الأقلية اليهودية بجزيرة جربة بين الخرافات والواقع التاريخي

بقلم : يوسف بن ساسي : باحث تونسي

تمهيد  : لم تحظ مسالة الأقلية اليهودية بجزيرة جربة بنصيب من الاهتمام في الدراسات العلمية ، ذلك ان الاقليات في بلاد المغرب الإسلامي لم تسعف بعناية الدارسين إلا لماما . حتى أنّ المتوفّر منها قد ألّفه مؤرّخون وعلماء اجتماع وباحثون من أصل يهودي اتّسم بالأثَرة والاعتساف والإغراق في الخيال ،فاتخذ أصحاب تلك الدراسات من الخرافات حجة يعزّزون بها هوّيتهم ، و من بعبد الغريبة ما به يرسّخون واقع تلك الأقلية بالجزيرة ، دون مبالاة بدور أغلبية الفئات الاجتماعية المسلمة ، حتى أنّ بعض مصادرهم أظهرت الجزيرة خالية من سكانها ، و  عُمدتهم في  ذلك روايات بعض يهود الجزيرة . لذلك كله اخترنا أقلّية يهود جربة مبحثا نقارب فيه حقيقتهم التاريخية ، مستندين في ذلك إلى مراجع كتابهم التي لا تتلافى مع الأحداث ، وإلى مراجع عربية مختصة بالمنطقة المغاربية عموما ، و تاريخ جربة خصوصا ، غايتنا في ذلك البحث عن الحقيقة التاريخية بكل موضوعية . و سنحاول هنا تفكيك رموز المرويّ من تلك الخرافات كما وردت في المراجع المكتوبة مبْرزين رموز المكان والزمان، و الأشخاص و الاحداث ، مستخلصين من وراء تحليلها تاريخ انتشارها ومصدر ترويجها،  و النتائج الناجمة عن ذلك ، ذاكرين علاقتها بواقع الأقلية اليهودية التاريخي .

• خرافات الهويّة  .

تقع جزيرة جربة في منطقة الجنوب الشرقي من البلاد التونسية ، و تحديدا بخليج قابس على الطريق البحري الممتد على السواحل التونسية  ، فهي همزة وصل بين طرابلس ليبيا و تونس ، كما تنفتح على بقية البلدان و الجزر المتوسطية. وقد لعبت دورا استراتيجيا عبر التاريخ ، وشهدت  حضارات متعددة ابتداء بالحضارة الفينيقية ، و انتهاء بحضارة الإسلام. و قد عرف أهلها مِحَنا كبرى عبر التاريخ القديم و الوسيط جرّاء موقعها المتميّز . وهي تلعب اليوم دورا اقتصاديا كبيرا،  لا سيما في المجال السياحي .

و يمثّل اليهود اقلية ضئيلة بالنسبة إلى عدد السّكان ، ذلك أنّهم لا يتجاوزن الألف و المائتين (1) ، و هذا العدد يتفاوت قِلّة ،و ارتفاعا حسب الظروف السياسية التي تمرّ بها البلاد التونسية ، فكلما شهدت البلاد أزمة من الأزمات ، أو تعلقّت المسالة بحرب من الحروب بين إسرائيل و العرب تقلّص عددهم، و هاجروا الى بلدان أخرى ، وكلما عرفت البلاد أمنا و رخاء ارتفع عددهم ، و كبرت أطماعهم .

لذلك نلقى اليوم عددا غير هيّن منهم ، و لا سيما من السّياح ، إذ تستعدّ  جربة كل عام لاستقبال ما بين خمس آلاف (5000) و سبعة آلاف (7000) سائح يهودي إبّان موسم  الغريبة الذي يلتئم غالبا ما بين الثاني و التاسع من شهر ماي ( ²⁾  وقد يتغيّر أحيانا ، لكنه يبقى منحصرا بين الرابع عشر من أفريل

و الثامن والعشر من ماي³ . وتغدو هذه السياحة حجّا تُعتنق فيه الطقوس ، و تُضاء فيه شموع ، و تُعقد فيه احتفالات غنائية . و يغدق هؤلاء الحجاج عى أعضاء لجنة الغريبة من المال ما به يحققون أمانيهم. فما هي هذه الخرافات التي نُسجت حول الغريبة ؟و ما تاريخ هذا المعبد؟

يعْتمد المؤرّخون اليهود لتجذير يهود جربة في تاريخهم على مجموعة خرافات ، وردت على ألسنة ربّييهم ، جعلت من معبد الغريبة الرمز التاريخي لوجودهم في الجزيرة ، و الأثر  المقدّس الذي خلّد ذكرهم ، و الدليل القاطع على امتداد تاريخهم.

وهذه أهمّ  الخرافات في المؤلّفات المكتوبة التي تتناول حياة الأقلية اليهودية بجربة ،أو المتعلقة مباشرة بمعبد الغريبة ، و يمكن اختزالها في خرافتين أساسيتين. تزعم الأولى أنّ معبد الغريبة يُنسب الى تلك الفتاة الغريبة الصّالحة. أمّا الثانية فإنّها تذهب إلى أنّ أصل المعبد يرجع الى كُهّان فارّين من فلسطين إثر خراب القدس ، حملوا معهم بابا  من أبواب الهيكل،أو حجرا من أحجاره .و قد تمّت رواية الخرافتين بطرق مختلفة . تضارب بعضها و اختلفت أحداثها، واتخذت أبعادا مكانية و زمانية متشابهة .و قد رصدنا ثلاث روايات للخرافة الأولى و ثلاث روايات للخرافة الثانية و ردت على ألسنة يهود جربة، و لم نعثر على رواية واحدة جاءت على ألسنة الفئات الشعبية المسلمة بالجزيرة . ولعل هذا الاختلاف و هذا الاضطراب في الروايات يرجع إلى أنّ مؤلّفينا قد نقلوها عن مصادر مختلفة،و في أزمنة متباعدة وإن كانت الرموز متشابهة و الأهداف واحدة.

الرواية 1 :

تزعم الخرافة أنّ المكان الذي توجد فيه الغريبة حاليا ، كان في الماضي  البعيد قَفْرا، وأن قاطني الحارة الصغيرة لا يرتادونه ، إلاّ أن مفاجأتهم كانت كبيرة لما اكتشفوا يوما أنّ فتاة حسناء متواضعة ، و حيدة كانت تسكن المكان . لا أحد كان يعرف مصدر مجيئها،  و لا كيف كانت تعيش..   و لا أحد تجرّأ على سؤالها عن هويتها، أو حتى قدّم لها يد المساعدة.

وفي  ليلة من الليالي شوهدت السنة النيران تتصاعد من الكوخ الذي كان ملجأها، ولكن لم يتجاسر أحد على انقاذها و الاقتراب من النيران خوفا من السّحر. وفي الصباح قرّر بعضهم معرفة سرّ تلك النيران، فذهبوا الى ذلك المكان لاستكشاف ما حدث. فوجدوا الكوخ قد أصبح رمادا، و الفتاة الشّابة قد ماتت. ولكن جسمها لم يحترق، وقسمات و جهها لم تمسّها ألسنة النيران. فأدرك السكان حينئذ أن الفتاة الغريبة من الأولياء الصالحين، و قاموا بناء معبد في ذلك المكان سمّوه الغريبة ⁴ .

