رغم قِصَر رواية أرنست هيمنغواي ومحدودية شخوصها وأحداثها، لكنها أهلته لينال جائزة نوبل للأدب عام 1954.
بقلم رحمن خضير عباس
“من الذي هزمك؟
لا أحد، أنا ذهبتُ بعيدا”.
هذا ما كان ساتتياغو يهمس لنفسه، رافضا الهزيمة، وهو في خضمّ صراعه مع السمكة التي اصطادها في عرض المحيط، وكيف قاوم هجوم أسماك القرش التي التهمت صيده الثمين، ذلك الصيد الذي كاد أن يودي بحياته، والذي كلّفه ثلاثة أيام بلياليها، متحملاً الجوع والألم والعطش، واحتمالات الموت.
هذا هو فحوى رواية “الشيخ والبحر” التي أبدعها الكاتب الأميركي إرنست همنغوى عام 1951. ورغم قِصَر الرواية، ومحدودية شخوصها وأحداثها، لكنها أهلته لينال جائزة نوبل للأدب عام 1954.
تتحدث الرواية عن صياد سمك عجوز اسمه سانتياغو، يذهب بزورقه المتهالك في عرض البحر، ولكنه يعود خائبا، واستمر في محاولات متعددة لصيد السمك، ولكن الحظ لم يحالفْهُ لمدة أربعة وثمانين يوما متتالية، حتى أن مساعده الصبي (مانولا ) قد تخلى عنه، بتحريض من أبيه، بدعوى أن الشيخ سيء الحظ، فاشتغل بقارب آخر. ولكن مانولا الصبي بقي وفيا لمعلمه العجوز، يساعده في حمل الأشرعة، ويجلب له بعض ما يسد رمقه.
وفي اليوم الخامس والثمانين، قرر الرجل العجوز أن يتوغل في البحر، ووضع صنارات الصيد، وبعد فترة غير قصيرة أحسس بحركة غير عادية تجذب حباله، فأيقن بأن صناراته قد علقت بفم سمكة، لكنه لم يتوقع أنها بهذا الحجم الضخم، وحينما أراد أن يجرّ الحبل لسحبها، وجد أنها تسحبه بقوة، مما حدا به أن يُرخي الحبال ويبقى متشبثا بالأمل، وهي تسحبه بعيدا للتخلص من صنارته القاتلة، وقد استمرت المطاردة ليومين متتاليين، لم يذق كلاهما طعم الراحة (سانتياغو والسمكة)، فقد كان كلاهما يبحث عن النجاة. الشيخ لأن الفوز بها سيغير وضعه جذريا، وخلاص السمكة سيمنحها حياة أخرى، وهكذا يستمر الصراع بشكل حاد وقاسٍ. ويبقى الشيخ متشبثا بحباله، يرخيها تارة ويسحبها تارة أخرى. ورغم أن قواه قد خارت ولكنه بقي مصرّاً على لعبة الحياة والموت.
وفي اليوم الثالث تقترب السمكة من الزورق. وقد كان الرجل العجوز في حالة من الضعف والجوع والهزال، فطعنها في قلبها و هكذا انتهت المعركة بينهما.
وقد أدرك أنه بعيد عن الشواطئ، فحاول العودة بصيده الكبير الذي لا يتسع زورقه لحمله، ولكن رائحة الدم قد جذبت أسماك القرش، التي راحت تنهش جسد السمكة، لكن العجوز سانتياغو كان يحاول الدفاع عن صيده فطعن القرش بحربته التي ضاعت في البحر، وسرعان ما تجمع عدد كبير من أسماك القرش، وكان يدافع باستماتة المحارب حتى فقد كل أسلحته. وخيّم الليل عليه وهو في أوج صراعه. وحينما وصل إلى شاطئ قريته لم يجد من سمكته سوى الهيكل العظمي، فدخل إلى كوخه، وسقط في نوم عميق.
في الصباح شاع الخبر بين جميع الصيادين بأن سانتياغو العجوز قد اصطاد أكبر سمكة لوحده، ولكن أسماك القرش المتوحشة والجائعة لم تجعله يحقق نصره.
رغم قِصَرِ الرواية ومحدودية شخوصها، لكنها كانت معبأةً بالرموز والمعاني، فقد استطاع الكاتب أن يمجّد فيها بطولة الإنسان الفرد، إزاء ما يحيط به من عوامل القهر والإحباط، ذلك الإنسان الذي لا يمتلك سوى ترويض الذات لمواجهة العالم، فالرجل العجوز كان يواجه ثلاثة تحديات:
شعوره بالفشل من الصيد كبقية أصحابه، وفقره المدقع والذي لا يمكن أن يتحسّن إلا بصيد ثمين، وأخيرا شيخوخته وتقدمه بالعمر الذي يشعره بتحطم شخصيته وعجزه.
