بقلم : د . فوزية سعيد ، أكاديمية فلسطينية ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس
يوم 10 ديسمبر ، هو اليوم العالمي لحقوق الانسان The Universal Declaration of Human Rights ، يتألف من 30 مادة ، تُرْجمت إلى أكثر من 500 لغة ، وهي أعلى نسبة ترجمة في العالم ، شارك في صياغة المواد 18 عضوا ، ينتمون إلى شتّى التيارات السياسية ، والثقافية والدينية ، يتوزّعون في مختلف بلدان العالم ،منهم على سبيل المثال ، لا الحصر : السيدة الأولى ، الناّشطة ، الزّعيمة السّياسية الأمريكية ، داعية الحقوق المدنية ، آنا الينور روزفلت (1884 ــ 1962) Anna Eleanor Roosevelt ، والمحامي الكندي ، جون همفري (1905 ــ 1995) John Peter Humphrey ، والديبلوماسي الفرنسي رونيه كسين (1886 ــ 1976) René Cassin ، والعربي الوحيد ، السياسي الدبلوماسي ، المفكر اللبناني المسيحي الأرتودكسي ، شارل حبيب مالك (1906 ــ 1987) وقد أفاد الأعضاء من جهود رائد القانون الدولي الهولاندي هوغو غروتيوس (1583 ــ 1645) Hugo Grotius.
تحتفل شعوب عدّة بهذا اليوم ، مذكّرة بأهمّ مواده ، ومنها : إقرار التّعددية السّياسية ، وحقوق الانسان في المواثيق الدولية ، شريعة ومنهاجا في النظام السياسي المعاصر ، إذ تقضي المادة 19 بأنّه :لكل شخص حقّ التّمتّع بحرية الرأي والتّعبير ، و يشمل هذا الحقّ حرّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة ، وفي التماس الأنباء ، والأفكار، وتلقّيها ، ونقلها إلى الآخرين بأيّة وسيلة ، ودونما اعتبار للحدود ، وتنصّ المادة 20 من الإعلان على : حقّ كلّ شخص في الاجتماعات والجمعيات السلمية ، وعلى أنه لا يجوز إرغام أحد على الانتماء الى جمعية ما ، وتؤكّد المادة 21 على : حقّ كل شخص في المشاركة في إدارة الشـؤون العامة لـلبلد ، إمّا مباشرة ، وإمّا بواسطة ممثّلـين يُختارون في حرية ، و تنصّ الفقرة الثالثة من نفس المادة على: أن ّإرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم ، وعلى أنّ إرادة الأمة يجب أن تتجلّى من خلال انتخابات نزيهة ، تجري دوريا بالاقتراع العام ،وعلى قدم المساواة بين النّاخبين، وبالتّصويت السّرّي ، أو بإجراء مكافئ من حيث ضمانات التصويت .
وقد تضمّنت نفس المبادئ مع مزيد الضبط والتفصيل المواد 19 ، 21 ، 22 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ، حق اعتناق الآراء دون مضايقة ، الحق في حرية التعبير ، المادة 21 من العهد الاعتراف بالحق في التجمّع السلمي ، وعلى أنّه لا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلاّ تلك التي تُفرض طبقا للقانون ، وتشكّل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصيانة الأمن القومي ، أو السّلامة العامة ، أو حماية حقوق الآخرين، وحرياتهم ،وتؤكّد المادة 22 على :أنّه لكل فرد الحقّ في تكوين جمعيات مع الآخرين ، بما في ذلك حق إنشاء النقابات ، والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه ، وأنّه لا يجوز وضع قيود على ممارسة هذا الحق الا تلك التي ينص عليها القانون وتشكّل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصيانة الأمن القومي ، أو السّلامة العامة ، أو النظام العام ، أو حماية الصحة العامة ، أو الآداب العامة ، أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم ، فالأصول التي قررتها هذه المواد ، وما يناظرها في المواثيق الدولية الأخرى هي الحقّ في حرية الرأي و التعبير، والتّجمّع السلمي، وتكوين الجمعيات التي تباشر هذه الحقوق كلها ، بما في ذلك الجمعيات السياسية والاستثناء على هذه الاصول ، هو استثناء لا يتنافى مع طبيعة النظام الديمقراطي ، ومحصور في حدود ضيقة لحماية الأمن العام ، والنظام العام والآداب ، وحقوق الآخرين ، وحرياتهم بشرط أن ينصّ عليها القانون ، وأن تكون ضرورية لحماية ديمقراطية النظام .