الرواية 2:

يُحكى أن الغريبة هي فتاة يهودية فرّت من القدس إثر الخراب الذي لحق بها. فأبحرت على متن زورق حاملة على صدرها لفائف التوراة، فدفعتها الرياح إلى الجزيرة جربة. وحين أدركت شواطئها لفظت أنفاسها ،فأقيم لها في مكانها ذلك معبد يخلّد ذاكراها، و قد وُسِم بالغريبة⁵ نسبة لها .

الرواية 3 :

تنصّ على أنّ فتاة شابّه فارقت قبيلتها دون هدف معين . لا أحد يعلم كيف استطاعت هذه الفتاة البارعة الحسن أن ترسي وحيدة على ساحل هذه الجزيرة المعزولة منذ القديم عن القارة ، و قد أقامت هذه الفتاة الجميلة في المكان بعيدة عن السكان . ونصبت خيمتها و عاشت تحتها و حيدة دون أن  تقبل الضيافة من جيرانها. كانت تقضي وقتها في الصلاة والتأمل. و ما عرف أحد البتّة إن كانت يهودية أو بربرية أو يونانية. لكن الناس كلهم كانوا معجبين بها ، لأن وجهها كان يشعّ نورا و قداسة . فلا أحد سوّلت له نفسه ازعاجها ،أو حاول فكّ الغموض المخيّم على حياتها بما في ذلك الربّيون أنفسهم.  و في أحد الأيام وقع إعصار في الجزيرة ، فسقطت صاعقة مدمّرة على مسكنها ، فشاهد الجيران و كل سكان القرية ألسنة النيران تتصاعد من خيمتها ، إلا أنّ أحدا من أهل القرية لم يتجرّأ على الاقتراب منها، خوفا على أنفسهم من سحرها. ولما قرّر بعضهم معاينة الأمر عن كثب ، وجدوا كوخها كوما من الرّماد. و عند اقترابهم، شاهدوا الجمر مازال ملتهبا ، و الفتاة الغريبة قد فارقت الحياة ، ووجهها و جسمها سليمان لم تمسسهما النار. لا أحد يعرف  بأّ معجزة نجا جسم الضحية من ألسنة اللهب.وأمام  هذه الأعجوبة وقف الجميع مشدوهين. لقد كان وجه العذراء صافيا ، و فمها عليه ابتسامة رقيقة. و بعد جدال طويل ، استخلص القرويون ان الفتاة الغريبة كانت وليّة صالحة . و هكذا لام السكان، نساء و رجالا، أنفسهم على عدم تكريمها حيّة . وندموا جميعا على عدم نجدتها وقت الخطر. وقرروا دفن الغريبة الوليّة الصالحة في المكان نفسه الذي ماتت فيه. اما الربّيون فقد قرروا بناء معبد لها حتى يُغفر لهم، و حتى يكرّموا الولية الصالحة بعد موتها. فأصبح المعبد كنيسا يُعرف باسم الغريبة ^6.

الرواية 4 :

أمّا الخرافة الرابعة فمادها أنّ يهودا من طبقة الكهّان قد فرّوا من القدس منذ زمن إثر تدمير البابليين الهيكل حاملين من أبوابه بابا  أو من حجارته ، و أبحروا الى الغرب ، فأرسُوا في جزيرة غريبة، شيّدوا فيها كنيسا سمّوه الغريبة لغرابة هذه الجزيرة . وكان هذا المعبد بقرية عُرفت باسم ديغت التي تعنى حسب زعْم يهود جربة ” الباب” أو ” المدخل ” أي مدخل الهيكل. وتزعم الخرافة ان الحارة الصغيرة من زمن بعيد عامرة بأحفاد الكُهّان الناجين من القدس التي دُمّرت في القرن السادس قبل الميلاد. لذلك يدَّعى يهود جربة أن الجزيرة هي مدخل القدس.

الرواية 5 :

يروي فليس علوش في نص يرجع تاريخه إلى سنة 1931 خرافة نقلها عنه الباحث الاجتماعي الألماني، وهو من أصل يهودي يُدعى سليم فرويند و لفغانغ( FreundwolfGrang.s ) سنة 1989، وأعاد نشرها في مجلة حقائق سنة ⁸، 1994 ورد فيها ما يلي:

”  يُرجّح أنّ كامل المنطقة المحيطة بالغريبة  كان يقطنها يهود جربة  ، وقد حاول قائد مسلم ذات يوم تشتيت المجموعة اليهودية ، وتحويل الغريبة إلى مسجد. بيد أنه لم يُفلح ، فقد أدّى ذلك الى جفاف المنطقة الخصبة بالمياه الجوفية في بضعة أشهر. و قد شاهد القائد العربي منابع المياه تجفّ الواحد تلو الآخر، و المواشي تموت، ورجال عشيرته يهلكون تباعا ، وقد أصابهم داء إلاهي خفيّ. فجنح الى إعادة الكنيس والأراضي المحيطة به الى يهود جربة محقّقا بذلك رضا الجميع. ومنذ ذلك العهد أصبحت الغريبة مقصدا يحجّ إليه اليهود و كلّ ذي عقيدة . و يُحكى أن العديد من المرضى قد استعادوا صحّتهم ، كما تحقّقت معجزات عديدة من هذا القبيل” .⁹

الرواية 6 :

تؤكّد هذه الخرافة ان رجالا من أصل يهودي نزلوا بجزيرة جربة المسمّاة قديما ميناكس.انهم كُهّان فرّوا من فلسطين بعد تخريب الهيكل الأول حاملين معهم التّوراة .كانوا يريدون بناء معبد يرمز الى تخليد الدين اليهودي ، و لكن أفراد تلك المجموعة لم يكونوا متّفقين على مكان البناء ، و طال الخلاف بين أفرادها زمنا إلى اليوم الثالث والثلاثين  من العومر و هو اليوم الثاني بعد عيد المسيح .في هذا اليوم المبارك حسب زعْم الخرافة ، سقط حجر من السّماء ، فكان مسقطه تنبيها لموقع بناء المعبد ، فانتهت بذلك الخلافات بين الجماعة اليهودية ¹⁰  .

الرواية الشعبية الجربية :

أمّا الرواية الإباضية الشفوية فمفادها أن اليهود قصدوا اثناء دخولهم الجزيرة ، المنطقة الساحلية و استقروا بها ، و حمَلهم الاباضية على الانتقال من هناك الى المناطق الداخلية لإبعادهم عن خطر ” العرب” في البرّ الكبير ، و حمايتهم منهم . وأصبحوا موزعين فيما بعد بين الحارة الكبيرة المجاورة لحومة السوق و الحارة الصّغيرة . وتوجد كلتنا الحارتين داخل المنطقة الوهبية التي بقي أصحابها يمثلون أغلبية سكّانية في جربة ¹¹ .

