بقلم : د . حسن الهرماسي ، باحث وأكاديمي تونسي
لاشك في أن الحديث عن المستقبل التونسي ما بعد 14 جانفي 2011 ، وفي ظل مناخ التجاذبات السياسية المستمرة ، والتحولات غير المفهومة في كثير من الاحيان ، و التي تجتاح البلاد في الفترة الأخيرة، بقدر ما يحمل من الإغراء على إشاعة التفاؤل ، فإنه يحمل قدرا كبيرا من الألم خاصة في ظل الطروحات والتجاذبات العديدة المختلفة والمتناقضة أحيانا ، والتي قد توصف في كثير من الأحيان بالضبابية. طروحات تقليدية ترتكز في تحديد المستقبل على أسس الهوية والتاريخ ، وما يحمله من أسس شكّلت في فترات سابقة نقاط إشعاع إلى الدعوات الحداثية المتغربة ، والتغريبية الرافضة لكل ما هو ماض، والانبهار بما تحقق في الغرب العمل على تقليده ، أو استنساخه وتحت مسميات عديدة: علمانية… لائكيه… حداثة…
والحديث عن المستقبل، تجعل من دراسة هذه الطروحات والأفكار وعلاقتها بطبيعة البناء المنشود، مشروعا متعدد الاتجاهات تحملنا إليه ضرورة توجيه ممارسات الإنسان والمجتمع في ظل وضع إقليمي وعربي وعالمي ، تميزه التقلبات السريعة والحاسمة في كثير من الأحيان.
وهناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح في هذا الظرف هو: هل أن ما تعيشه بلادنا والمنطقة العربية من حركية وتحول قد يوفر الظروف الملائمة لولادة حالة جديدة قادرة على القطع مع حالة التخلف التي فرضتها ظروف تاريخية وجغرافية ميّزت الواقع العربي لفترة ليست بالقصيرة.؟
إن التوجهات العقلانية في قراءة ،وتفسير التاريخ القريب والبعيد، بعيدا عن السلفية المفقرة لتاريخ وتراث الأمة و الحداثية التغريبية التي فصلت هذا التاريخ وتراثه عن محيطه وظروفه، قد ترسم لنا الملامح الأولية للمسوغات الجديدة لاستشراف المستقبل ، وتنير لنا طريق النهوض والتقدم. ولتحويل التاريخ والحاضر إلى معرفة وثقافة قادرة على خلق عناصر الإبداع والانبعاث الحضاري ضمن أوفي إطار أصالة متجددة ، توظّف لكسب معرفة جديدة، تضمن البقاء واستعادة المبادرة والمساهمة بفعالية في الحضارة البشرية.
إن القاسم المشترك بين الجميع اليوم، هو الإقرار بالتخلف والتأزم اللامتناهي الذي نعيشه وأن هذه الوضعية ليس سببها قصور العقل العربي عن استيعاب التطورات الحضارية المتسارعة، وإنما السبب الأساسي يكمن في قصور البعض ممن تصدوا لهذه المهمة عن تفكيك ، وتفسير قدرة العرب في عصور نهضتهم على التعاطي مع الآخر ، الشيء الذي مكنهم من استيعاب وهضم كل الثقافات السابقة والمعاصرة لهم والخروج إلى العالم بنمط حضاري ، وثقافي متميز أثبت قدرته على التفاعل الإيجابي والتعايش والاحتكاك مع الآخر، بل أكثر من ذلك قد شكل هذا التراث الحضاري عندما أحسنت قراءته منطلقا لنهضة حضارية أوروبية غربية خلال العصر الحديث.