لذلك فحينما عَلِقَت تلك السمكةُ في صنّارته، جعلته أمام حدة الاختبار، فرغم أن صراعه مع سمكة المارلين الضخمة (سيّاف البحر) التي من الممكن أن تحطّم زورقه الصغير وتقتله، ولكنه لم يأبه لكل الأخطار المحتملة. من أجل تحقيق الانتصار الذي سيعيد له ذاته وماهيّته كصيّاد.
ثلاثة أيام من المطاردة لسمكة عملاقة هائجة، تحمّل الجرح النازف في يديه المتخشبتين من الجوع والإرهاق، كانت السمكة الجريحة تسحبه إلى وسط المحيط، حيث الأمواج والزوابع وأسماك القرش، وكان يطاردها بعشق وكأنها شقيقةُ روحه، فكان يخاطبها بقوله:
“إنك تقتلينني أيتها السمكة، إني لم أرَ في حياتي مثل ضخامتكِ ولا جمالك ولا هدوئك ونبلك، أيتها الشقيقة، تعالَي، فلم أعد أبالي أيّنا يصرع الآخر”.
وهو منهمك في المطاردة، كان يتذكر مساعده الغلام الصغير في كل مرة. وكأن الكاتب كان يرمز إلى أن وجود الفرد لا يتحقق إلا بالآخرين ومساندتهم في المنعطفات الحادة، وبدونهم سيبقى وحيدا وقريبا من الموت. لقد كان من أقسى حالات الألم أنه لم يستطع أن ينام ليومين متتاليين، وحينما غلبه النعاس ظل متشبثا بالحبال وهو يلتصق بخشب القارب، وكان يتدثر بأسماله التي لم تقهِ من البرد، بينما كانت ذراعه تنزف. لقد تذكر أيام شبابه حينما تحداه رجلٌ قوي في لعبة ثني الذراع، في حانات الصيادين، بقي وقتا طويلا وهو صامد كالحديد مع أن خصمه كان أقوى منه، ولكنه في النهاية انتصر، وأرغم خصمه على الاعتراف.
كان يحلم وهو في أوج المعركة، ويحاول أن يتخيل أنه يستقلّ الطائرة التي مرت في السماء، كي يرى المشهد كاملا، لم ينس عشقه للعبة البيسبول، وولعه في المراهنات من أجل اللعبة، لذلك فالجرائد هي وسادته وسريره في كوخه البائس. ورغم أن ذراعه النازفة لم تعد قوية كما كانت، ولكنّ عار الهزيمة هو الذي جعله يلتحم بالحبال، ويتجلد على تحمّل الألم.
حينما أستيقظ من غفوته الطارئة، أحسّ بأن السمكة تقترب من الزورق، فحمل الحربة وطعنها في القلب كي يرحمها ويرحم نفسه.
وفي لحظة انتصاره أحس لأول مرة طول المسافة التي تفصله عن الشاطئ، لذلك قام بربطها بالحبال ورفع شراعه المهلهل والممزق ليستعين به على الوصول.
لكنّ رائحة الدم السائل من السمكة جعل أسماك القرش المتوحشة تنقضّ عليها وتنهش لحمها، وكان يتألم من أجلها:
“لقد عشقتها وهي في الحياة وعشقتها بعد أن فارقت الحياة”.
كان يشعر بأن أسماك القرش تنهش لحمه، تلك الأسماك التي أكلت سمكته كلها، وكأنها تزدرد حلمه وشقاءه وذروة أتعابه، وكان يواسي نفسه قبيل أن يصل إلى الشاطئ:
“هل استطيع أن أشتري الحظّ بحربة مفقودة، وسكين مكسورة ويدين سقيمتين”.
ورغم أنه وصل شواطئ قريته وهو حطام بشري، لا يحمل سوى هذا الهيكل الضخم من عظام السمكة. ورغم شعوره بالهزيمة، لكنه انتصر.