• رموز الأشخاص و الأحداث:

بطلة الخرافة الأولى فتاة صبية عذراء تتّسم بالجمال والبهاء والقداسة، ولكنها غريبة الأطوار تعيش وحيدة فريدة ، لا تكلم أحدا ولم يجرؤ احد على مخاطبتها واكتشاف سرها. فبقيت مجهولة الهوية. وأشارت الحكاية الثانية الى أنها كانت تحمل لفائف من التوراة على صدرها ، و عندما نزلت على ساحل البحر منهوكة القوى ماتت . وأقيم لها معبد. فلفائف التوراة رمز لقداستها.أما الحكاية الثالثة فقد حاول واضعها التوغّل في عالم الخيال والمعجزات. فأطنب في جمالها، وارتكز على عُزلتها و نُسكها و تصوّفها. و ألمح الى هويتها . فذكر ثلاثة إمكانيات :إمّا يهودية أو بربرية أو يونانية.وهذه الخرافة الوحيدة التي تشير الى أصل غير يهودي. ولعل ذلك يرجع الى نوعية الجمهور المتقبّل لهذه الخرافة. فهذه الخرافات يسعى أصحابها الى نشرها لا في الوسط الشعبي اليهودي فحسب ، بل ترويجها في أوساط الفئات المسلمة و غير المسلمة. ويُضفي صاحب الخرافة من خياله الشيء الكثير لتصبح هذه الفتاة المتصوّفة أعجوبة، إذ تدمّر الصاعقة كل ما حولها فتموت الفتاة ، و ينجو جسدها من ألسنة اللهب ، و يبقى و جْه العذراء صافيا ،تعلو فِيها ابتسامة رقيقة .هذه المعجزة جعلت سكان القرية يتيقّنون من قداستها فبنوا لها معبدا.  و على سذاجة هذه الخرافة فهي ترمز الى عقائد بيّنة . فالفتاة لدى صاحب الخرافة على غرار مريم العذراء في قداستها و عفّتها و جمالها. نذرت حياتها للعبادة فكانت نهايتها تلك المعجزة . و يبدو ان هناك ما يشبهها في الخيال الشعبي عند المسلمين و غيرهم من الأمم ، و أغلبها مرتكز على أعمال الأولياء الصالحين و الوليات الصّالحات،  و يمكن ارجاع هذا النوع من الخرافات في الأوساط الشعبية الى العهد الوسط و ما بعده ، عهد ازدهار الحركات الصوفية الشّعبية ، التي تهدف الى تثبيت العقيدة الايمانية في نفوس تلك الفئات الشعبية الأمية ، التي لا تعرف من دينها الا ما تعلّمته عن طريق الفطرة.و خرافة هذه الفتاة موجّهة برموزها الى الفئة النسائية اليهودية بجربة ، قصد تحصينها من الفتنة و الفساد لأنّهن في وسط منغلق أغلبه أميّ . و دليلنا على ذلك ما يُرافق مراسم الاحتفالات بالغريبة من عادات و تقاليد،  و مثال ذلك ما تضعه الفتيات اليهوديات من  بيض و شموع على قبر هذه الفتاة المزعوم حتى يتزوّجن بسرعة ¹².  فلا علاقة لتلك العادات والمعتقدات التي تقام في معبد الغريبة بالتوحيد. فهي أقرب إلى ما تمارسه بعض الفئات الشعبية المسلمة في اختلافها إلى الزوايا والأضرحة، متوسّلة إليها حتى تحقّق رغباتها و أمانيها. إنّ هذا لمظهر من مظاهر الشرك ، دعا إلى محاربته الدين الإسلامي الحنيف. أمّا الخرافة الثانية فأبطالها مجموعة من الكُهّان فرّوا من أورشليم إثر خرابها ، و نزلوا بهذه الجزيرة ، و هم يحملون بابا من أبواب الهيكل او حجرا من أحجاره بنوا عليه معبد. فاكتسب هذا المعبد قدسيته.  هذه الخرافة الأولى لا يمكن لعاقل أن يصدّقها لسذاجتها و إغرابها في الخيال، و تناقضها و الواقع التاريخي. . فهي تقصي وجود الآخر معتبرة إياه عدوّا، و تتضارب مع أحداث الجزيرة التاريخية او تلغيها تماما . ولا تمتّ بأيّ صلة للواقع الجغرافي الذي شُيِّد عليه المعبد لأنه مكان بعيد عن سواحل الجزيرة .لهذا لا يمكن اعتمادها دليلا يؤرّخ لبداية حلول اليهود بالجزيرة . إنّ الرواية التي رواها فليكس علوش سنة 1931 و هو المعروف بانتمائه الصهيوني ، تتميّز من غيرها بصياغة مختلفة .فهي تدّعى ان المنطقة المحيطة بمعبد الغريبة كان يسكنها اليهود ، و هذا يجانب الواقع التاريخي. فالقرية التي كانت تسمى ” بني ديغت” قديما و المحتضنة المعبد ، و الموسومة حاليا بالرياض هي قرية عامرة بسكانها الأمازيغ منذ أقدم العصور . اما اسم ” الحارة الصغيرة ” فقد اطلق على حي صغير كان يسكنه اليهود،  لايبعد عن معبد الغريبة إلا ببضع مئات من الأمتار. والملاحظة الثانية التي تلفت الانتباه في رواية فليكس علوش هي المعجزة التي خصّ بها المعبد إثر خرافة مزعومة ،تشير الى أن هذا المعبد قد شُيّد في موقع يحيط به الاعداء، و لكن قداسته صانته من كل سوء. فقوله قد حاول قائد مسلم ذات يوم تشتيت الطائفة اليهودية و تحويل الغريبة الى مسجد ¹³ ، قول أراد به صاحبه تحذير كل من سولت له نفسه مسّ هذا المعبد بسوء. و انه سيلاقي ما لاقاه هذا القائد المسلم .فلا يخفي ان ذلك يستهدف حماية هذا المعبد و صدِّ مناوئيه . فالرواية قد حِيكت في ظروف استعمارية ساخنة سنة 1931 ¹⁴ . و لا ندري ما مقاصد الباحث الاجتماعي سليم فرويندولفغانغ من نسخ خرافة فليكس علوش من جديد و إعادة كتابتها مرتين : المرة الأولى سنة 1989 و المرة الثانية سنة 1994 .   و مهما يكن من أمر فإن هذه الخرافات على سذاجتها تروم إضفاء القداسة على هذا المعبد،  حتى تُقنع زوّاره بأنه معبد عتيق يكتنفه الغموض و المعجزات ، أنه رمز لشرعية الوجود  اليهودي بالجزيرة . و هذا كله يتنافى و حقيقة المعبد وحقيقة الطائفة اليهودية و تاريخ الجزيرة .

