ثورة الجزائر… موج يخبّئ أسراره !!!

بقلم د . فوزية سعيد

أكاديمية فلسطينية ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس

 

خلال سنوات الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم ، بدأت فرنسا تَفْقِدُ مستعمراتها بشمال إفريقيا ، إذ اندلعت الثورة  التونسية  سنة 1952 ، وكانت تونس مَحْمِية فرنسية منذ سنة 1881 ، وفي الواقع هي مُستَعْمَرة بامتياز ، ونالت  استقلالها سنة 1956 ، وكذلك كان المغرب الأقصى مَحْمِية فرنسية منذ سنة 1912 ، ولكنه في الحقيقة هو مُسْتَعْمَرة ، اندلعت ثورته سنة 1953 ، نال استقلاله سنة 1956، سيطرت فرنسا فعليا على موريتانيا سنة 1902 ، هي بمثابة مَحْمِية ، ولكنّها في الواقع مُسْتَعمَرة ، نالت استقلالها سنة 1960 ، إثر سلسلة من الثورات منذ سنوات العشرينيات من القرن العشرين المنصرم .

 يوم انبلاج صبح الفاتح من نوفمبر سنة 1954 ، انطلقت شرارة الثّورة التحريرية الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي ، فتمّ إنشاء جبهة التحرير الوطني ، وجناحها العسكري جيش التحرير الوطني ، وكانت مصر قد تخلّصت من نظام  المَلكيّة  ، إثر ثورة الضّباط الأحرار سنة 1952 ، وإرساء نظام جمهوري تقدّمي تحرّري ، ساهم لاحقا في دعم ثورات: الجزائر، وتونس ، وفلسطين … عسكريا وماديا ومعنويا و إعلاميا .

 الاستعمار الفرنسي كابوس Cauchemarثقيل جاثم  على أرض الجزائر  مدة 132  عاما (1830 ــ 1962) ، ثورة مَلْحَميّة خالدة أثبتت للعالم أن إرادة الحياة قادرة على كسر الأصفاد  السّميكة ، وفكّ حلقات سلاسل الحديد المترابطة ، إرادة جزائرية فذّة  أشعلت نورا ساطعا  أطرد ظلاما دامسا ، دفع أحرار الجزائر دماءهم ثمن الاستقلال  ، ويُقدَّر عدد الشّهداء بالمليون ونصف المليون جزائري  أو أكثر ، لقي الرجال والنساء والأطفال  حتْفهم في كهوف الجبال اختناقا بغاز جيوش فرنسا ، وفي 17 أكتوبر سنة 1961 ، أغرقت شرطة باريس في نهر السين Seineأبرياء جزائريين ، فلَقِيَ حتْفهم  ما يفوق 1500 نفرا ، وظلّ مفقودا ما يفوق 800 فردا : هي اغتيالات جماعية تدلّ على جرائم فرنسا الهمجيّة ، وجرائمها ضدّ الإنسانية ، لا تسقط بالتّقادم ،أو الانكار وفق القوانين الدولية ،  وظلّت فرنسا تجلب من الجزائر عمّالا للاعمار ،  مُجْبَرون  على نظام العمل بالسّخرة  Travail forcé، يمتهنون الأعمال الشّاقّة والحقيرة القذرة ،   مأواهم أكواخ وبيوت قصديرية محصورة ، ومعزولة في مناطق فقيرة مهمّشة تحت وحشية الشّرطة  الفرنسية وبطشها . 

  غرست فرنسا الاستعمارية مخالبها في الجزائر ، طاحنة البشر ، شافطة  خيرات البلاد الباطنية ، لاهفة خيراتها الظّاهرة ، مطفئة نور الشّمس، ملوّثة السّماء والصّحراء والبحر ، مدنّسة المقدّسات ، مفتّشة الضّمائر ، ممتصّة الدّماء شأنها شأن دراكيلاDracula مصّاص الدماء ، شوّهت فرنسا  كل جميل طبيعي بأرض الجزائر.

الجزائر مقاطعة تابعة لفرنسا  جنوب البحر الأبيض المتوسّط ،  وبمقتضى ذلك سكاّن الجزائر الأصليون مُجْبَرون على حمل الجنسية الفرنسية ، وتفتخر فرنسا بأن مستعمراتها في شمال إفريقيا : الجزائر ، المغرب ، تونس ، موريتانيا ، هي بلدان بمثابة الحدائق الخلفية لفرنسا ، بلدان  مأهولة بعجائب ، وغرائب المخلوقات البشرية و الحيوانية ، تستقطب  الأوروبيين للفرجة والتّسلية بصيد ، واقتناص تلك الكائنات الآدمية والحيوانية في آن واحد .

