هجرة الأدمغة التونسية … بحث عن الكرامة ؟ أطبّاء … صيادلة … مهندسون …

بقلم د. إبراهيم جدلة

أستاذ التاريخ بكلّية الآداب والفنون والإنسانيات ــ منوبة ــ تونس



تتالت في المدّة الأخيرة صيحات الفزع التي تنبّه إلى ظاهرة هجرة خيرة شباب تونس نحو مختلف دول العالم الغربي أو المشرقي/ الخليجي وذلك في إطار العمل في مختلف الاختصاصات العلميّة والتقنيّة والمهنيّة.

هذا الشباب كان محلّ قًبول واستقطاب من أنظمة الإنتاج الأجنبيّة الأكثر صرامة ( ألمانيا، فرنسا، كندا، الولايات المتحدة….)، وهو يُمثّل زبدة النظام التعليمي والتكويني التونسي، ويعطي الحجة بأنّ نظامنا التربوي لم يكن قط فاشلا، كما يحلو لأعداء الوطن ترديده في كل المناسبات. وبخصوص هذه الهجرة تقدّم لنا بعض الدّراسات أرقاما مفزعة حول شباب الشتات التونسي ، ومنها من يحدّد ذلك ببعض الآلاف سنويّا.

يتكوّن شباب الشتات هذا من أطباء وصيادلة ومهندسين وغيرهم من خرّيجي الجامعات التونسيّة، الذين انسدّت أمامهم كل الآفاق، ووجدوا أنفسهم في وضعيّة تعيسة: تقدّم في السن وبطالة مزمنة، وقلّة ذات اليد في الكثير من الأحيان. تتالى أجيال الخرّجين، ويتكرّر السيناريو لكل جيل، حيث انّه لكلّ منها وقبل سبع سنوات أو أكثر كان جلّهم قد نجح في شهادة الباكالوريا بمعدّلات تفوق 17 من 20، ودخلوا الجامعة وواصلوا بنفس الحماس والتفوّق في اختصاصات مثل : طب الأسنان والطب والصيدلة والهندسة وغيرها، وكان الأمل يحدو الجميع بأنّهم سيكونون في يوم ما في مواقع متقدّمة من بناء تونس، من خدمة مجتمعها، وفي بناء اقتصادها. هؤلاء هم الثروة الرئيسيّة لتونس، والمستقبل الحقيقي لها. وكان جلّهم جاهل لما ينتظره.

قلّة منهم تندمج في الحلقة الإنتاجيّة والتكوينيّة التونسيّة بفضل الكفاءة العليا، أو بالولاء والزبونيّة، أو بالرشوة… أمّا الأغلبيّة الساحقة وبعد عناء سنوات عديدة يجدون أنفسهم ضمن مئات الآلاف من غير المندمجين في سوق الشغل، ينتظرون سنوات أخرى مع أمل ان تصل دفعتهم ( صيادلة، أطباء، مهندسين …) إلى مرحلة القبول.

وفي الانتظار يقومون بأيّ عمل يُطلب منهم مقابل أجر زهيد أو يواصلون العيش على حساب أهاليهم. كلّ فرد على حدة، يمثل حالة خاصة، فهو يعيش أزمة شخصيّة، نفسيّة ومادّية، أزمة تعيشها معه الأسرة والأصدقاء والمحيط القريب منه…

ماذا تنتظرون من هؤلاء؟ أتتجرّؤون وتطلبون منهم : حبّ الوطن؟؟؟ ألديْكم المزيد من الوقاحة وترجون منهم: الصبر سنوات أخرى؟؟؟ كفاكم بلاهة. وتكونون أكثر سذاجة عندما يجد البعض من هؤلاء المنكوبين بريق أمل في فضاء آخر، شرقا أو غربا حيث تتعالى أصواتكم للتنديد بذلك، وبهجرة الأدمغة وبكلفة التكوين…ألا تعتبرون أنّ ذلك يمثّل نهاية معاناة لكل فرد من المهاجرين؟ أليس ذلك متنفّسا لسوق الشغل المحلّية؟ أليست تلك فرصة لمواصلة التكوين والإشعاع في إطار مجالات واقتصاديات وتقنيات متطوّرة؟ أليست فرصة لضخّ المزيد من العملة الصعبة في الاقتصاد الوطني؟ ألا ترون سوى عشر الكأس الفارغ؟