 3- رموز المكان :

3-1- جربة ليست جزيرة غريبة :

تكاد تتّفق جميع الخرافات أن المكان الذي نزلت به الفتاة الغريبة ، أو الذي حلّ به الكُهّان الفارّون من مكان خال من السكان الأصليين ، بل  إنّ بعض الخرافات ( الخرافة 4) تزعم ان أولئك الكُهّان قد نزلوا في جزيرة غريبة فبنوا فيها هذا المعبد ، و سمّوه بهذا الاسم لغرابة الجزيرة  . ونجد خرافة أخرى ( الخرافة 6) تشير الى ان اتفاق الطائفة اليهودية المهاجرة على بناء المعبد ، لم يتمّ الا بمعجزة إلاهية تمثّلت في سقوط حجر من السماء في المكان ، الذي بُني به المعبد بعد ذلك . أما بقية الخرافات الأخرى ، فترتكز على إبراز خلوّ المكان من ساكنيه أو بعده عنهم.   هذا الزعم الخرافي يتناقض مع الواقع التاريخي للجزيرة. ذلك أن جربة لمّا انفصلت عن القارّة و، تكوّن مضيق أجيم مع نهاية العهد الحجري القديم تقريبا ، كانت الحضارة القبصية تشعّ من قفصة الى الوطن القبلي . فهل يمكن أن تكون أقدام الانسان القبصي قد توقّفت دون هذه الجزيرة القريبة ؟ و هل يمكن اني نتصوّر إن إنسان العهد الحجري الحديث (4000ق م) ، إنسان التقاليد القبصية التي أكدت عديد البحوث الأثرية أنه عاش على ضفاف سبخة المالح بجرجيس ، لم تجذبه هو ايضا تلك الأرض الحلوة العائمة على المالح ؟¹⁵البحر بطوفانه الذي شهده العهد الرابع ، وهجماته المتعددة و الأنشطة البشرية المتواصلة الكثيفة في جميع أنحاء الجزيرة ، ساهمت في إبادة حضارات العهد الحجري.¹⁶ لقد اتفق بعض المؤرخين ، معتمدين في ذلك على بعض الشبه في اللغة او التماثل في تقنيات و أنماط صناعة الفخار ، على ان خليج سرت و جزيرة جربة بالذات و سكان سواحل بلاد البربر عموما كانوا خلال العهد البرونزي:  أي على امتداد الألفيتين أن الثالثة و الثانية قبل الميلاد على علاقة بجزر بحر ايجة و سواحله . ثم حصلت فيها بعد بعض الهجرات بعد حصول هجرة  من العالم الإفريقي الى جزيرة جربة حوالي ( 1500 ق م) و اذا نحن تذكرنا سفرة أوليس ( ULYSSE ) الأسطورية التي خلدها هوميروس (HOMERE) تقع زمنيا إثر سقوط طروادة، اي حوالي القرن 15 ق م . وإذا لم ننس  أن إحدى محطات أوليس كانت جزيرة آكلي اللوطوس ، فإنه يمكننا اعتبار أسطورة أوليس دليلا  لا شك فيه على عراقة سكانها ، و على أنها كانت منذ العهد على الأقل متفتحة على التأثيرات الحضارية المتوسطة .¹⁷ كما أن الأماكن الأثرية القديمة المكتشفة حديثا تفنّد مزاعم الخرافة اليهودية التي تدّعي أنّ الجزيرة غريبة خالية من سكّانها 18

3-2- بني ديغت :

إنّ رواية واحدة ( الرواية 4) يحدد فيها أصحابها اسم الموقع و هو “ديغت” . ويزعم بعض الباحثين اليهود ¹⁹ أن هذا الاسم ” ديغت ” مشتق من الكلمة العبرية “ديلت” . وتعني الباب أو المدخل أو الردهة ،و المقصود من ذلك حسب زعْمهم باب الهيكل او مدخل القدس،  و أن بني ديغت هم أحفاد الكُهان الأولين الذين نزلوا بهذه القرية المُسماّة ديغت، و سُمّوا بأصحاب المدخل أو باب لأنهم حملوا معهم بابا من أبواب الهيكل، أو حجرا منه شُيّد عليه المعبد و الحقيقة ان هذه الكلمة “ديغت” اسم قرية من قرى جربة ، تسمى حاليا الرياض ، وهو اسم بربري يتألف من مقطعين “دي” و هو اسم إشارة بمعنى هذا  و”غت” معناه الرماد و لا علاقة له بادعاء بعض الباحثين بأن الكلمة ذات أصول عبرية. و على هذا الرغم الخرافي بنى المؤخان اليهوديان ²⁰ رأيهما جاعلين من هذه الخرافة حقيقة،  و اعتبرا أن اليهود سكنوا جزيرة جربة عندما كانت خالية من سكانها الأصليين و قبل الفنيقيين و القرطاجيين .

3-3- الحارة الصّغيرة و الحارة الكبيرة :

الحارة الصغيرة و الحارة الكبيرة حيّان صغيران خاصّيْن باليهود في العهد العثماني، و عهد الاحتلال الفرنسي لتونس^21. يتكوّن الحيّان من مساكن متلاصقة على شكل أحواش منغلقة على نفسها وأزقّة و أنهج ضيقة. أغلب سكانها الآن عرب مسلمون، و مازال بعض اليهود يقيمون في هذين الحييّن متجاوريْن مع المتساكنين المسلمين ، متعايشين معهم ، يتبادلون مصالحهم الاقتصادية في أمن وسلام دون أن تفقد هذه الأقليّة  هويتها . فمازالت تحافظ على عقائدها و عاداتها و تعتمد على الخرافات التي تدّعي أنهم من نسل الأجداد الكُهّان ²².تبعد الحارة الصغيرة عن حومة السوق عاصمة الجزيرة بستة كيلومترات . و تقع في قرية كانت تسمى قديما بني ديغت و أصبحت حاليا منطقة بلدية أطلق عليها اسم الرياض .أما الحارة الكبيرة فهي لا تبعد عن حومة السوق إلا نحو كيلومتر واحد و تقع في قرية تسمى تاوريت. وهذا الحي أصبح الآن الضاحية الجنوبية لحومة السوق فالتصقت المباني بعضها ببعض ، و أطلق على هذه الضاحية اسم السواني وهي في حاجة الى تهيئة عمرانية تليق بالنهضة الاقتصادية التي تشهدها الجزيرة حاليا .