إن التحولات الجارية الآن قد كشفت لنا خطورة المهمة ، وأكدت بما لا يقبل الشك إخفاق معظم الطروحات المعتمدة في ما مضى ، وأيقظت لدى البعض صورة الماضي المدبّجة بوشم الانتصارات الكبيرة، وأكدت لنا عظمة الخلل الذي أصاب مسار الزمن العربي وأنه لابد من إعادة القراءة بأسس جديدة لمعرفة أوجه الخلل وتصحيح المسار. من هذا المنطلق تتصدر مسألة إعادة بناء العقل العربي وتمكينه من أن ينفض عن كاهله غبار الفوضى والارتباك التي عاشها لزمن طويل عندما أدار ظهره للماضي ، ولم ينجح في استيعاب التطورات اللاحقة.
اين تكمن أوجه القصور؟
رغم تعدد واختلاف المناهج المعتمدة في الطرح ، واختلاف مشارب ومستوى وعي المهتمين بها، فإن أغلب الطروحات قد عاملت الواقع والمجتمع التونسيين بكثير من التعسف والرغبة في إخضاعه سلبا أو ايجابا، وعلى نحو مبتذل لمصالح وحاجات سياسية وأيديولوجية. وهذه النظرة للواقع من خلال المصالح والحاجات ضحّت بالأسس العقلانية القادرة على تقديم الحلول الفعلية لتغيير الواقع ، وهو ما أدى إلى إضاعة الوحدة الجدلية للحقيقة بعنصريْها المعرفي والنفعي مما يخشى منه تحجيم ، وتجميد حركة التحديث والإطاحة بها.
قد لا أجانب الصواب إن قلت إن أغلب الطروحات المقدمة من مختلف الساعين إلى تغيير الواقع السياسي والثقافي في تونس ، ما بعد الثورة تبدو متأزمة وقاصرة منذ البداية، فبعد مضي أكثر من نصف قرن على بداية المحاولة على إحداث التغيير متمثلا في المحاولات الإصلاحية الأولى وعلى رأسها فترة خير الدين التونسي، لازلنا نجتمع لنسأل أنفسنا السؤال القديم الجديد: ماهو الأفضل: الأصالة أم التجديد…؟ ألا يدل ذلك على أن ثمة خللا في بنية هذه الطروحات.
قد يعترض البعض على ذلك قائلا: إنّ القصور لا يعتري الفكر أو العقل الذي تصدّى لقراءة الواقع، وإنما يعود إلى تردّي ثقافة العامة أو الجماهير، وتخلف عقليتها.
قد أقبل هذا الاعتراض, وأسلم بأن إثارة الموضوع تنطوي على شيء من هذا القبيل, لكن ألا يعني ذلك أن هذه الطروحات لم تكن تخاطب هؤلاء العامة وطيلة هذه الفترة, باللغة التي يجب أن تخاطبها بها, ثم أليس بالأمر المفجع أن نحتاج إلى عدة هزائم قبل الثورات حتى نكتشف أن هذه النظرة كانت قاصرة؟
القضية وببساطة هي أننا وإلى حد يوم الناس هذا بقينا موزعين بين تكوين تراثي تقليدي شامل من الوجهة العقائدية والأخلاقية ، وبين استعارة هشة وممسوخة ومصطنعة لمنظومة من الأفكار والمناهج التي لا تتفق مع تكويننا؟ فتأزم الحاملون للواء التغيير فكرا وممارسة ، و أزموا معهم العامة وحدث ما حدث, ذلك أن الصورة التي رسمت للحداثة و العصرنة من قبل البعض كانت مستقلة عن وعينا بهذه الحداثة وعن الإيديولوجية التي أطلقت على نفسها هذا الاسم. فنحن لم نتعلم إلى اليوم أن التاريخ لا ينتظر تبلور الفكرة لينطلق, ولكنه هو الذي يتحرك ويحرك الفكر معه ، ويغير وعي الناس وإدراكهم ونمط حياتهم, عفوا لقد نسيت أن البعض يعيش على هامش حركة التاريخ إن لم أقل خارجها.
صحيح أن لكل أمة سند تاريخي, ولا تستطيع أن تؤسس وجودها دون هذا السند الأساس, لكن بالمقابل فهي أيضا لا تستطيع أن تؤسّس هذا الوجود على بطولات قام بها غيرها دون أن تقع في التماهي الكلي مع هذا الغير.