بمناسبة الذكرى 58 لاستقلال الجزائر لسنة 2020 ، تمّ استرجاع  عدد24 من رُفَات قادة المقاومة الشعبية  من مجموع 37 رفات  تعود لقادة من المقاومة الجزائرية قبل اندلاع ثورة  الفاتح من نوفمبر سنة 1954 ، أفرجت  فرنسا عن جماجم قادة الثّورة ، المحفوظة والمعروضة للفرجة في متحف الانسان بباريس ،  والذي يحوي 18 ألف جمجمة  ، تمّ التّعرّف على هوية 500  منها .

 بعد مفاوضات عسيرة طويلة ، عمدت خلالها فرنسا إلى تعطيل نقل الجماجم إلى الجزائر بحجج قانونية واهية ، تتعلّق بمتاحفها خشية تراجع عائداتها  المالية ، إذا خَلَتْ  من جماجم الثّوار، عندها سوف يتضاءل عدد الزّوّار الرّاغبين في زيارة الأجنحة الموشّاة بجماجم ثوّار الجزائر  .

عادت الرُّفات معزّزة على متن طائرة جزائرية عسكرية ، حطّت بها في مطار الهواري بومدين بالعاصمة ، و بالمكان ، لقيت الرُّفات استقبالا رسميا ،  شعبيا واسعا مهيبا،  يليق بشهداء ، تأخّرت عودتهم إلى أرض الوطن سنوات ، في حين ما تزال المفاوضات جارية بين الجزائر وفرنسا في خصوص إرجاع فرنسا الأرشيف الوطني الجزائري المُصادر ، وكذلك إرجاع  أرشيف الثّورة الجزائرية المنهوب .

قال عبد المجيد  تبّون ــ (مولود سنة 1945 … ) وهو ثامن رئيس جزائري ، تولّى منصب رئاسة الجمهورية الجزائرية  في شهر ديسمبر 2019 ــ  محتفيا بعودة الرُّفات : «أَبَى العدوّ المتوحّش إلاّ أن يقطع آنذاك رؤوسهم عن أجسامهم الطّاهرة نكاية في الثّوار، ثمّ قطع بها البحر حتّى لا تكون قبورهم رمزا للمقاومة »  الجماجم العائدة ، حُرمت   من حقّها  الطّبيعي والإنساني في الدفن  ما يَربُو على 170 سنة خَلَتْ ، ومنها :  رفاتُ  الشّريف بُوبَغْلة ، والشّيخ أحمد بوزيان ــ  زعيم انتفاضة واحة الزعاطشة بالجنوب الجزائري ــ  و جمجمة شاب مقاوم لا يتجاوز عمره 18 سنة ، هي  رفاتُ مجموعة من شهداء المقاومة الشعبية ، قادة ثوريون ضدّ الاحتلال الفرنسي الغاشم  خلال سنوات 1838 ـ 1865 .

  في 26 جويلية 1876 قَطَعَت فرنسا رؤوس عدد من المقاومين ، أبرزهم الشيخ بوزيان القلعي ، والحاج موسى ،عُرضت الرّؤوس  المقطوعة ــ لتوّها في إحدى الثّكنات ــ لإدخال البهجة على جنود فرنسا ، يرقصون … يتبادلون كؤوس النّبيذ … ،  ثمّ  عُرضت الرؤوس المقطوعة ، ولم تَجْفَّ دماؤهاــ بَعْدُــ  للتّرويع ، والتّنكيل  في أسواق مدينة بسكرة مدّة 3 أيّام ، الهدف من ذلك هو إرعاب كلّ نَفَس ثوري تحدّثه نفسه بمقاومة فرنسا ، قاطرة الشهداء طويلة ، وقائمة رجال الجرأة الثورية كُثُر  ومنهم : المرحوم محمد الأمجد بن عبد الملك المكنى بالشّريف بوبغلة  ، والذي استشهد في ديسمبر 1854 ، والشّهداء : مختار بن قويدر الطيطراوي ، وعيسى الحمادي ، ويحيى بن سعيد ، ومحمد بن علال بن مبارك مساعد الأمير عبد القادر الجزائري (1808 ــ 1883) .