تختلف أشكال الحكم في الأنظمة العربية ، ومنها : الحكم الملكي الوراثي ، أو الحكم العسكري ، أو الحكم الطّائفي ، أو الحكم القبلي ، أو الحكم العشائري ، أو الحكم الجهوي ، أو الحكم الجمهوري ، وهذا الأخير ، سرعان ما يتحوّل إلى وراثي في بعض الأنظمة العربية ، وكل أشكال الحكم تحكمها دساتير محبّرة على القياس ، تدّعي المُعاصرة والحداثة تقليدا للنّظم الغربية ، تلك الدساتير يمكن تغييرها والالتفاف عليها حسب مزاج الحاكم العربي .
أثبت التاريخ أن هذه الأشكال تكرّس احتكار السّلطة ، ويتمسّك أغلبها بنظام الحزب الواحد ، أو بتنظيمات متحالفة صوريا معه ، ضيق أفقها السياسي ، يجعل تلك الأنظمة تُحجم عن اقرار التعددية السياسية ، هي عاجزة عن إدراك فلسفة المشاركة ، ولذلك تحتكر السلطة لزُمْرتها ، وتحجّر تداولها بين مختلف الجماعات السياسية الاجتماعية ، بل إن السلطة التنفيذية في الأنظمة العربية مشهورة إلى حدّ الفضيحة بتزوير الانتخابات .
واقع عربي مريض يصرّ على إقرار مبدأ احتكار السلطة في قبضة حديدية منسوبة إلى جماعة بعينها ، تشكّل عصابة متوحّشة ، تتحفّظ على مبدأ التعددية السياسية رغم كل الصيغ القانونية المعلنة ، و إنكارها مبدأ التعددية السياسية ، هي إعاقة ، ونكوص ، خلقا أزمة في الأنظمة العربية ، تجلّت في العجز عن إحداث تنمية اقتصادية ، واجتماعية ذات سيادة وطنية متحرّرة من إسار التّبعيّة للأقوى الاستعماري .
عجزت بعض الأنظمة العربية عن تأمين ترابها الوطني من هجمات الاستعمار ظاهرا وباطنا ، فنهب الاستعمار الثروات الوطنية ، وأمْعنت الأنظمة العربية في مصادرة حقوق مواطنيها مخالفة النصوص الدستورية ، إذ منعت التعدية السياسية ، وقمعت حرية الرأي ، والتعبير ، وحق الاجتماع السلمي ، وحق تكوين الجمعيات، والأحزاب السياسية والنقابية .
ومن المفارقات أنّ أغلب الدساتير العربية ، قد نصّت صراحة على هذه الحقوق والحريات ، غير أنّ تلك النصوص الدستورية ، لم تُفض إلى إشاعة مناخ سياسي فلسفي تعددي يسود المجتمع بسبب وجود نصوص دستورية أخرى ، تحظر إنشاء أحزاب سياسية غير الحزب الرسمي ، مثل هذه النصوص تقيّد الحقوق والحريات ، و تصادرها نهائيا من خلال وسائل شيطانية ، باتت مشهورة ومعروفة في بعض الأنظمة العربية .