كما يمكننا القول بأنه ليس من الممكن لا الآن ، ولا في المستقبل أن تؤسس أمة ما لنفسها ، أو تبني اجتماعها بتبنّي أطر مرجعية هي ليست لها ، وإنما للأمم أخرى, لذلك باءت كل محاولات بناء النهضة العربية بالفشل. من هنا ندرك أهمية التحدي الذي نواجهه في بناء ذاتيتنا وتكوين قاعدتها الأولى ، ومبدأ الذاتية بهذا المفهوم هو رفض الاندماج في الآخر مع ما ينطوي عليه من استلاب للهوية وغياب للوعي الذاتي.
لكن بالمقابل فإن هذا الموقف يتضاد مع موقف القائلين بفكرة التراث الميت والذاتية الجامدة والماضوية ، والتي تعلم الناس أننا فقط أحفاد أولئك العظام الذين فتحوا العالم وأن أجدادنا تمكنوا من ذلك بسبب تمسكهم العقيدي والأخلاقي والاجتماعي بالدين فحسب ، وننكر على أجدادنا أنهم وظّفوا أسبابا اجتماعية واقتصادية وسياسية وحضارية أخرى لتحقيق هذه الانتصارات.
إذن فالانبعاث الحضاري لا يتحقق خارج إطار الزمان والمكان ولا بمعزل عن الجماعات والثقافات القائمة, وأن كل أمة في أخذها من هذه الحضارة أو تلك يجب أن تستند في ذلك إلى قوة عناصرها الذاتية. لأن الأمة التي تفقد إيمانها بنفسها سيكون مآلها مزبلة الحضارة وحاوية فضلاتها.
ورغم أن المحافظة على التوازنات العميقة داخل مكونات كل أمة أمر هام خصوصا في الوقت الذي تضاعفت فيه عدوانية “الأمم المتحضّرة” ، وذلك لضمان حقوقها في الحاضر والمستقبل ، ونفاذها إلى الحضارة والتقدم بشروط أفضل وليس بشروط الأمم القوية. هذا التوازن يتطلب وجوده نزعة مقاومة ورفض, لكن ليس بشكل اعتباطي وغير عقلاني, بل يكون ذلك بالمحافظة على قوة المشاعر القومية وتأصيل الهوية المقاومة والشعور بالاعتزاز الثقافي. بذلك فقط يمكننا استيعاب الأسس العميقة للتحديث والحضارة.
فالمنهج الأصولي في تفسير التاريخ والقائل بأن حركة الارتداد عن مفاهيم الحداثة هي عند البعض نداء جماعي من أجل إقامة الدولة الدينية, قراءته لا تجسد الواقع بل هي توظفه سياسيا وتقوم بتأويل التراث الفكري والديني بما يلائم أهدافها السياسية. وهي بذلك مثال للنزعة الشديدة المحافظة الحاملة لكل قيم التخلف والنخبوية القروسطية ، وتنافي في جوهرها قيم الحضارة والمدنية.
من جهة ثانية يقف الحداثيون أو بالأحرى مدّعو الحداثة موقف المتصف بالصفة العلمية في قراءتهم للواقع ، ويسوقون الاعتقاد القائل بأن إجهاض مشروع التحديث يعود إلى مقاومة البني التقليدية والتمسك بالهوية والتاريخ والقيم القديمة وأن التخلص من هذه الأخيرة سيفتح الباب على مصراعيه أمام تعميم الحضارة وتطويرها. ولم ينبُسوا ببنت شفة تجاه ما أرساه الأجداد من قيم علمية ، وما أبدعوه من طرائق متقدمة في التفكير اكتشفها الأوروبيون، وأفادوا منها وتعرفنا على الكثير منها من خلالهم, أليس الأوروبيون هم الذين عرفونا عقلانية ابن رشد والكندي وتاريخية ابن خلدون ومنهجية جابر ابن حيان العلمية في البحث؟.
