بقلم : د . حسن الهرماسي ، باحث وأكاديمي تونسي
انتجت الأحداث التي شهدتها تونس مجموعات سياسية وثقافية ، أو ما يمكن تسميته تجاوزا بالنخبة الجديدة، فقد ظهرت العديد من الوجوه والشخصيات السياسية والفكرية ، والتي اطلق عليها العديد من المسميات مثل : محلل سياسي، إعلامي ،و محلل سياسي، مختص في الشأن الإرهابي ، واختصاصي في الجماعات الاسلامية، إضافة إلى القيادات الحزبية ، و التي امتلأت بها وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة بشكل خاص.
ولعل السّمة الغالبة على تدخلات ،وآراء أغلب هذه الشخصيات ،هو الإسهال المعرفي والمعلوماتي التي صبغ عملها، إضافة الى تكشّف ارتباط البعض منها بأوساط خارجية، مخابراتية وسياسية ،ويتبيّن ذلك من خلال الاتساق التام الذي ذهب فيه خطاب بعض هؤلاء المحللين مع أجندات العديد من الدول التي تدخلت ،وتتدخّل في الشّأن التونسي.
كما تعدّدت الجمعيات والمنظمات التي أسسها ، ويشرف عليها هؤلاء مرتبطة الى حدّ ما بهذه الأوساط الخارجية تكوينا ، وتمويلا وأهدافا، وقد كشفت الصحافة الوطنية العديد من هذه الارتباطات في العديد من التحقيقات الموضوعية والجدية.
وككل مجتمع يشهد تحولات متسارعة ، شهدت تونس ولادة هذه الفئات التي تحظى بوضع اعتباري خاص ، يمكنها من التدخل في الشأن العام بكل تفرّعاته ، سواء بهدف المساهمة في بناء واقع جديد يتماشى وطموحات العديد من التونسيين، وهذا التوجّه يمثله الوطنيون الذي أخذوا على عاتقهم تشريح الواقع السابق للثورة ، واستخلاص الأخطاء ومواطن الخلل فيه بهدف إرساء عوامل تحوّل جديدة تخدم أهداف الشعب ، وتجسّد شعارات الثورة في الواقع، وفي مقابلها المجموعات التي وضعت نفسها في خدمة القوى المهيمنة على المشهد السياسي ، والاجتماعي والثقافي اللاحق ، وبالتالي انضمت الى ثنائيات : “الخاصّة” في مواجهة “العامة” و “الأقلية” في مواجهة “الأغلبية” و “النّخبة” في مواجهة “الشعب” …الخ
وما يهمّنا هنا هو الدور الوظيفي الذي أنِيط بعهدة النّخبة في بناء مجتمع ، ودولة ما بعد الثورة، والذي يؤكد يوما بعد يوم صعوبة تصنيف النخبة التونسية الى أي من المدارس الوظيفية ؟ وذلك بسبب فشلها في دورها الموكول لها طبقا لما جاءت به هذه المدارس ، وأيضاً طبيعة ومعايير الانتماء لهؤلاء المحللين الى دائرة ما يمكن أن نسميه النخبة، فتفاعل النخبة مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والتي اتخذت عدة مظاهر كأزمة : الهوية، الشرعية، المشاركة، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، كما أن دورها، اتسم بالقصور ومحدودية التأثير.
وقد ساعد على ظهور هذه النخبة العاجزة والمتأزّمة، عاملان مركزيان، أوّلهما الأوضاع التي تلت الثورة ، والفراغ الذي عانت منه البلاد لفترة ليست بالقصيرة ، والتي سمحت لبعض الجهات الإقليمية ، والدولية الفاعلة بالتدخل في الشأن التونسي ، واستلام زمام المبادرة في الفعل السياسي، وبالتالي تمكين ممثليها من الانتماء لما يسمى النخبة ، وثانيهما العمليات الانتخابية المتعدّدة، والتي تضمنت العديد من النّقائص التي لا تتماشى ، والأهداف التي أعلنتها الثورة الوليدة.
إن حركة النخبة وعملها المحوري ، هو تجميع القوى المجتمعية ، وتحريكها باتجاه معين من السلوك السياسي، مستندة على مجموعة متفاعلة من التقاليد ، والمصالح والقوانين السياسية التي تؤلّف بين البنى المختلفة، وتكون بذلك المجموعة التي تصنع، وتشكّل السياسة التي تؤمن بها الجماهير لمواجهة المشكلات العامة ، وصياغة حلول لهذه المشكلات،وتكون النخبة بذلك هي القائدة و المخطّطة لحركة المجتمع في مسار التحول الواجب تحقيقه بعد كل ثورة .
