بقلم د. إبراهيم جدلة
أستاذ التاريخ ، كلية الآداب منوبة والفنون والانسانيات ، منوبة ــ تونس
للفساد في الحياة العامة أو الدولة مظاهر مختلفة ومتعدّدة، فهو إرادي أو غير إرادي، ويمكن أن ينجم عن سهو، أو سوء تصرّف ونقص في التجربة، أو عن قناعة. لذلك نلاحظ وجود مظاهر الفساد لدى مختلف الشرائح، في مختلف المستويات وفي كل المجتمعات. وتقاس خطورته بنيّة الفاعل، وقدرته على الإفساد، وحجم الفساد المنجرّ عن ذلك وتأثيراته على الدولة وعلى المجتمع.
وإن كانت المجتمعات المتقدّمة والرّاقية تحارب الفساد بقوّة القانون، ففي بلادنا، وفي ظل ضعف الدولة، وفي ظل تغييب دور المؤسسات الرادعة والتقاعس في تطبيق القانون من الطبيعي أن يصبح الفساد ثقافة عامّة.
بل الأخطر من ذلك، أصبح شعار محاربة الفساد برنامج كل حزب، ومقولة كل مغرّد سياسي، وخاصّة أداة لجْم الأصوات المخالفة، وخير وسيلة لابتزاز الآخرين في مواقفهم أو ممتلكاتهم من طرف من أثبت التاريخ فشلهم في مسارهم السياسي أو العلمي أو المهني أو الأسري…أنا شخصيّا ( ولست رجل أعمال، ولا من الأثرياء ) لم أفهم قط ما معنى ” رجال أعمال فاسدين “، ووضع كل من له مبادرة خاصة في البلاد في سلّة الفساد.
رجل الأعمال، هو شخص يسعى إلى إنجاح مشروعه، وتنمية ثروته، وتشغيل جزء من اليد العاملة المتوفّرة في البلاد، ودفع واجباته الضريبيّة نحو الدّولة. وهذه كلّها أمور مشروعة، بل مستحبّة، ولا أرى فسادا في كل هذا، بالعكس هذا ما نريده: فبغياب رجال الأعمال أو تغييبهم والتضييق عليهم تتفكك الأنسجة الاقتصاديّة، ويتراجع الانتاج ويتدحرج النمو وتكثر البطالة…إلخ…
فدورهم الرئيسي هو خلق الثروة وتطوير البلاد. أين ترون الفساد إذا؟ ستقولون طبعا، إنّ هؤلاء قد استثروا ( طبعا في الماضي، وأنتم لا تتحدّثون عن من يستثري في الحاضر )، بالحصول على قروض ميسّرة، أو أنّهم لم يرجعوا الأموال المقترضة، أين الفساد هنا؟ من لم يرجع أموال البنك، على المؤسسة الماليّة أن تجبره على ذلك وتسترجع أموالها.
وإن لم تفعل ذلك فالفساد في الجهاز البنكي، وليس في رجل الأعمال. ستقولون إنّ هؤلاء قد استثروا نتيجة تهرّبهم الجبائي. نعم كل رجال الأعمال في العالم، وكلّ كبار الفلاّحين في العالم، وكل الأطباء، والمحامين والمهندسين وأصحاب المهن الحرّة في العالم ولا في تونس فقط يسعون بلا هوادة ودون لجج إلى التهرّب الجبائي والتقليص من واجباتهم نحو الدولة.
أين الفساد هنا؟ طبعا في المؤسسة التي لم تقدر ولم تتمكّن من استخلاص مستحقّات الدولة، سواء بسبب الضعف، أو بالتغاضي، أو ببيع خدمتها لمن يدفع أكثر. من هو الفاسد إذن؟
أيّها التعساء ارفعوا سيف ديموقلاس عن كل من يعمل على تنمية الثروة في تونس وتعالوا نناقش كيف يمكن أن نحارب الفساد بكل موضوعيّة، فلا يمكن محاربة الفساد بفساد أكبر وغير عقلاني ( مثل جعل رجال الأعمال يدفعون الأموال لمحاربة كورونا؟؟؟ بأيّ حقّ؟ وبأيّ منطق؟ ).
هناك على الأقل حلّان جاهزان وغير مكلفان، يجب الشروع حالا في تطبيقهما، لأنّ عامل الوقت هو أهمّ عامل يجب العمل عليه، فكلّما أبطأنا تتفاقم الخسارة المزدوجة لرجال الأعمال وللدولة: الحلّ الأوّل: يتمثّل في إصلاح خطإ كبير وهو الحفاظ على بنوك تابعة للدولة ( استثناء تونسي )، لذلك أصبح من الضروري، باستثناء البنك المركزي، خوصصة كل البنوك نهائيّا. فالبنوك الخاصة، عكس العموميّة ( رزق البايليك ) ستعمل جاهدة على استرجاع أموالها مهما كان الطرف المقترض .
والحل الثاني الذي لا ينتظر هو وضع إدارة إلكترونيّة حازمة تخصّ الأشخاص والممتلكات والضرائب، مثلما هو الحال عليه في الدول المتقدمة ( بل حتى في دول الخليج ). وهذا سيمكّن الدولة من مراقبة حركات الأموال، وسيسمح بعدالة جبائيّة نسبيّة، ويقلّص من التهرّب الضريبي. مع العلم أن هذا الحل غير مرغوب فيه من القمة إلى القاعدة عندما تكون اللصوصيّة هيّ اقاسم المشترك في مجتمع ما.
وكما نعلم الفساد يوجد بنسبة كبيرة جدّا في مؤسسات الدولة وبدرجة ثانية لدى الخواص وعموم المتهرّبين والمهرّبين. لمن يريد حلولا جدّية وشجاعة، أصبح من الضروري خوصصة كل القطاعات التي تشكو من العجز المزمن، والتعجيل في إنشاء مواني بحريّة تجاريّة في بنزرت وسوسة وصفاقس وقابس للحدّ من خطر المحتكرين والمضاربين الذين يلوذون بميناء رادس لتحدّي الدولة.
كما يتعيّن على الدولة حالا العمل على تطوير التجارة البينيّة وفتح مناطق التجارة الحرّة مع الجارتين الجزائر وليبيا ( مع الجزائر في مستوى ولايات: جندوبة والقصرين وقفصة وتوزر ( أربع نقاط) ومع ليبيا في مستوى رأس جدير والذهيبة ( نقطتان ). هذه الإجراءات البحريّة والبرّية تمكن الدولة من الحد من التهريب ومراقبة تنقل الثروات عبر الحدود، وتنمية مداخيلها الجمركيّة.
كل ما نخشاه اليوم هو أن نحطّم البنية التحتيّة للأعمال في تونس، وأن يُستغلّ ذلك لتعميم ثقافة الفساد تحت يافطة ” البقاء للأصلح “، وتعميق تفكيك الدولة وتضعيف هياكلها المراقبة، لذا أصبح من الضروري الآن التفكير في مستقبل البلاد، عوض تتبّع ماضي العباد، مع التأكيد على تطبيق القانون وإعطاء حق الدولة قبل حق الأفراد.