لقد تناسى أنصار الحداثة أن العلمية تعني أن لكل ظاهرة سببا يكمن فيها ، وأن ثمة قوانين موضوعية أساسية وشاملة تحكم مسار التطور الاجتماعي وتتحكم به ، وأنه يتعين عليهم إعادة قراءتهم للواقع لمعرفة طرق وأشكال تجسد الصفة العلمية فيه, بل كان تركيزهم على بعض القيم والعادات والتقاليد العتيقة وما لها من تأثير في تكريس التراجع العقلي ، وتغنوا بذلك كثيرا وقرؤوا وفهموا الهوية على أنها الدفاع عن ماهية جامدة وماضوية وعلى أنها من أكبر العيوب ، بل هي في مفهومهم عورة من عورات الماضي, متناسين في الوقت نفسه أن التماهي مع الآخر والاستلاب وغياب الوعي بالهوية والذاتية والانحدار إلى مستوى الجماعة الاستهلاكية التي تعيش عالة على غيرها والتي ليس لها في ذاتها أي طموح أو رسالة تحركها سوى إرضاء الرغبات، وإشباع الحاجات الآنية هو بدوره من أكبر العورات الحضارية والعيوبالفكرية٠
مما سبق عرضه نخلص إلى القول أننا أمام قراءتين مشوهتين للواقع الأولى (أصولية) لم تدرك أن الماضي المشرق منطقيا, لا يمكنه أن يستوعب كل معطيات العصر ومشاكله وأن الفكر العصري هو القادر فعلا على أن يحتوي الماضي ويستوعبه, لأنه يتجاوزه, لكن هذا التجاوز الزمني بالأخص لا يعني البتة النفي والإفناء ، بل يعني بالتأكيد السبق والإضافة و لا ينفي أيضا إمكانية التعايش وإغناء الثقافة المعاصرة. فهي لم تعتمد قراءة سليمة ومنهجية قائمة على قانونية التطور الاجتماعي للبشرية والتي هي في نظرنا المدخل لتصحيح مسار التاريخ العربي في سياقه المتعثر الراهن.
أما القراءة الثانية الحداثية المتغربة فإنها غرقت في اللاوعي بالذات والهوية وهو لاوعي متحكم بالسلوك ، ويلجأ إلى تقديم حلول تعويضية تشعرها بالسيطرة الوهمية على الواقع بعد أن أخفقت في السيطرة الفعلية على حركته وتناقضاته داعية بكل يسر، وبشكل فجئي إلى الانسلاخ عن أربعة عشر قرنا هي العمر الحضاري الذي صيغت فيه شخصية الأمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية وتشكلت على أساسه.
إذن نحن أمام قراءتين قلقتيْن مرتبكتين أدتا إلى تخلخل البناء أمام جل الامتحانات التي مر بها, وأن الثمن الذي دفعناه كان باهضا وأن الأمور ستكون أكثر خطورة إذا لم نقم بمراجعة نظرتنا لتاريخنا وواقعنا مراجعة نقدية شاملة.
اذا كيف يمكن لنا تغيير الواقع وما هي المسوغات التي يجب اعتمادها؟
لتحديد الرؤية الجديدة والمسوغات الفعلية لقراءة الواقع, لابد لنا من تحديد مشكلة الفكر العربي الراهن و الوقوف على الصلات التي تربطه بتاريخه القريب والبعيد ، وأيضا الكف عن استخدام التأويل كسلاح أيديولوجي أو سياسي, استخداما انتهازيا مصلحيا, وتحديد الشروط التاريخية الإجتماعية التي تمكننا من جعل الماضي حاضرا في عصرنا وعاملا من عوامل تحقيق أهدافنا والإبتعاد عن مجرد نقل هذا القول أو ذاك أو تفسيره ثم التعقيب على التفسير والتعقيب على التعقيب…
إذا المهمة المصيرية المطروحة اليوم على من يتصدى لبناء المجتمع الجديد وما سينتج عن ذلك من إنهاء للتبعية وتحرير الأمة سياسيا وثقافيا وأمنيا, إحلال علاقات جديدة, هي أن يضعوا نصب أعينهم النهوض بالمشروع الحضاري العربي. فمشكلة الموقف من الواقع هي مشكلة الفكر الراهن المأسور إما بأصولية ماضوية جامدة ،أو تحديثية تغريبية فاقدة لذاتها ولهويتها.