4– رموز الزمان :

تكاد تتفق جميع تلك الروايات على أن الزمن الأول لسكنى اليهود بهذه الجزيرة هو إثر خراب أورشليم سنة 586 ق.م 23وسواء كانت روايات الخرافة الأولى المتعلقة بالفتاة الولية الصالحة   أو روايات الخرافة الثانية المتعلقة بطبقة الكهان المهاجرين ، فهي تُجمع على أن بداية تاريخ اليهود بجزيرة جربة يرجع إلى زمن بعيد . وهذه العبارة تذكّرنا بالأساطير اليونانية أو الهندية أو قصص ألف ليلة وليلة، و لكن مروّجي هذه الخرافات حتى يجعلوها واقعا تاريخيا أضافوا إليها عبارة إثر تخريب الهيكل،  و حدّدوا تاريخ دخول اليهود الى الجزيرة سنة 586ق. م .فهل بالإمكان ضبط زمن ترويج هذه الخرافات ؟ و ما الغاية  من تحديد هذا التاريخ ؟

فهل بالإمكان ضبط زمن ترويج هذه الخرافات ؟ يمكن تقسيم المراحل التاريخية التي مرت بها الطائفة اليهودية الى ثلاث مراحل: نتناولها بالدرس و التحليل مرحلة مرحلة في ضوء تاريخ الجزيرة و تاريخ البلاد التونسية ، و منطقة الغرب الإسلامي عموما.

4-1- هل سكن اليهود جزيرة جربة قبل الاسلام ؟

لم تثبت كتب التاريخ أو الرحلات القديمة و لا الدراسات الحديثة ، و لا الأماكن الأثرية الشاهدة على تاريخ جربة القديم أيّ وجود لليهود في هذه الجزيرة  ²⁴. و ما ذكره بعض المؤرخين الباحثين ²⁵ في مسألة تاريخ الأقلية في هذه الجزيرة الافتراضية التي تتخذ من تلك الخرافات مصدرا تعتمد عليه لإثبات ان هذه المجموعة القليلة لها تاريخ عريق في الجزيرة وأن أجدادها دخلوها لاجئين بعد تخريب الهيكل بأورشليم سنة 586 ق م . إن هذه المقولة تدّعي أن الأرض الأم لليهود هي فلسطين ، و قد خرجوا منها زمن الشتات، و أنهم لاجئون سيعودون يوما الى الأرض الأم . فهذه الدعوى تنفي أي انتماء للأرض التي يعيشون عليها ، و تتناقض مع المقولة التي تعتمد على الحجّة التاريخية القائلة أن فلسطين للفلسطينيين أي لأهلها الأصليين و هم بنو كعنان ²⁶ .فهذه المقولة الخرافية ألبست ثوبا صهيونيا في فترات متأخرة من العهود الإسلامية ، على ألسنة الربّيين اليهود أنفسهم. فهم الذين روّجوا و جعلوها عقيدة للطائفة اليهودية بالجزيرة ، و غيرها من الأماكن التي سكنها اليهود بشمال إفريقيا .

4-2- الأقلية اليهودية بجربة في ظل النظام الإسلامي إلى أواخر القرن التاسع عشر :

إذا سلمنا ببعض الفرضيات التي ذهب  إليها بعض المؤرخين بأن شمال إفريقيا عرف الديانة اليهودية في بعض قبائله البربرية القليلة ، و أن اليهود سكنوا هذه المنطقة في أماكن عديدة ، و امتهنوا التجارة في عهد الفينيقيين و حضارة قرطاج و روما²⁷ ، فليس غريبا ان يستوطن الأفراد من اليهود جزيرة جربة للتجارة لمكانة هذه الجزيرة الإستراتيجية في حضارات البحر المتوسط .  لعل هؤلاء الأفراد سكنوا مدينة ميناكس كغيرهم من التجار ، و لكنهم استقروا فيها أيام الرخاء ، و غادروها أيام النكبات و الغزوات . فلا علاقة لهؤلاء الأجداد بالأجيال المتأخرة.إن وجود اليهود بجزيرة  جربة و غيرها من المناطق التونسية و المغربية ، لم يبرزإلا في ظل النظام الإسلامي الذي وجد فيه اليهود ملاذا يقيهم من اضطهاد الأمم الأخرى ، و مكانا دافئا يعيشون فيه آمنين يمارسون معتقداتهم و عاداتهم بكل حرية نتيجة التسامح الذي تميّز به الدين الإسلامي الحنيف  ²⁸ . فقد أصبح العالم الإسلامي ممتدا تجاريا من الأندلس إلى البلاد الآسيوية ، ومن بلاد شمال إفريقيا الى بلدان إفريقيا السوداء في أغلب فتراته التاريخية ، و حتى في فترات الحروب. فقد كانت القوافل التجارية و قوافل الحجيج تربط ما تمزق،  و تبني ما تصدّع . و بقيت البلاد الإسلامية رغم التناحر و الفتن فضاء تجاريا موحّدا عبر العصور استفاد منها اليهود أيّما استفادة ²⁹ .  إن حركة الجهاد و الغزو أيام الحرب في بلاد المغرب منذ انتشار الإسلام إلى قيام دول متعددة عبر التاريخ الإسلامي ، إلى رد أخطار الغزو الخارجي من حروب صليبية و ضياع الأندلس،  و تشتت المسلمين و اليهود الأندلسيين معا ³⁰ في بلاد  البحر الأبيض المتوسط عامة، جعلت هذه الحركة البلاد من أقصاها إلى أقصاها تعيش مراحل فتوحات و غزوات لا تنقطع ، و انقلابات لا تهدا ، و فتن و اضطرابات لا تنتهي³¹.غير أن هذا الواقع لم يمنع اليهود من إقامة مجمعات منظمة لهم من القرن الثالث الهجري ، أو التاسع الميلادي بكامل أطراف المغرب الكبير. فظهروا بعديد من المراكز المتباينة المتباعدة بالقيروان و قسنطينية و تلمسان و فاس و غيرها من أماكن بلاد المغرب،  يقيمون شؤونهم الدينية ويولّون مِن أحبارهم مَن يتولّى القضاء في أحوالهم الشخصية. كما عرفت الحياة الثقافية اليهودية لديهم فترات ضعف و خمول ، و قوة إشعاع بحسب ما تهيأ لهم في كل فترة من عناصر ، و قيم ساهمت في أحياء تراثهم و خدمة معارفهم و ثقافتهم . و على هذا الوضع استمروا في ظل النظام الإسلامي بالمغرب ينعمون بالأمن الذاتي و العدالة و حرية المعتقد³². ولئن تعرض اليهود لبعض الاعتداءات فلم تكن تلك الاعتداءات حالا لأزمة ، و لم تتّخذ شكل المجازر مثلما وقع في أوربا ³³ بل كان المسلمون في أغلب المراحل التاريخية يساندونهم و يصانعونهم ممتزجين بهم،  يعملون عندهم و يقومون عندهم و يقومون بكثير من الخدمات لديهم، و يتولون جلب البضائع إليهم بما لهم  من روابط مع غيرهم من اليهود خارج البلاد المغربية ، كانت تُيّسر لهم الاتصال بآفاق بعيدة و بلاد نائية⁴³، وهم في ذلك متنقلون في البوادي و المدن ، لهم بكل نقطة من البلاد صلة و ذكر و موعد منتظم ، يصلون فيه إليها مع ما يجلبون من بضائع و عروض . و بذلك أثروا إثراء عجيبا، و تحكموا في الأسواق و أصبحوا المموّلون وحدهم للبلاد في كل ما تحتاج إليه. و شاع فسادهم بين المسلمين آخر العهد الصنهاجي بتونس و المرابطين بالمغرب،  و نشروا كثيرا من العادات و الانحرافات و قاموا بمعاملات كانت كلها على حساب الدين والأخلاق ، لا يعنيهم من ورائها شيء سوى جمع الأموال و توفير الثروات³⁵. في هذه البيئة المغاربية الإسلامية استقر بعض اليهود بجزيرة جربة . فوجدوا فيها مكان آمنا في أغلب المراحل الإسلامية ، و شاركوا سكانها في أنشطتهم الاقتصادية مع الاحتفاظ بمعتقداتهم . إلا أن ما كتبه بعض الباحثين اليهود عن حياتهم ³⁶ . هم يعتمدون على الخرافات والروايات الشفوية ليهود جربة . وهي روايات تغلب عليها الذاتية و المبالغة والإشادة بخرافات ساذجة،  لا يصدقها عاقل مع إغفال متعمد لواقع الجزيرة التاريخي ، فجعلوا من يهود جربة كأنهم يعيشون في جزيرة خالية من سكاها لا تاريخ لها إلا تاريخهم الخرافي .إن دراسة تاريخ اليهود بجربة يجرّنا مباشرة الى البحث عن تاريخ نشأة الحارة الصغيرة و الحارة الكبيرة ، ثم الفترة التي تأسس فيها معبد الغريبة. يمكن القول بأن اليهود قد مروا بثلاث مراحل سكنية في جزيرة جربة في ظل النظام الإسلامي. فقد سكنوا في بداية الأمر مختلطين بالسكان في منطقة بني يغيت . و كانت لهم مقبرة واحدة يدفنون فيها موتاهم ، و هي مقبرة الغريبة التي تبعد عن الحارة الصغيرة بنصف كيلومتر ، وتقع وسط المنطقة السكنية للسكان الأصليين بالجزيرة. ثم وقع تجميعهم في مكان واحد سُمّي بالحارة في عهود لاحقة ،قبل مجيء الفوج الأول من اليهود الفارّين من الأندلس في أواخر القرن السادس عشر . ولما استقر الوضع بالجزيرة و البلاد التونسية بعد التهديد الخارجي الصليبي للسواحل التونسية،  و دخول البلاد في ظل نظام الخلافة العثمانية ، استقر هؤلاء اليهود الجدد في مكان قريب من حومة السوق عاصمة الجزيرة ، و تجمعوا في ما سُمي بالحارة الكبيرة، و أطلق على الأخرى الحارة الصغيرة ، و أصبح في الجزيرة طائفتان من اليهود شأنهما شأن مدينة تونس يهود تونسيون،  و يهود ليفورنيون أو القرنة. ولم يُعرف هذان المكانان باسم الحارة الكبيرة و الحارة الصغيرة إلا أواخر القرن السابع عشر ³⁷    و بعد استقرار اليهود الجدد في الحارة الكبيرة ، احتد التنافس بين الطائفتين في المجال الاقتصادي لما كثر عددهم في العهد العثماني و في فترة الاستعمار الفرنسي . فقد كان يهود الحارة الكبيرة لا يتزوجون من يهود الحارة الصغيرة . وكانت لكل طائفة عاداتها و مقابرها و معابدها ³⁸ .  فمعبد الغريبة إذن كان مقبرة مازالت آثارها موجودة الى الآن، و لم يفكّر الربّيون في بناء معبد مشترك لهم إلا بعد نشأة الحارتين في عصور متأخرة . و يمكن ارجاع تاريخ بناء المعبد إلى القرن الثامن عشر. و هذه الخرافات و المعجزات المنسوجة حول الغريبة منشؤها عهود انتشار الحركات الصوفية في البلاد الإسلامية . فكما انتشرت كثير من الخرافات حول عدد الزوايا تعظّم مناقب الأولياء الصالحين بعد الهجمات الصليبية على الجزيرة ، هادفة الى تقوية الإيمان في وسط اجتماعي مسلم أغلبه من الأميين كذلك روّج الربّيون تلك الخرافات لترسيخ العقيدة في الطائفة اليهودية،  و لتأصيل جذورها في المنطقة بالإضافة إلى رموزها السياسية التي ظهرت جليّة في عهد الاستعمار وبعده .