لكن النخبة التونسية الجديدة افتقدت لبُعد هام، وهو بُعد الطليعة التي تختلف عن النخبة السياسية التي تعمل عادة من داخل النظام السياسي القائم ، وتساهم في إعادة انتاجه، فالطليعة هي فئة اجتماعية تعمل من خارج النظام السياسي القائم ، وترفض المشروع المجتمعي السائد ، وتسعى الى تعويضه بمشروع بديل يلبّي الحراك الاجتماعي، وهذا ما افتقدته النخبة التي تصدرت المشهد بعد الثورة، بل أصبحت جزءا من الحكم، وابتعدت عن أهداف وشعارات الثورة التونسية ، وآمال الذين قاموا بها.
من هذا المنطلق يكتسي طرح إشكالية النخبة في تونس، خلال هذه المرحلة أهمية كبرى في إطار التحول الذي تعرفه البلاد و المنطقة ، و مسؤولية هذه النخبة في بناء وقيادة مجتمع قادر على إنجاز متطلبات المرحلة، لكن النخبة الجديدة بقيت أقلية منبتّة من واقعها ومنفصلة عن مجتمعها ، وهي في معظمها نتاج لإفرازات غير تونسية، فهي نتاج مزيج لعناصر متنافرة: القبليّة و المال ، ومخلّفات سلطة ما قبل الثورة، وهي أقلية تمحورت ما بين الفكر التقليدي ، وعلاقته بالقبليّة والجهوية ، و مبدأ الاستمرارية، و تولّد عن ذلك ضعف ومحدودية تأثير هذه النخبة في تطوير المشاركة السياسية ، والانتقال بالبلاد، فاستمرت الأزمات ، وتعقّدت ، بل أصبحت مستعصية عن الحل.
لقد برهنت النخبة الجديدة على أنها غير مؤهلة بأفضل العناصر التي تمكنها من صياغة التفاعلات المتعلقة بمواجهة الوضع المستجد، و فشلت في تحقيق أهداف الفئة المحكومة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، كما فشلت في رسم الحراك السياسي داخل الدولة و المجتمع و بمختلف الاتجاهات، وعجزت تبعا لذلك في إحداث التغيير وحفظ التوازن داخل المجتمع، وفشلت في تجسيد مبتغى ومطمح جماهير المجتمع بمختلف فئاته، وأساسا النمو والتقدم,،وتحقيق عدالة التوزيع ،ووفرة الخدمات.
فالمتأمّل لأوضاع تونس لن يحتاج الى جهد كبير في أن يستنتج ، أن أسباب استمرار الأزمة يتلخص في عاملين مهمين كلاهما على علاقة وثيقة بالنخبة:
أولهما التعيين (النخب الحكومية و الإدارية).
وثانيهما الانتخابات ( النخب البرلمانية و المجالس والهيئات).
فالأول تحكمه علاقات ما قبل الثورة ، يضاف إليها تزكية بعض القوى الإقليمية والدولية ذات التأثير في الوضع التونسي، وكذلك القرابة العائلية والحزبية، فلم تخرج النخبة عن الإطار القديم السائد ما قبل الثورة.
أما الانتخابات بشتّى محطاتها، فالكل يعلم أنها اعتمدت في جزء كبير منها على سبل متحايلة ، و ملتوية وغير شرعية، إضافة الى مظاهر الفساد، وفرض أشخاص بعينهم مما حال دون تجدد النخبة، كما أن تزكية العضو المترشح للانتخابات، والتي تتم داخل الأحزاب، تخضع في العديد من الحالات لاعتبارات قَبَلِيّة و عائلية بعيدة عن الكفاءة و الجدارة، وبذلك أصبحت النخبة في أغلب الأحيان – حتى لا نعمّم – مرادفا للجماعات المتميزة ، وارتباطاتها الداخلية والخارجية بعيدا عن المستوى الفكري والكفاءة ، والقدرة على تسيير الشأن العام. وهو ما يطرح أسئلة عديدة أهمها :هل ان النخبة التونسية صناعة محلية، أم استيراد من الخارج؟
وبما أن تطوير الحياة السياسية وعلاقته بالنخب مسألة محورية على اعتبار أنها تمثل إرهاصا من الإرهاصات الكبرى نحو تطوير المجتمع، حيث تعد النخبة صلة وصل رئيسية بين فئات المجتمع المختلفة و المجتمع الشامل، فهي تشكل إحدى الوسائط الرئيسية للتأثير محليا و مركزيا، غير أن المتمعن في النخبة التونسية و علاقتها بالمجتمع ، قد يستنتج عدة إشكالات حول هذه العلاقة، فهي، اي النخبة، بقيت امتداد للتركيبة القديمة ، ولم تحقق الفصل مع ما كان سائدا قبل الثورة لا في المنهج ، ولا من حيث الحراك السياسي.