إذا فأهم المسوغات الجديدة الضرورية لبناء المجتمع الحديث تكمن في تحديد موقع الفكر من الواقع المأزوم معرفيا وعمليا. فباتخاذ موقف وموقع واضح من قضايا الأمة, وليس كل قطر على حده, وما تعانيه من تأزم حضاري وعدم قدرة على المقاومة والوقوف في وجه الهجمة الشرسة, نكون قد وضعنا حجر الأساس لقراءة منهجية لواقعنا بدءا باستنطاق التاريخ وما يحويه من مواقف مضيئة في هذا الصدد ( أقول استنطاق وليس نسخ أو إحضار التاريخ).
إن الأمر يختلف بين القوى أو المجموعات صاحبة المصالح المتناقضة والمختلفة, أي أن الماضي محكوم باختلاف المواقف من قضايا الحاضر التي يجب, حسب المسوغات الجديدة, أن تكون متفقة مع الطموح إلى النهضة والبناء الشامل والمتقدم للدولة و المجتمع.
أما معرفيا, فإن القراءة الجديدة تتطلب حكما المعرفة بقوانين التطور الاجتماعي, فالبشر لا يتكونون في الفراغ, وليسوا على ماهم عليه هكذا دفعة واحدة ودونما سبب, وإنما هم نتاج عملية تاريخية طويلة لها قوانينها التي يتعين على كل من يسعى إلى التفسير معرفتها. ومن هذه الزاوية فإن المعرفة بطبيعة ومتطلبات مشروع الانبعاث الحضاري, تصبح ضرورة جوهرية لاغنى عنها لمن سيتصدى للبناء. إذ من دون هذه المعرفة يصبح فهم الحاضر واكتشاف الحلول الكفيلة بتغييره أمرا متعذرا.
كيف نستشرف المستقبل؟
لقد سبق القول بان الماضي حاضر بقوة في حاضرنا, ولهذا فإن تغيير الحاضر لا يكون ممكنا على نحو دقيق إلا عبر قراءة الماضي من جديد. لكن هل يعني ذلك أن أي قراءة لذلك الماضي هي قراءة مشروعة؟
يمكننا القول أن تحديد شكل وطبيعة المجتمع والنظام من خلال المسوغات الجديدة يجب أن ترتكز على مجموعة من العوامل:
اللجوء عند تفسير الواقع الاجتماعي إلى اكتشاف القوانين المنظمة لحركة هذا الواقع ، وتغييرها بما يخدم الأهداف والطموحات.
أن المجتمع هو في نهاية الأمر تركيب اقتصادي, اجتماعي, ثقافي, أخلاقي, وديني, وبالتالي فإن مشروع الرؤية الجديدة يشكل مركبا لمسائل تتصل بالماضي والراهن والمستقبل بعيدا عن عوامل التقديس والتبجيل ، ولكن أيضا دون تحقير ومهادنة.
أن قضية الهوية لابد أن تكون قضية أساسية ومطلب لا مندوحة عنه عند الحديث عن الحداثة, إذ ما قيمة حداثة تقوم على نفي الذاتية أو تؤدي إلى استلاب الهوية.؟ فالانطلاق إذا يكون من خلال تحديد جدلي للعلاقة بين الوجود الخاص والوجود العام أي الذاتي والموضوعي مع المحافظة على خصوصيات الخاص ذلك انه يظل أغنى وأثرى من العام.