4 ــ 3 ــ: يهود جربة في عهد الحماية الفرنسية على تونس وبعد الاستقلال 39

ليست لنا إحصائيات دقيقة تبيّن لنا عدد السكان اليهود في هاتين الحارتين إلا ما وجدناه في بحوث الدارسين . فعدد يهود جربة حسب ذكر الإحصائيات لا يتجاوز بعض الأفراد بداية القرن التاسع عشر ، و ارتفع في أواخر العهد العثماني عددهم الى ستة آلاف (6000) يهودي في الحارتين⁴⁰ ، . ولعل ذلك يعود الى الامتيازات التي تحصل عليها اليهود في عهد أبي عبد الله محمد باي و المشير محمد الصادق باشا باي ⁴¹ . فمنذ 1856 وقع إلغاء الجزية المفروضة على اليهود بينما أعيد فرض المجبة على الأهالي بدون استثناء . ورغم الثورة التي اندلعت بقيادة علي بن غذاهم سنة 1864 ضد حكم البايات و إبطال العمل بإصلاحات 1857و1861 . وإثر قمع الثورة فإنه لم يقع إلغاء القوانين التي تمنح اليهود امتيازات ⁴² . ففي الخامس من صفر سنة 1275ه/ الرابع عشر من سبتمبر 1859 م صدر أمر الباي بتسريح اليهود للبس الشاشية ، و شراء ما يملك من الربع و العقار بالحاضرة وغيرها ، و انتحال الفلاحة و هو من التسوية بمقتضى عهد الأمان ⁴³ .وليس غريبا أن تشمل تلك الامتيازات يهود جربة بلغ عددهم 6000 يهودي .ثم كان انخفاض الأرقام و ارتفاعها حسب الظروف السياسية التي مرت بها البلاد التونسية . فانخفض عددهم في أواخر القرن التاسع عشر في عهد نظام الحماية على تونس الى 2000 يهودي في الحارتين ، ثم ارتفع هذا العدد طيلة فترة الاستعمار فبلغ 4438 سنة 1951. لعب يهود جربة دورا هاما في المجال التجاري و ترويج الكتاب العبري بين الطائف اليهودية في بلاد المغرب عامة . فقد أنشئت أول مطبعة عبرية في الحارة الكبيرة سنة 1903 . أسسها التاجر الثري عيدان القاطن بالحارة الكبيرة .ثم تأسست أربع مطابع عبرية في الجزيرة واحدة في حومة السوق و اثنتان بالحارة الكبيرة وواحدة بالحارة الصغيرة⁴⁴ . وقد قام يهود جربة بدور خطر في تنشيط الهجرة السرية إلى اسرائيل قبل إنشائها وبعدها . فأنشأ المهاجرون منهم معبدا شبيها بمعبد الغريبة قرب تل أبيب ⁴⁵. وقد لقى يهود جربة شأنهم شأن يهود تونس جميعا بعد الاستقلال تسامحا و رعاية من قبل السلطة السياسية للبلاد التونسية بصفتهم مواطنين يحملون الجنسية التونسية⁴⁶ . وقد استفادوا اليوم من الانفتاح الاقتصادي ومن القوانين الجديدة التي سنتها الدولة لإنعاش الاقتصاد .

