صراع الهويات في الوطن العربي … عودة القبيلة

بقلم : د. إبراهيم جدلة ، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والفنون والانسانيات ، منوبة ــ تونس

      لا نضيف شيئا  عندما نقول أنّ  الهويّة،  ليست سوى  ذلك الهاجس أو الوجدان العاطفي الذي يتملّك الفرد بجعله ينتمي إلى مجموعة معيّنة، يربط بينها الدم أو المجال أو الفكرة، وهذا الانتماء يكون غرضه الدفاع عن النفس أو تقاسم نفس الأحلام أو ارتكاب الجرائم ضد من  يختلف عنا….

      كانت الهويات في المجتمعات البدائيّة تدور أساسا حول الدم والعصب، فأولى حلقات الهويّة هي الأسرة الموسّعة أو القبيلة، وهي المجال الطبيعي الأول الذي يحتمي به الفرد الأعزل، ويعطيه قوة حقيقيّة أو وهميّة   ينطلق منها  وبها  لمحاربة الهويات الأخرى أو المختلفة في إطار التنافس الطبيعي من أجل العيش أو الثروة أو السلطة….

      وفي مرحلة أرقى،  أصبحت   آليات الهويّة تدور حول الانتماء الجغرافي والمجال الذي تعيش فيه المجموعة، فيصبح الانتماء  إلى مدينة أو جهة أو دولة  هو ما يحدّد هويتنا التي ترتقي من المحلّي إلى الوطني في شكل دوائر متسعة ذات مركز واحد. فأحيانا تصبح هذه الهويات  لا تتسع لقبول تنافس رياضي بين مدينة وأخرى مجاورة، وفي أحيان أخرى تتسع كثيرا لتعبّر عن الوطن وربما تتجاوزه لتنشد الأمّة العربيّة بأكملها بل حتّى الأمة الإسلاميّة، متجاوزة كل الحدود العرقيّة واللغوية والسياسيّة….وهو ما يجعل البعض يعتبر هذه الهويات المتدرّجة مجرّد أوهام الغرض منها تحقيق منافع آنيّة أو بعيدة المدى.

       وعادة ما تطرح  مسألة الهويّة، مقارنة مع الآخر. أنا أو نحن بالنسبة للآخر أو الآخرين. الآخر الذي   هو من قبيلة أخرى أو من مدينة أخرى، أو من عرق أو لون آخر، أو من مذهب آخر، أو من دين آخر…..وطبعا أبشع الهويات هي التي ترفض التطوّر والتي يصيبها الجمود  لعدة  قرون  ( مثل الصراع بين السنة والشيعة )، فهي غير قادرة على التماهي مع مرور الزمن الذي حنّطوه وتحنّطوا معه. وهي غير قادرة على استيعاب التحوّلات الكونيّة في مجال العلوم والثقافة   وحتى الحياة…أجسامهم في الحداثة وعقولهم في ما قبل الحداثة…

      نحن اليوم نعيش رغما عنّا في ما يُعبّر عنه  ب ” الهويات المرنة ”  ( إيف ميشو، جريدة لوموند، 24/10/1997 )، نحن نعيش عصر السرعة في تنقل الأشخاص والأملاك والأفكار من مكان إلى آخر ، مهما كانت الحدود ومهما بعُدت المسافات. الملايين يتنقلون يوميّا وشهريّا وسنويّا من مكان إلى آخر.، يتأرجحون بين انتماءات مختلفة وعوالم متغيّرة، وكلمة شتات عادة ما  تعبّر عن التعلّق بهذه الأماكن المختلفة: أماكن الذاكرة وأماكن العيش….وحتى  دون تنقّل أصبح الأفراد ينتمون إلى ماركات عالميّة، أو فنانين كبار،  أو جمعيّات كبرى أو تنظيمات إرهابية عابرة للدول والقارات، وقد ساعد على تطور ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي …

      وعندما تتأزّم الأوضاع  في بلد ما مثل تونس اليوم، فعوض كسر الحواجز نتجه مباشرة إلى خلق عوالم صغيرة منغلقة، أو هويات بدائيّة غرضها الأوّل الدفاع عن النفس، أو الصراع من أجل البقاء. في هذا الإطار  تضيق حلقات الانتماء الهوياتي وينزل منسوب التضامن إلى الحلقات السفلى أو الأصغر، أي  القبيلة ــ أو ” الكامور: والكامور منطقة صحراوية بولاية تطاوين منتجة للبترول والغاز منعَ شبابها ضخّ البترول ، وسيلة للضغط على السلطة ، وطالبوا بحقهم في التشغيل والثروة ، مما ألحق ضررا بدورة الاقتصاد ، اعتبرها البعض حركة جهوية قبلية ، استثمرتها  جهات داخلية وخارجية سياسية نافذة  لتحقيق أهداف غريبة بتونس ــ وفي الواقع ــ مطالب  شباب الجهة وجيهة وضرورية شأنها شأن باقي الجهات المهمّشة  ،  عيبها الإغراق في الجهوية القبلية تحت غطاء جهة سياسية مريبة ، ما يشي بتفتيت البلاد حسب الثراء الطبيعي ، أو النفوذ السياسي الجهوي القبلي  ـــ  في نفس الوقت لا نعترف بالآخر بل نعلن العداء لكل من ليس منا أو لا يفكّر مثلنا. ونحن نتساءل ما هيّ الأسباب الفعليّة وراء هذا الانكماش؟

       لا بدّ من الإقرار، دون أدنى شكّ،  بأنّ السبب الأول في ذلك هو ضعف الدولة أو غيابها تماما، وهو ما يجعل هذه الكائنات تحتل كل فراغ تتخلّى عنه الدولة. ومن المؤكد أنّ الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي ما فتئت تزداد عمقا من سنة إلى أخرى مثلت عاملا رئيسيّا في خلق ردود الفعل الدفاعيّة على مستوى الجهات، وفي هذا المجال اختلط ما هو مشروع بما هو  نوايا مبيّتة الغرض منها الإجهاز على ما تبقى من الدولة حسب سيناريوهات مختلفة وأهداف متنوعة.  ومما أعطى المزيد من المشروعيّة لهذه  الديناميكية الهوياتية التدميرية هو  الوعود الزائفة للحكومات المتلاحقة  التي قُدّمت للجهات دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانيّات الدولة الاقتصاديّة، ودون  دراسة جدوى هذه الوعود.  

      نعم كلما ازدادت الأزمة عمقا إلاّ وازداد انتشار  الهويات البدائيّة التي لا تؤمن بالوطن ولا بالمواطن، بل نلاحظ أنّه حتّى الفرد يتنازل عن فردانيته ليندمج مع القطيع. هذا هو حالنا اليوم، قطعان تؤسس لنفسها إمارات  خاصة بها، تحدّد لها قواعدها وقوانينها. أين نحن من دولة القانون والمؤسسات؟ نعرف أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير، لكن على الذين نالوا ثقة الشعب في تسيير البلاد أن يعدّلوا ساعاتهم، وأن يضعوا كفاءاتهم ( إن كانت لديهم كفاءات ) لخدمة الوطن، كما يتعيّن عليهم اتخاذ المواقف الشجاعة والجريئة للحدّ من تمزيق الوطن، هذا طبعا إذا كانت لديهم الشجاعة والجرأة للقيام بذلك، وإذا كانت لهم مصلحة في ذلك…..

اترك تعليقاً