وفِي تونس اليوم نموذجان للنخب :
– النخبة التقليدية التي تصر على الاستمرار محافظة على خصائصها ومكانتها ، وتعتبر ذلك رأسمال تاريخي يعكس هويتها الثقافية والمجتمعية.
– والنخبة الحديثة التي استفادت من هذه التحولات، وبرزت كنخبة جديدة تقدم نفسها كبديل في تسيير الشأن العام ، وتجسيد شعارات الثورة وأهدافها، لكن دون فاعلية تذكر بل أن جزءا من هذه النخبة الجديدة تماهى مع النخبة التقليدية ، وتموقع ضمن القوى المضادة للثورة وجماهيرها، وقد ولّد هذا الوضع نوعا من التباين والتنافس بين النخب كان من آثاره تزايد التشتت ، والضياع في مستوى الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس.
فواقع الحال يشير إلى قطيعة حادة بين المجتمع والنخبة بشقّيها، حيث هيمن نظام الأعيان و السلطة الأبوية على كل المساحات المتاحة للتأثير في مسار الأحداث، مع الإقصاء التام لفئة الشباب والكفاءات الوطنية، كما أن انخفاض المستوى التعليمي و المؤهلات العلمية لدى الأغلبية ممن يتصدرون الساحة اليوم، يجعل السلوك السياسي لهؤلاء مغرقا في شكل قد يحيلنا إلى القَبَيّلِة أكثر بكثير، مما يحيل على دولة قامت بها ثورة، كما أن غياب الأحزاب السياسية عن فضاءات المجتمع قلص من دورها في التأطير السياسي المباشر للمواطنين، وتحولت الى دكاكين انتخابية تنشط في فترات الحملات الانتخابية لتعود إلى أدراجها في انتظار استحقاقات جديدة، فالنخبة الجديدة دخلت سياج السلطة من الباب الواسع وتَمَخْزَنَتْ ( أي المخزن : مصطلح ساد في تونس خلال حكم البيات الأتراك في تونس ، والمقصود به موظّفو السلطة ، هراوتها للقمع ) ومنحت لها امتيازات مادية وإدارية وتقلدت مناصب سامية ، وحددت أهدافها الرئيسيّة وعلى رأسها ربط الجسور مع السلطة ، وكسب ثقتها ولما لا تزكيتها في كل ما تقوم به في إطار ثنائية الرضا والقبول.
وفي ظل ظل التجاذب الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه المجتمع التونسي احتجاجا على المقاربات التي تعارض تطلعاته في التغيير، والتي تشوبها سمة التمرد والرفض كشفت النخب عن مقوماتها متخفية وراء ستار الأمن العام للمحافظة على مكانتها في ظل دورها المنوط بها والمتعاقد عليه مسبقا.
ولكن السؤال الذي يفرض ذاته بالحاح في ظل تأزّم النخبة التي أزّمت معها المجتمع والفكر والممارسة السياسية، هل نحن بصدد تركيز ميكانيزمات القضاء على الثورة شعارات ، وأهدافا والاختباء وراء المناورات العديدة ، نتيجة الإخفاق المستمر ؟ أو عدم القدرة على الالتزام بآمال ، وتطلعات المجتمع في التشغيل والتنمية والدفاع عن وحدة الوطن وأمنه؟.
هل ستتمكّن النّخب المتقطعة الأوصال من الاستمرار داخل كياناتها الضعيفة التي جعلت منها مخلوقات صورية لا تملك أي تأثير في الحقل الاجتماعي والسياسي لتونس؟ إذن نحن يا سادة أمام نُخبة هي في ذاتها سبب الأزمة ، ولسنا في وضعية أزمة نُخبة بمفهوم الغياب.