خــــــــــــــــــــــاتمة

وبناء على ما تقدم نستخلص أن الأقلية اليهودية بجزيرة جربة قد عاشت في أمن و سلام طيلة العهود الإسلامية قديمها و حديثها . و رغم المحن التي تعرض لها أهل الجزيرة ولاسيما في القرون الوسطى ، فإن المراجع التاريخية لم تشر الى أي ضرر لحق بهذه الطائفة اليهودية .تدل الوقائع على أنها بقيت بمنآى عن كل خطر ، حتى أن الرواية الشعبية في الجزيرة تؤكد أن الفئات المسلمة قد صانت حقوق اليهود و حمتهم من كل مكروه ، و خوّلت لهم الاندماج معها في الحياة الاقتصادية . فكانت لهم تجارتهم و صناعتهم و أعمالهم التي تميزوا بها ، ولكنهم بقوا منغلقين على أنفسهم ، متعصّبين لبني جلدتهم، أسّسوا لأنفسهم خرافات تمجّد تاريخهم، و تتناقض و الواقع،وأنشئوا معبدا يخلّد ذكراهم و يرمز إلى مقدساتهم ، شيّدوا على مهاد روايات واهية ، وقد أثبتت الأحداث عدم انتمائهم لهذا الوطن .

و اليوم، في ظل النهضة السياحة التي تشهدها الجزيرة ، نراهم يستغلون معبد الغريبة لأغراض دعائية لا علاقة  لها بالدين . فروّجوا تلك الخرافات في أوساط السياح على أنها الحقيقة التاريخية لوجودهم ،  يعاضدهم في ذلك كتّاب بعيدون كل البعد عن الأمانة العلمية ، غايتهم الربح المادي والتعصب لبني جنسهم، ولهم في ذلك مآرب أخرى.إن الآثار التاريخية تشهد على أن هذه الجزيرة كانت مهدا لحضارات عديدة ، وقلعة إسلامية وقفت أمام الغزاة و الصليبين في فترات من تاريخها ، ولقد احتضنت فئات مضطهدة ، فعرف أهلها كيف يتعايشون مع هذه القلية متشبعين بالروح الإسلامية التي تدعو الى التسامح مع من يخالفهم في العقيدة. وقد لا نعد الصواب إن ذهبنا الى أن جزيرة جربة تضم معالم تاريخية إسلامية عديدة ما تزال مهملة تفتقر الى رعاية تمكّن من أن تلعب دورا حضاريا متميزا، بل ان تصبح موقعا تتعايش فيه مختلف الاجناس و العقائد .

الهوامش :

1 ــ يُقدّر سكان الجزيرة حسب إحصاء 1994 بــ 000. 100ساكن Encyclopédie Encarta1997 ,Djerba

2 صحيفة الجزيرة ، السنة 19 ، عدد 135 ، أفريل 199 ، ص 13 صحيفة جهوية جامعة تصدرها شهريا جزيرة جربة .

3ــTaïta UmmHnina , Le pélerinage de la Ghriba Acompte d’ auteur ,1994 , p.25

Op. cit , p 8-  4

Op.cit ,p  10-11-  5

-6 K. Tmarzizet et J.Perez :Djerba synagogue el Ghriba ,ed carthacom, Tunis 1993 ,p.24

Taita Umm Hnina Le pélerinage de la Ghriba ,p . 10 – 7

Wolfgang S. freund , LA Ghriba de Jerba :Promesse d’un autre  avenir ?Réalités n° 460 du 12 – 18 aout 1994 ,P.29   -8

9ــ Felix Allouche,Pélerinage de la Ghriba : Annuaire Sioniste 1931 , Evidences    ,Janvier 1951.V .R .Attal et C.Sitbon , Regards sur les juifs  de Tunisie ,p . 169    K. Tmarzizet et J.Perez :Djerba synagogue el Ghriba , p . 24 -10

11 ــ محمد المريمي ، التفكير المذهبي وعلاقته بالواقع السياسي والاجتماعي في جزيرة جربة بين منتصف القرن السادس عشر  ومنتصف القرن التاسع عشر ، شهادة التعمق في البحث ، كلية العلوم الانسانية ، جامعة تونس الأولى ، ماي 1994 ، ص 266

Taïta UmmHnina , Le pélerinage de la Ghriba ,p . 26 -12

Wolfgang S. freund , LA Ghriba de Jerba :Promesse d’un autre -13  avenir ?Réalités n° 460 du 12 – 18 aout 1994 ,P.29

Felix Allouche,Pélerinage de la Ghriba : Annuaire Sioniste, Evidence, 1931-14      ,Janvier 1951.V .R .Attal et C.Sitbon , Regards sur les juifs  de Tunisie ,p .  162 -169

15 ــ  توفيق الرّايس و الصادق ابن مهنّي ، جربة سرّ وسحر ، التاريخ القديم ، صحيفة الجزيرة  عدد 144 فيفري 2000 ، ص 11

16 ــ نفس المرجع

17 ــ نفس المرجع

18 ــ نفس المرجع

A . L . Udovitch et L . Valenci , Communauté Juives en pays d’Islam: Identités  -19                          et communications à Jerba , Anales : Economies Société Civilisations 35^ème anneé n° 3 – 4 Mai – Aout1980 ,p. 768

R.Attal et Sitbone :Regards sur les juifs  de Tunisie , Albin Michel,Paris 179 -20                 p.  284

Servonnet Jean et Laffite Fernand : En Tunisie : Le Golfe de Gabes 1988 ,ch 5 : l’Ile de Djerba-21

نشر هذا الفصل ضمن مجموعة من المقالات بعنوان : جربة ، المعهد الوطني للآثار ، تونس ، د . ت . تعرّض المؤلّفان إلى الحارتيْن في ذلك الوقت باقتضاب مشيريْن  الى عدد سكانها الذي لا يتجاوز 2000 يهودي مركزين على كثرة الاوساخ  المنتشرة فيهما .

Wolfgang S. freund , LA Ghriba de Jerba :Promesse d’un autre -22 avenir ?Réalités n° 460 du 12 – 18 aout 1994 ,P.26-29 ,et461,19-25 sept1994,p .30-33

A . L . Udovitch et L . Valenci , Communauté Juives en pays d’Islam: Identités et communications à Jerba , Anales : Economies Société Civilisations 35^ème anneé n° 3 – 4 Mai – Aout1980 ,p. 772

R.Attal et Sitbone :Regards sur les juifs  de Tunisie , Albin Michel,Paris -23 179,       p.  284

Pierre Quoniam :Histoire Préislamique Djerba ,p.lll-xv -24

نشر في كتاب : دراسات حول جزيرة جربة ، جمعية صيانة جزيرة جربة ، د . ت .