عند الحديث عن المستقبل لابد من ربطه بطموحاتنا وما نرغب في تحقيقه ، وبذلك تكون أصالتنا هي المعبر الفعلي عن مشروعنا الثقافي المستقبلي.
إزالة التناقض بين الأصالة والانبعاث الحضاري, وإعطاء الأولوية إلى بناء الديمقراطية قبل البحث في شكل الدولة ، هل تكون مدنية أو دينية؟. لأن الضامن الوحيد لبناء المستقبل المنشود هو آليات الدولة وليس شكلها.
إذا نحن أمام مجموعة من الحقائق:
أولها أن حركة الإصلاح العقلي التي ظهرت في أواخر القرن 19 وما تبعها من محاولات جادة في ما بعد قد حققت النقد النظري اللازم للمرحلة القادمة, وفتحت الطريق إلى ظهور الفكرة الحديثة العقلانية ، وبالتالي فإن المهمة الملقاة على عاتق من يهتم بالمستقبل اليوم هي الانتقال إلى دائرة القرار والفعل و الابتعاد عن ترداد انتقادات المصلحين الأوائل أو تعميقها.
وثانيها أنه لابد من إنهاء الصراع المستمر بين الحديث والقديم لأنه لن يؤدي إلى تحقيق الحداثة أو تحقيق الذاتية وبناء الهوية ، بل سيقودنا حتما إلى انسداد آفاق التغيير الحضاري. فالأصل في أزمة الهوية عند البعض منا هو إخفاق الحداثة في تحقيق النهضة والانبعاث الحضاري كما أنه فشل في الدخول إلى المعاصرة أو الفاعلية ذلك أن الحداثة بقيت متنكرة لذاتها وهويتها.
ومصدر هذا التنكر ليس الماضي بسلبياته وايجابياته وإنما التهميش الحضاري الذي تمارسه الثقافة العالمية الجديدة في إطار ما عُرف بصراع الحضارات ( يتمسك البعض ،وبعد كل ما تبين بتسمية حوار الحضارات ) لأن الهدف الحقيقي لهذه الثقافات هو إزاحة الآخر ودفعه إلى فقدان قيمته التاريخية وجعلها دون فاعلية وبدون مردود.
إذن فالقراءة المنهجية للواقع والرؤية الجديدة للمستقبل ترتبط جدليا بالمحافظة على الهوية في بعديها الخاص والعام, لكن دون ربط هذه الهوية بإنجازات الماضي لأن ذلك سيقودنا إلى التيه ، والضياع والضبابية التاريخية بما أن هذه الإنجازات لاوجود لها في راهننا بحكم الانحطاط الذي نعيشه. وبالمقابل لا يمكننا أيضا ربط الهوية بالإنجازات الحالية لأن كلامنا حينئذ يصبح فاقدا لكل جدية لأن ثقافتنا الحالية هي في معظمها مقتبسة. وبما أن المسألة ( أيديولوجيا ومعرفيا على الأقل) لا تنفصل في جوهرها عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فإن ذلك يحتم علينا الانتقال من التحليل إلى معاينة الواقع المعيش. ومهما تعددت التسميات من تراث… أصالة… هوية… ذاتية… إبداع… تحديث… فإن ما يجب التركيز عليه عند البحث عن الإجماع هو الوسائل الكفيلة ببناء محتوى هذه التسميات ودور هذا البناء في تحقيق أو تشكيل مجتمع ديمقراطي يشارك فيه كل أبناء تونس.
إذا علينا رفض الأمر الواقع واستفزاز، أو استنفار العقل ، وإيجاد شعور بالندية ،وبالقدرة على مقاومة آليات السيطرة والخضوع و الإستيلاب مهما كان مأتاه. وفي هذه الظروف الاستثنائية ، و من أجل تحقيق أهدافنا علينا الانتقال من التكفير إلى التفكير ومن الجهاد إلى الاجتهاد.