هذه النصوص ــ في الغاب ــ نصوص ديكورية ، تهدف أولا إلى إبراء ذمّة المشرّع العربي أمام المجتمع الدّولي، بأنه قد تبنّى أكثر مبادئ حقوق الإنسان تقدّما فيما يتعلق بالتعددية السياسية ، ولكنه أفرغ هذه النصوص من كل مضمون حقوقي بصياغة القوانين الاستثنائية التي لبست لبوس التشريعات العادية ــ وفي الحقيقة ــ تعصف بالضمانات الدستورية والقانونية لحقوق الإنسان .
ومثال ذلك مصر من خلال سريان مفعول قانون رقم 95 لسنة 1980 ، المعروف باسم حماية القيم من العيب ، و كذلك الشأن في السودان من خلال إنفاذ قوانين سبتمبر1980 التعسفية ، وأمّا مملكة البحرين فذهبت إلى قانون تدابير أمن الدولة لسنة 1974 ، والذي يجيز لوزير الداخلية : إصدار أوامر اعتقال ، تصل مدتها الى ثلاث سنوات ، ويُضاف الى ذلك قوانين الطوارئ الممتدّة في المكان والزّمان سنوات طويلة ببعض الأنظمة العربية تحت ذرائع واهية مختلفة ، أمّا الأحكام العرفية في تلك الأنظمة ذوات قوانين تُخوّل لجهة الإدارة سلطات واسعة مُخلّة بكل الضمانات الدستورية ، إذ تُجيز للحاكم العسكري ، أو الحاكم العرفي القبض على الأشخاص بقرارات إدارية ، والترخيص بتفتيش الأشخاص والأماكن دون قيد بأحكام قانون الإجراءات الجزائية .
بعض الأنظمة العربية تبرّر سلوكها القمعي ، المجافي للصواب بأنها تواجه خطرا خارجيا متمثلا في صدّ العدوان الخارجي ، أو مكافحة الإرهاب بالدّاخل ، وعلى هذا الأساس تستنجد ببعض أصدقائها الغربيين ـ وهم رعاة حقوق الانسان والأنوار ــ لشراء أسلحة متطوّرة فتّاكة ذوات تقنية الكترونية دقيقة ، لها قدرة فائقة على القتل ، هي جائحة إعدام جماعية ، السّلاح منّة من الغرب للأنظمة العربية ، يؤمّن لها الحماية من المعارضة ، ويمتّعها بأبدية كرسي السّلطة .
الحصول على السلاح الجائحة له شروطه السياسية والاقتصادية وهي : الموالاة التامة للبائع ، يقبلها ــ في سرور وفرح ــ بعض الحكّام العرب ، وهم هواة كرسي السلطة الأبدي ، قد أقسم البعض على احترام الدستور ، ولكن في هذه الحالة ، هو أوّل من ينتهكه لديمومة حكمه ، وقد أقسم أيضا على احترام مقدّسات البلاد الدينية ، و ليقنع رعاياه بوَرَعِه يظهر في أكبر مسجد بالبلاد ــ خلال المناسبات الدينية ــ مرتديا عباءة الدين والنّقاء ، وهو يصلي العيدين : الفطر والاضحى ، ويحرص على حضور ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك كي يتضرّع ــ إلى الله ــ المصلّون ، ويدعون له بأبديّة الخلود ، والبقاء في كرسي السلطة الهزّاز ، وحجّته أنّه ظلّ الله في الأرض ، جادت به السّماء لإنقاذ الخليقة ، وبالتالي فهو المالك للأرض والعباد ، الكل في فلكه يدور ، الكل مزرعة خاصّة به .
تشترك معظم الأنظمة العربية فيما يُعرف باسم التدابير المنيعة ، أو قوانين الاشتباه ، وهي تبيح اتخاذ اجراءات ، أو تدابير تجاه أشخاص بحجّة منع الجريمة قبل وقوعها ، و بذلك تجيز احتجاز المشتبه فيهم ، أو وضعهم تحت رقابة أجهزة الأمن ، مثل هذه العقوبات يتعيّن ألاّ يُجازى بها إلا بعد ثبوت ارتكاب الجريمة أمام القضاء المختصّ .