كانت الرواية تمجيدا للروح التي تبقى شابة وترفض شيخوخة الجسد. كما كانت صرخةً ضد اليأس، ودعوة للتحرر من المخاوف، ومجابهة لعوامل الإحباط، ولكنها في نفس الوقت تلقي الأضواء على البؤس الاقتصادي في كوبا إبّان عهد الدكتاتور باتيستا، وكيف أن هذه الجزيرة الغارقة في أضواء العلب الليلية، والحانات وقاعات القمار والمواخير لأثرياء أميركا الذين يسيطرون على عصب الاقتصاد، ولم يتركوا للكوبيين سوى البحر بشحته وأخطاره. وما الشيخ الكوبي (ساتتياغو) الذي يصارع من أجل ما يسد رمقه إلا مثالٌ على ذلك.
كثير من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية حاولت أن تتخذ من هذه الرواية مادة لها. ومنها الفيلم الذي أُسندت بطولته إلى الممثل الكبير إنتوني كوين، من اخراج الأميركي جود تايلر، الذي جعل المؤلف يذهب مع زوجته إلى تلك القرية الكوبية للاستجمام، ولكنه يجد نفسه مشدودا إلى هذا الصياد العجوز الذي لم يحالفه الحظ لصيد سمكة واحدة، مما جعل أهل القرية يعتبرونه نذير شؤم ونحس على الصيادين. وقد تناول الفيلم لقطات من شبابه وزواجه، وتحدث عن غرامه بالبحر ولعبة البيسبول التي يعشقها الكوبيون.
كما سلط الفيلم على أعجاب الصبي (مانولا) بالشيخ سانتياغو لأن الأخير يمثل لديه صور البطولة في أعلى تجلياتها. وذلك لأن حياة هذا العجوز قد ارتبطت بالبحر والأسماك، وقد تعلم في شبابه من معلمه أيضا بعض القيم في الصيد:
“الأسماك مهمةٌ، علينا أن نقتلها لنعيش، ولكن يجب أن لا ننسى قيمة حَيَواتِها”.
لقد كان المخرج حريصا على إلقاء الأضواء على حياة المؤلف الأميركي همنغوي وزوجته، ومن خلالها على الظروف الاقتصادية والنفسية للكوبيين، حينما استفسرت المرأة من زوجها الكاتب عن سبب شرب الخمور ممتزجةً مع الفواكه عند سكان المناطق المدارية، على عكس الأميركيين الذين يشربونه حادةً ومجردةً، فيجيبها، ربما لوفرة الفاكهة، لكنها ترى أن السبب يكمن في طراز الحياة، ومعنى السعادة:
“نحن نشرب الخمر لوحده كي نتخلص من الملل والكآبة، أما المداريون فيشربونه مع الفواكه لمزيد من المُتعة”.
استطاع الفيلم أن يجسّد المغامرة من خلال الصورة البونورامية للمشهد، الذي يبدو من خلاله زورق الصيد الصغير بأشرعته البائسة مع هذا اليمّ الفسيح، والطيور التي تبحث عن صيدها، ومنظر البحر في أوقات مختلفة من الفجر إلى الغروب، كما يظهر لنا من خلال اللقطات القريبة والبعيدة حالة القلق والترقب للشيخ، وهو في لحظة توتر وصمت وذهول، حينما أحسّ بإمكانية تحقيق الهدف.
كان الفيلم موفقا في تصوير صراعه من أجل الانتصار على سمكة المارلين الضخمة والعنيفة. وقد صوّر لنا عملية تشبثها بالحياة وسحب الزورق إلى مديات ومسافات هائلة.
لقد كان مزيجا من الانتصار والهزيمة، البطولة والانكسار، من خلال هذا المزيج الهائل من الصور من زوايا مختلفة ومؤثراتها الصوتية. صراع الشيخ للدفاع عن سمكته تجاه أسماك القرش، والتي انتصرت في نهش وأكل السمكة، وإبقاء هيكلها العظمي فقط، ولم يكن الأمر تقصيرا من الشيخ، ولكن السبب، أنه فقد أسلحة الدفاع وبقي أعزلا إلا من صبره.
نهاية الفيلم تختلف عن نهاية الرواية، ففي الرواية يعود الشيخ ليلا، ويذهب إلى كوخه ليسقط من الجوع والتعب، أما في الفيلم فيعود في المساء وكان في انتظاره الصبي، وجموع من الناس الذين فرحوا بعودته، واعتبروه بطلا.
كانت كلمات سانتياغو العجوز تُفصح عن فلسفة الفيلم، حينما تحدث مع الصبي مانولا، بعد عودته من مغامرة ثلاثة أيام من الصيد المستحيل:
“إنها خسارة كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه ربحٌ عظيم،
أترى، يمكن أن تُدمّر، ولكن لا تُهزَم”.