الأمير عبد القادر الجزائري ،هو شاعر وفيلسوف ، وسياسي ، و فارس ، ومؤسّس الدولة الحديثة الجزائرية ، هو رمز المقاومة الجزائرية ضد ّالاحتلال الفرنسي، قاد ضدّ جيوش فرنسا  مقاومة شعبية بطولية على  مدى 15 سنة ، نَفَتْه فرنسا إلى دمشق سنة 1856 ، وبها دُفن سنة 1883 إلى جوار الصّوفي الشّهير محي الدين بن عربي (1165 ــ 1240)في الصالحية بدمشق ، نُقل رفاتُه إلى الجزائر عهد الرئيس الهواري بومدين سنة 1966.

 على طريقة النّازيين الألمان  مُبدعو الأفران ، وفيها  يُصهر الكائن البشري حيّا ،  فيصبح مادة صناعية تُدَاوَل في الأسواق التجارية  ، حوّلت  فرنسا عظام المقاومين الجزائريين ــ في معامل مرسيليا ــ إلى مسحوق صنعت منه مادة السّكر،  وقوالب الصّابون لتصبح بضاعة في الأسواق ، هكذا بلد حقوق الإنسان  يمسخ الإنسان  الآخر الذي لا يماثله في العرق ، أو اللون أو الدين ، ويحوّله إلى مادة استهلاكية .

ومن غرائب فرنسا ـ أيضا ـ تشْجيعها للمُشعْوذين ، والعرّافين الفرنسيين الذين أشاعوا بأن جماجم الثّوار الجزائريين قادرة على التغلّب على الأمراض المُسْتَعْصية ، وطرْد الأرواح الشّريرة الخفيّة الكامنة في باطن الأجساد ، ويتمّ ذلك بعد دَقِّ : أي تَهْريس الجُمْجُمة في مِدَقّ : أي مِهُراس ، ثمّ يُخْلط المسحوق  جيّدا في الماء ، يترشّفه المريض على دُفعات حسب تعليمات المُداوي .

ولذلك يتوجّب على المعمّرين وجيش فرنسا  صيْد الثّوار للاستفادة من جماجمهم ، إنقاذا لمرضى فرنسا و أوروبا ، وعلى هذا الأساس انتشرت الإشاعة السّحرية العجائبية  انتشارا سريعا تقبّلتها العامّة والخاصّة ، متلهّفة على تلك  الجماجم ، وفي الواقع هي إشاعة عسكرية فرنسية مغرضة غايتها تشجيع ، و تبرير الإبادة الجماعية في الجزائر ، إذ يصبح رأس كلّ جزائري هدفا للقطْف باعتباره وصْفَة طبية شافية من الأسقام ، وهو ما يبرّر ــ أيضا ــ قَطْف رؤوس التونسيين والمغاربة والموريتانيين ، باعتبارهم أفارقة من فصيلة الجزائريين ، وفعلا قُطفت رؤوس في  البلدان الثلاثة ، مستعمرات فرنسا لغرض الشّفاء .

ومن جانب آخر تفنّن فرنسيون في  صناعة طَفاّيات السّجائرCendrier من جماجم الجزائريين ، وغيرهم من المستعمرات الفرنسية ، وَشُّوها بألوان و خطوط ، ورسوم تشير إلى أصل ، وفصل الجمجمة الطّفاية ، كأنْ تقرأ على إحداها عبارة فلاّق Fellag ، وتعني قاطع طريقBandit في إشارة إلى أنها جمجمة تونسي ، وقد دَرَجت فرنسا على نعت الثوار بتلك الصّفة ، وكأنْ تقرأ عبارة متمرّد Rebelle ، أو مجاهد  Mujahid في إشارة إلى ثوار الجزائر وغيرهم من البلدان العربية الاسلامية ، يفتخر فرنسيون  بتَوْشِيَة   مداخل دُورهم بالجماجم الطّفّايات ، وتقديمها للضّيوف لإطفاء سجائرهم ، ويعتبرون ذلك تبجيلا وتقديرا للضّيف ، هكذا  خلقت قِيَم فرنسا  الاستعمارية أجيالا متوحّشة خالية من الشعور الانساني ، مُتْعَتُها إطفاء بقايا سيجارة في قعر جمجمة  إنسان يهوى الحرية .