في بعض الأنظمة العربية ، تبلغ القوانين الاستثنائية حدّا كبيرا من الوضاعة ، إذ تُجرّم تلك القوانين أفعالا بأثر رجعي ، وخاصة في تلك البلدان ذات الحزب الواحد ،و الذي له صلاحيات تنفيذ أحكام عقوبة الإعدام ، وذلك أن القضاء فاقد لاستقلاله وحياده ، واقع تحت تأثير أوامر حزبية ، ويُضاف إلى ذلك المحاكم الاستثنائية العسكرية ، ومحاكم أمن الدولة الخاصّة بالمحاكمات السياسية ، إذ تغيب في تلك المحاكم عناصر العدالة المتعاف عليها دوليا .
في بعض أنظمة عربية ، ما يزال الالزام القانوني بحقوق الانسان جنينيا خجولا ، رغم تبجّح ، وتفاخر تلك الأنظمة بأنها تقدّمية ثورية حداثية ، ويعود ذلك الالتزام الخجول إلى طبيعة تلك الانظمة ــ خروف الاستعمار الذّئب ــ فهي متلوّنة كالحرباء ، تتوشّى باللون المناسب حسب المكان هادفة إلى التّخفّي والمخاتلة ، كذالك هو شأن تلك الانظمة ، فهي تنتقي من تلك القوانين ما يناسبها مكانا وزمانا ، فيدرأ عنها شبح النقد الداخلي والخارجي ، وفي المقابل يصبح الالتزام القانوني بحقوق الانسان معدوما في بعض الأنظمة العربية ، وهي تلك الرافضة للمصادقة على أوليات مبادئ حقوق الانسان ، وهي أنظمة ، بدائية ، قبلية ،عشائرية ، طائفية ، جهوية … لم تغنم من الحضارة الغربية سوى شراء أغلى و أعتى أنواع الأسلحة لقمع منظوريها ، وهي بارعة في إشادة السجون بأسلاكها الشائكة المكهربة ، المراقبة بالأبراج والكلاب النابحة الضارية ، تُطحن في سراديب تلك السّجون عظام البشر ، وتُهدركرامة الانسان تحت أعتى وسائل التعذيب بسبب شبهة عدم الولاء ، أولفظة لا تروق للحاكم .
حقوق الانسان والمواثيق الدولية المتعلقة بالحريات الأساسية ، و التي صادقت عليها بعض الأنظمة العربية تحت ضغوطات غربية ، هي حبر على ورق ، أو هي منحة جاد بها الحاكم العربي على منظوريه ، وهي منحة قابلة للاسترداد متى غضب الحاكم العربي من قطيعه ، المدرّب على التّصفيق والتّهليل بطول العمر له ، أو متى أصابته وحشة الحنين إلى البطش ، أو داهمته أحلام وكوابيس ، يروى أحلامه إلى زمرته بقصره ، يسارعون بإحضار قارئة الفنجان ، وجملة من العرّافين ــ أكثر الأنظمة العربية تعتمد الغيبيات والشّعوذة في تسيير شؤون البلاد والعباد ــ تقرّر الحاشية : أن حقوق الإنسان في نظام هذا الحاكم او ذاك ، هي أشباح وتخيّلات ، ورسوم في فنجان تمّحي بفضل قطرات ماء، وعندها ينبسط الحاكم العربي ، فاتحا شدقيْه ، ملتصقا بكرسيّ السّلطة الهزّاز محدّثا نفسه بأنّه : هو الإنسان الجذلان … خُلِق ليركب ظهر غيره من بني الانسان … هو انسان بلدان العربان ، فريسة لحاكم أرْعَنَ جبان ، خطابه نعيق الغربان.!