ورغم ذلك، المسؤول الأوّل عن كلّ هذا تبقى الدّولة التي عجزت عن التوفيق بين التكوين والتشغيل، والتي ظلّت خاضعة لضغوطات وشروط لوبيات المهن والمصالح. كيف يمكن لهذه الدولة العاجزة أن تُخفّف من آلام أبناء الشعب ومن معاناة الأسر التونسيّة التي تعطي للتعليم مكانة عُظمى وتعتبره المصعد الاجتماعي الرئيسي؟ سنأخذ بعض الأمثلة على ذلك ونقترح بعض الحلول الممكنة.

طلبة الصيدلة يتحصّلون على تكوينهم بعد الحصول على معدّلات مرتفعة، وهم من خيرة ما تنتجه المدرسة العموميّة الوطنيّة. اليوم نجد ما يزيد عن عشرة آلاف عاطل عن العمل في هذا القطاع. لماذا؟ هل سبب ذلك أخطاء التخطيطات الحكوميّة التي لم توفّق بين حاجيات بلدنا الصغير وتزايد أعداد أدمغتنا الكبيرة أم هناك أسباب أخرى؟

اعتقد جازما أنّ الأسباب أخرى، وترجع أساسا لما ورثناه من النظام الصحّي الفرنسي الذي يضبط انتصاب الصيدلي في مكان معيّن يحدّده عدد السكّان والمسافة بين منتصب وآخر. هكذا يخضع تجّار الأدوية إلى ضوابط معيّنة لم تتغيّر منذ عقود عديدة.

كل شيء يتغيّر في مجتمعنا إلاّ هذه الضوابط وهذه القوانين التعسّفيّة. لماذا لا تقوم الدولة بمراجعة هذه التشريعات الجوفاء والمضرّة بمصالح المجتمع؟ الدولة ليست لها نيّة تغيير ذلك، وليست لها القدرة على القيام بذلك. هذه لعبة يتحكّم فيها كبار تجّار الأدوية، وعمادة الصيادلة. الكل لا يريد التخفيض من الأرباح التي يجنيها من تجارة الأدوية.

اليوم أصبح من الضروري التخلّص من كل القوانين الجائرة، وفتح باب الانتصاب بكل حرّية لمن يروم ذلك، وسيمكّن ذلك من تشغيل آلاف العاطلين عن العمل في هذا الاختصاص. لمن يقول لي أنت تهذي أقول لكم : اذهبوا إلى اليابان وكندا وأمريكا وغيرها وسترون أن الأدوية تُباع في جزء من أيّ فضاء تجاري، وتُقتنى الأدوية كما تُقتنى الحلوى، لا شروط ولا قيود….

نرجع إلى نقطة أخرى تهم الأطباء، الذين هم أيضا نتاج خيرة الناجحين في الباكالوريا. لا نسمع يوميّا سوى نقص أطبّاء الاختصاص في مختلف المستشفيات والجهات. في الحقيقة عدد الأطباء المتخرّجين سنويّا كبير جدّا.

وبخلاف الأطبّاء الذين أسعفتهم الكفاءة او الحظ أو الأسرة للقيام بالاختصاص، فإن البقيّة يعانون من البطالة. إنّهم ضحيّة تقليص عدد المختصين من طرف عمادة الأطبّاء، ومن طرف بعض الأسر التي تحتكر وتتوارث المهنة، ومن طرف هؤلاء الذين يحصلون يوميّا على أجر يتجاوز الراتب الشهري لوزير ويرفضون تقاسم الأرباح مع غيرهم ( مع الاحترام الكبير للعدد الكبير من شرفاء المهنة ).

رجاء إلى كل الوطنيين، وكل من يحب المصلحة العامة، افتحوا المزيد من الخطط في مجال الاختصاص، ستُمكّنون جزء كبيرا من الأطبّاء الشبان من العمل بكرامة، وستمكّنون الجهات المحرومة من حضور الاختصاص بكثافة وتخفيف آلام الكثير ممّن هم في حاجة إلى ذلك، وستسمحون للبقيّة بهجرة كريمة، وستكون تونس خير المنتفعين من ذلك.
وللحديث بقيّة بالنسبة إلى بقيّة القطاعات والاختصاصات…….

اترك تعليقاً