ذهب في  اتّجاه العبث ، والتّحقير من شأن  الآخر المُخُتلف عنه ، متطرّف استعماري فرنسي ، وهو جول فيريJules François Ferry (1832 ــ 1893) ، و روّج لفكرة توسّع فرنسا على حساب الشّعوب الأخرى ، بل أشاع مقولات  عنصريّة ادّعى فيها تفوّق ، وعلوية ،وأفضلية  الأجناس ، ومنها العرق الآري ،  والهندوــ أروبي ،  هوالقادر على خلق الحضارة ، يفرض عليه واجبه  الوصاية  ، والرّعاية للشّعوب البدائية المستعْمَرة : الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا …  وعلى هذا الأساس تكون مهمّة الشعوب  الآرية والهندو ــ أوروبية الاضطلاع بدور الحضارة  ، وتأهيل الشّعوب البدائيّة .

 حسب النظرية السّابقة ، الجزائر شعب  من جنس سام عاجز عن التّحضّر ، لا يصلح للتّعليم ، بل يصلح لرعْي بهائم  الفرنسيين في الأرياف ، ويصلح لمسح جزمات Botteأحذية العساكر الثقيلة  بالمدن ، هذه رسائل فرنسا التحضيرية موغلة في عقلية اقصائية  ، لا تعترف بالآخر، هدفها تحطيم الشعب الجزائري ماديا ومعنويا ، أصبح الجزائريون غرباء في وطنهم   ، مَقْصِيون من التّمدّن  ، حوّلهم  الاستعمار إلى جواسيس ، ومتسوّلين و مُخْبرين ضدّ بعضهم البعض . استثنى جول فيري حقوق الشّعوب الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي من  شعارات الثورة الفرنسية ، واعتبرها مقولات خاصّة بالشّعوب  الآرية و الهندو ــ أوروبية ، وعلى رأسها فرنسا دون غيرها ، ثم انحرف قائلا : «حرية ، مساواة ، أخوة ، لم تنشأ ، ولا تصلح للشعوب المُولّى عليها » .

 التفاضل بين الأعراق طال الفكر الفلسفي العربي الاسلامي ، وقد أقصىاه  الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيجل (1770 ــ 1831) Georg Wilhelm Friedrich Hegel  باعتبار أن ذلك الفكر منتجوه ساميون شرقيون ولذلك قال :« ما هو شرقي يجب استبعاده من تاريخ الفلسفة » نافيا عن الشعوب السامية التفكير والحكمة والجدل ، وبذلك يكون التفكير الفلسفي حكرا على الشعوب الآرية ومحصورا فيها.                         .        

يوم 8 ماي 1945 ، أسقطت القوات العسكرية الفرنسية الوحشية  45 ألف شهيدا جزائريا في  مناطق  سطيف وقالمة وخراطة الكائنة  شرق العاصمة الجزائر ، لأنّهم تظاهروا مطالبين بالاستقلال ، خرقت فرنسا بروتوكول جنيف 1925 والقاضي بتحجير استعمال قنابل النابالمNapalm المُلْهِبة   في الحروب ضد الأهداف المدنية ، ومع ذلك استهدفت بتلك الأسلحة المحرّمة دوليا شعبا أعزل ،  لوّثت فرنسا صحراء الجزائر، واتّخذت  ــ على حين غرّة ــ سكّانها  فئران تجارب نووية ، وحدث انفجار القنبلة النووية  في الهواء الطلق مدويّا في كلّ من رقان وتامنراست ،  يوم 13 فيفري 1960 ، وأطلقت على فعلتها الشّنيعة «اسم اليُربوع الأزرق »  وخلال ستّ سنوات ، نفّذت فرنسا بأرض الجزائر 17 تجربة نووية ، خلّفت  جدْب الأرض ، وعقْم البشر والحيوان ، فسَرت أمراض السّرطان الخطيرة في أجساد أبرياء الجزائر، ونقلت حركة الرّياح والرّمال من الصحراء  الاشعاعات النووية إلى أجوار الجزائر : تونس ،المغرب ، الصحراء الغربية ، ليبيا ، موريتانيا ، مالي ، النيجر … هُلك خلق كثير،  إلى يومنا هذا ، ولم تحاسب تلك الدول فرنسا على جرائمها النووية ، ولم تطالب تعويضات جبرا للضرر ، بل اكتفى قادة بعض تلك الدول  بطيّ صفحة الماضي ، وتودّد ذليلا إلى فرنسا  مقابل جلسة مريحة على كرسي السلطة ، تحوطه فرنسا برعايتها من خلال مدّه بالمعلومات ، و بالعتاد ، ووسائل التّعذيب  يُرهب بها شعبه إذا فكّر في الثُورة ضدّه .