25 ـ من هذه الكتابات والدراسات الحديثة التي جعلت من هذه الخرافات حقيقة تاريخية نذكر مقال :

A . L . Udovitch et L . Valenci , Communauté Juives en pays d’Islam: Identités et communications à Jerba , Anales : Economies Société Civilisations 35^ème anneé n° 3 – 4 Mai – Aout1980

وهي أهم دراسة تَدّعي العلمية كتبت عن يهود جربة ،ألّفها باحثان من أصل يهودي ، فقبل أن يصفا ثقافة هذه الأقلية بين الفئات الاجتماعية المسلمة ، أبرزا أشكال تنظيمها وعادات أفرادها ورموزهم .  وقد اعتمدا هذان الباحثان على الخرافات المذكورة لإعطاء شرعية تاريخية لهذه الطائفة القليلة من السكان ، إلى جانب ما تحمله الدراسة من مفاهيم تاريخية وسياسية  ، لا تثبتها أيّ وقائع تاريخية،   راجع ص ، 768 وص 747

26 ــ حسين التريكي ،هذه فلسطين ، الشركة التونسية للتوزيع ، تونس 1973 ، راجع الفصل  الثاني ، فلسطين عبر التاريخ ، ص 31 ـ 32

27 ــ محمد العربي السنوسي ، يهود تونس في بداية نظام الحماية 1881 ــ 1911 ، الحياة الثقافية عدد 57 تونس 1990 ، ص  56

28 ــ اعتُبر اليهود من أهل الذّمّة، وكانوا في حماية الدولة الاسلامية ،ووضِعت  لهم أحكام تُنظّم علاقاتهم بالمسلمين ، وتحفظ حقوقهم.

راجع :Paul Sebag : Histoire des Juifs de Tunisie des Origines à nos jours :La condition  des dhimmins , p.49 – 51

29ــMichel Abitbol , Juifs Maghrebins et commerce transsaharien  du VIIIe au XV  S . p .178- 192

ـــــــ30  راجع،   هشام فوزي عبد العزيز يهود الاندلس في ظل الحكم الاسلامي 92 ــ 897 هــ / 711 ــ 1492 م ، دراسات اندلسية ، عدد 15 ، جانفي 1996 ، ص 95 ــ 104 ــ جوان 1996 ، ص 5 ــ 11

31ــ محمد الحبيب  ابن الخوجة ،  يهود المغرب العربي :  معهد البحوث والدراسات العربية،  المنظمة العربية للتربية  والثقافة والعلوم 1973، ص 24

32 ــ نفس المرجع ، ص 25

33ــ محمد العربي السنوسي ، يهود تونس في بداية نظام الحماية 1881 ــ 1911 ، الحياة الثقافية عدد 57 تونس 1990 ، ص  56

34 ــ Goitein , S . D ,La Tunisie  du XIe à la lumière de Geniza du Caire , des études d’orientalisme 1962 , tome 2 ,p . 559 – 579

35 ــ محمد الحبيب  ابن الخوجة ،  يهود المغرب العربي :  معهد البحوث والدراسات العربية،  المنظمة العربية للتربية  والثقافة والعلوم 1973، ص 25

36 ــ راجع في هذا الاتجاه :

A . L . Udovitch et L . Valenci , Communauté Juives en pays d’Islam: Identités et communications à Jerba , Anales : Economies Société Civilisations 35^ème anneé n° 3 – 4 Mai – Aout1980 ,p.  764- 783

Wolfgang S. freund , LA Ghriba de Jerba :Promesse d’un autre avenir ?Réalités n° 460 du 12 – 18 aout 1994 ,P.26-29 ,et461,19-25 sept1994,p .30-33

1. Attal :Djerba , centre de diffusion du livre hebraique , Extrait communautés juives des marges sahariennes du maghreb , Institut Ben – Zvi , Jerusalem 1982 ,p . 469 – 477

37 ــ من الصعب تحديد تاريخ دقيق للمرحلة الأولى من إقامة الطائفة اليهودية، فتحديد هذا الزمن التقريبي يعود إلى اعتمادنا على الاحداث التاريخية التي مرّت بها الجزيرة ،وإلى الغموض الذي اكتنف الجانب العقاري لمعبد الغريبة، إذ وُجد في منطقة كانت تابعة لأراض موقوفة على جامع عبد الرحمان  بن يعلى ، الذي يرجع تاريخه الى العهد الوسيط  ، وإلى اعتمادنا على الرواية الشفوية التي تؤكد أنّه كانت خلافات بين القائمين على الغريبة ، والقائمين على أوقاف الجامع : وهم من أسرة بن يعلى .

38 ــ      Taïta UmmHnina , Le pélerinage de la Ghriba   ,p .47

محمد العربي السنوسي ، يهود تونس في بدايات نظام الحماية 1881 ــ 1911 ، الحياة الثقافية عدد 57 تونس 1990 ، ص   57

39 ــ جمعنا هذه الارقام من عدة بحوث وهي :

Wolfgang S. freund , LA Ghriba de Jerba :Promesse d’un autre avenir ?Réalités n° 460 du 12 – 18 aout 1994 ,P.26-29 ,et n° 461,19-25 sept1994,p .27

1. Attal :Djerba , centre de diffusion du livre hebraique , Extrait communautés juives des marges sahariennes du maghreb , Institut Ben – Zvi , Jerusalem 1982 ,p 292

40 ــ استقينا هذا الرقم من بحث العروسي الميزوري : التعايش السلمي بين الأديان ، الهداية عدد 4 تونس 1996، ص 75

41 ــ أبو عبدالله محمد باي 1226 هــ /1881 ــ 1272 هــ / 1859 م

محمد الصادق باي ولد سنة 1228 هــ / 1813 ، تولى الحكم يوم 22 سبتمبر 1859 م وتوفي في 28 أكتوبر 1882 .

42ــ محمد العربي السنوسي ، يهود تونس في بدايات نظام الحماية 1881 ــ 1911 ، الحياة الثقافية عدد 57 تونس 1990 ، ص   57 ــ 58

43 ــ أحمد ابن ابي الضياف  ، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك وتونس وعهد الأمان،  الدار التونسية للنشر ، تونس 1989،  ج 4 ، ص 572 ــ 287

1. Attal :Djerba , centre de diffusion du livre hebraique , Extrait -44 communautés juives des marges sahariennes du maghreb , Institut Ben – Zvi , Jerusalem 1982 ,p.473

Josef Toledano,Fils d’Abraham :Les juifs Maghrebins , ed ,Brépoles , 1989 -45  4 p.113

Richard Ayoun : Les juifs de Tunisie et Bourguiba ,Tunisie Plurielle , L’or du 46

temps S .D . P . 295- 306