التونسي المسلم المُتجنّس بجنسية دولة أجنبية ، وقوانينها ليست مطابقة للشريعة وتاب ، وهل يجوز قبول توبته ،  وهل يمكن دفنه في المقابر الاسلامية ،  انظر ، يحيى الغول ، التجنّس والحركة الوطنية ،  شهادة الكفاءة في البحث ، عمل مرقون باللغة الفرنسية بدوريات ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس 1973

8ــ الجيلاني الفلاح ، الشعب التونسي والتجنس تونس1924 ، ص 24

9 ــ المصدر السابق ، ص 70

10 ــ لطفي حجي ، بورقيبة الزعامة والامامة ، تونس ، دار الجنوب للنشر 2004 ، ص 130

11 ــ المصد ر السابق ، ص 29

12 ــ مصطفى كريم ، مرجع سابق ، ص 259

13 ــ الطاهر الحداد ، التّجنيس نكث للعهد ، جريدة الامة بتاريخ 13 نوفمبر 1933

14 ــ لطفي الحجي ، بورقيبة الزعامة والامامة ص 130 وانظر نشاط بورقيبة في تقارير الشرطة بتاريخ 8 اوت 1933 وانظر يحيى الغول ص 199

15 ــ يوسف مناصرية ، ص 150

16 ــ عنوان مقال الحبيب بورقيبة جريدة العمل التونسي بتاريخ 19 افريل 1933

17 ــ بورقيبة ، مقال رأي اساتذة الجامع الاعظم ،العمل التونسي بتاريخ 20 افريل 1933 ، مقالات صحفية ص 349

18 ــ المصدر السابق ص 350

19 ــ     Ali Mahjoubi ,Les origines du mouvement national en   Tunisie 1904 -1934 ,P .u.t ,Tunis1982  ,p. 482

20ـ  الحبيب بورقيبة تاريخ الحركة الوطنية مقالات صحفية 1929 ـ 1934 ، ص 10

21 ـ المصدر السابق ، ص 25

22 ــ تظاهرة دينية مسيحية عالمية نظمتها الكنيسة بتونس من 7 الى 11 ماي 1930

23 ــ لافيجري 1825 ــ 1892 ممثل الكنيسة بافريقيا منذ سنة 1867 ، سمّي كاردينال لكنيسة قرطاج سنة 1882 ،كرس حياته لتنصير افريقيا ، انظر موسوعة لاروس الكبيرة الفرنسية ، ج5 ، ص 640

        24 ــ         Roger Caillois ,l’homme  et le sacré ,3 ed   -20 Gallimard,Paris1963 ,p.26

25 ــ بعض البلديات في بلدان اروبية مثل فرنسا خصصت فضاءات لدفن المسلمين في مقابر مسيحية

اترك تعليقاً