ضيّق بعض قادة الجزائر على فرنسا ، والحّوا على سنّ قانون يُجرّم الاستعمار ، وطالبوا فرنسا بالاعتذار وتسديد تعويضات وفق المعايير الدولية ، أُسْوة بشعوب أمريكا اللاتينية مُستعمرات إسبانيا التي طالبوها بالاعتذار والإنصاف ، وفرنسا نفسها  حصلت على تعويضات من ألمانيا جبرا للضر الذي لحقها خلال الحربيْن العالميتيْن ، وكذلك  حصلت ليبيا على تعويضات من ايطاليا جبرا للضرر ،  خطوات جريئة في تاريخ الجزائر المعاصر ، ولكنها مازالت جنينية محاصرة من قبل أعوان فرنسا بالجزائر ، ومن قبل أعداء الحرية وهم : المتطرّفون الاستعماريون العنصريون  الفرنسيون ذوو النفوذ السياسي .  

راهن الاستعمار وأعوانه على انكسار أمواج ثورة الجزائر الملحمية ، و يحصل ـ عادة ــ انكسار الأمواج في عالم البحار ، إذ انكسار الأمواج لا يعني هزيمة البحر أبدا  ، وذلك للأمواج أسرار مخبوءة ، يمكن أن تبوح بها العواصف  حين خلخلتها  هدوء البحر، تعلو وتهبط الأمواج في انكسارات مصحوبة بنغمات غيْظ ، لافظة السّقطات إلى حافّة السّاحل ، كذلك هو شأن الثورة الجزائرية ، أمواج هادرة أحيانا ، وأخرى هادئة تستجمع أنفاسها ، وتنتظر اللحظة المناسبة لاسترجاع مجدها النضالي ، في حين ظنّ أعداؤها أن قوى الثورة خارت بموت أجيال الثوار القادة ، أو عزل الرّموز، أو التّهميش  ، ولكن دم الثورة  متوارث في عروق الأجيال ، يرصد ويلاحق أعداء  الحرية بالداخل والخارج ، حائلا دون تسرّبهم لمفاصل الدولة ، وقد يفلح الأعداء في ذلك حين ينكسر الموج  ، ولكن  للموج الثائر بالجزائر  أسرار تمنع هزيمة البحر.

الجزائر تدفع ـ اليوم ــ ضريبة صمودها ، ومساندتها التاريخية المبدئية لقضايا التحرر العالمية ، وفي مقدّمتها قضية فلسطين ، قال الرئيس الراحل ، الهواري  بومدين ـــ ثاني رئيس جزائري (1932 ــ 1978) شغل منصب الرئاسة منذ سنة 1965 إلى تاريخ وفاته «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.» مقولة مشهورة لا تنساها ذاكرة الأحرار.

قال الرئيس الحالي عبد المجيد تبون ــ  (مولود 1945  … ) ثامن رئيس جزائري ، شغل منصب الرئاسة منذ سنة 2019 ــ  : «القضية الفلسطينية تبقى بالنسبة إلى الجزائر،  وشعبها قضية مقدّسة ، وأمّ القضايا … أنا أرى أنّ هناك نوعا من الهرولة نحو التطبيع ، ونحن لن نشارك فيها  ، ولن نباركها  … نعبّر عن دعمنا الثابت للشعب الفلسطيني،  وقضيته العادلة  ، وحقّه غير قابل للتصرّف  ، أو المساومة في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة ، وعاصمتها القدس الشّريف » .

لم تقبل الدول العربية المطبّعة مع الكيان الصّهيوني كلام الرئيس الجزائري ، بل توعّدته دولة الإمارات ــ بالسّوء ــ وهي المُطبّعة حديثا سنة 2020 صحبة دولة البحرين ، بل لا ترغب في كلامه أيضا  كل من   مصر و الأردن المطبّعتيْن ، وكذلك دول وممالك عربية تنسّق سرّا لإعلانها التطبيع ،  ومنها السودان والمملكة العربية السعودية …

الجزائر احتضنت الثورة الفلسطينية تدريبا وتسليحا وإعلاما شأنها شأن مصر عهد عبد الناصر ، وكذلك سورية ، وليبيا ، واليمن  … وغيرهم من أنصار الحق والحرية في العالم ،  قد أفلحت الديبلوماسية الجزائرية في حلّ الخلافات العربية من أجل تضامن عربي قادر على مواجهة الأخطار ، غير أن الجزائر تناوشها أعداء الداخل والخارج لإضعاف صوتها ، ولكن ثورة الجزائر أمواج متلاطمة تنكسر في بحرها ، ولا يعني ذلك هزيمة البحر.  

اترك تعليقاً