لم أفكّر ولا مرة في حياتي بأن أصبح من الأغنياء، وأعيش في قناعة ورضا، لا أعرف إذا كانت القناعة هي عزاء أمثالي، أم أنها بمثابة دفاع عن النفس أمام العجز عن تحقيق حياة مادية أكثر غنىً وتنوّعاً، هذه التحليلات لا تهمني كثيراً، ما يهمّني أكثر هو الرضا والتصالح مع النفس الذي أشعر به.
الغريب أن هذا الرضا يستفزّ أولئك الذين يفخرون بأملاكهم ومقتنياتهم الثمينة، فهم كما يبدو بحاجة إلى إنسان ينظر إليهم بغيرة وحتى بحسد كي تكتمل سعادتهم، ويبدو أن متعة المقتنيات ليست فقط للتصرف بها، بل كي يراها الآخرون، وهذا ما يجعل لها نكهة خاصة ويضخّم قيمتها، فهي تعني أنني مُميز، ولهذا أملك ما لا تملك أنت، وأنني أهمّ وأقدرُ، بل وأكثر ذكاء منك، وأستحق ما لا تستحق، وأنت لا تساوي الكثير لأنك لا تملك سوى القليل، بل ممكن القول إنك غبي حتى لو كنت نابغة عصرك، لأن مقتنياتك هي مقياس نجاحك أو فشلك في الحياة، فما الذي حقّقته بنبوغك؟
هذا يفسر حب ظهور هؤلاء بملابس لا يشاركهم أحد في لونها وتفصيلها، أو بطلب معاملة خاصة لافتة للأنظار في الحفلات الجماعية، مثل طلب شراب خاص، أو تسجيل موقف ما بأنهم أول من اقتنى نوعاً ما ثميناً من السيارات في البلدة، أو جهاز هاتف لم يكد يصل البلاد بعد، أو أنه أوّل من أدخل عادة مستحدثة في حفل زفاف ابنته أو ابنه، طبعاً عادة مُكلفة، أو مثل ذلك السّوري الكندي الذي دفع خمسة وتسعين ألف دولار مقابل الإعلان عن نوع الجنين في رحم زوجته على برج خليفة لمدة ثلاث دقائق، هذا النوع من الأغنياء الجُدُد المثير للشفقة، وليس إلى الغيرة كما يظنون.
بتّ على يقين بأن السّعادة هي قضية نفسية، والحياة هي اللحظة التي نعيشها الآن، لأن اللحظة التي عشناها مرّت وولت وانتهت، ومهما كانت سعادتنا فيها كبيرة لن يبقى منها سوى شذرة من ذكرى مثل ومضة في الظلام.
لم يكن لدى والدي ميراث كبير، كان لديه أرض تكفي لمؤونتنا من زيتون وتين وبعض خضار، خصوصاً البامية، شأن معظم أهل قريتنا، وعلِمنا منه في مرحلة ما بأنه باع قطعة أرض إلى زوج ابنة عمه كان له فيها بضع شجرات من الزيتون، وذلك في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، فقد كان شاباً وحيداً في مقتبل العمر، وهو يتيم الأب منذ طفولته المبكرة، ويريد الزواج، أراد أن «يستر نفسه»، وليس عنده أي مصدر، فباع قطعة الأرض لزوج قريبته ببضع عشرات من الليرات.
مرّت عقود، ورحل الرجل المشتري قبل أن ينقل الأرض إلى اسمه، وبقيت الأرض باسم والدي.
هذه الإشكالية تحدث كثيراً في فلسطين، فالكثيرون ممكن اشتروا أرضاً من أبناء بلدتهم، وخصوصاً ممن تربطهم علاقات قربى أو نسب أو صداقة، يؤجّلون الإجراءات القانونية لنقل الملكية، وذلك لأنها عملية بيروقراطية، يتخللها دفع مبلغ ما للتطويب، والأهم هي الثقة العمياء ببعضهم بعضاً، وقيم المجتمع القروي، ببساطة يبدأ مشتري الأرض باستخدامها، ويعرف الناس بأنها صارت ملكه، وإذا حدثت مشكلة ما مستقبلاً، يكفي أن يشهد جار المكان أو رجل ما على الصّفقة، أو يقسم ويده على القرآن الكريم بأن قطعة الأرض هذه يفلحها ويزرعها ويقطف ثمارها فلان ابن فلان، منذ سنوات دون اعتراض أحدٍ عليه.
بعد رحيل كبار البلدة، بدأت تظهر بعض مشاكل، يكتشف بعض الأحفاد ميراثاً من الأرض الثمينة لم يكن في حسابهم، ويرفض بعضهم التنازل عنها، لأنها ما زالت باسم ذويهم أو أجدادهم، القانون في هذه الحالات يعترف فقط بالوثائق والأوراق الموقّعة، ولا يعترف بصفقات شفهية جرت بين الأجداد، وهو لا يحمي المغفلين.
وبما أن الأرض ما زالت باسم والدي، فقد وصلتني وما زالت تصلني اتصالات عديدة من أناس معنيين بشراء الأرض التي أصبحت على حافة مسطح البناء، وأصبح ثمنها باهظاً بسبب انحسار أرض البناء بشكل خاص، يقولون لي إنهم خلال بحثهم عن أرض وجدوا بضع مئات من الأمتار على اسم والدي رحمه الله في إحدى القسائم، ويرجونني إذا ما كنت أنوي بيعها، لأنهم بأمَسِّ الحاجة إليها، فأسرعُ لأؤكد بأن هذه الأرض بيعت منذ سبعة عقود، وليست ملكي.
هذه الإشكالات لا تحلُّ بهذه البساطة لدى كثيرين، وصرنا نسمع عن التوجه إلى قاعات المحاكم، بل وأكثر من هذا، فقد وقعت مشاجرات وعنف وتهديدات بالقتل بين متخاصمين، وتسمع قصة عن شاب مستهتر باع حصته من أرض، لأنها ما زالت على اسم جدّته أو جدّه، قبض ثمنها وصرفه على اللهو والرحلات في بلاد الله الواسعة، رغم أنها في الواقع ليست ملكه، ولكن القانون إلى جانبه، وهذا سبّب ويسبب حتى اليوم مشاكل تكاد تنتهي بكوارث.
لهذا السبب، وبعد عدة اتصالات ممن يريدون الشراء وبثمن مُغرٍ، اتصلت بوريث صاحب الأرض، وحثثته على الإسراع بإحضار الأوراق اللازمة لإتمام الصفقة، حينئذ قال لي الرجل الوريث: أنا أعرفك جيّداً، وأنا مطمئن من جهتك، قلت له: ومن يضمن لي ولك متى نرحل عن هذه الفانية؟ ومن يدري كيف يتصرف ورثتنا؟ ومن يقنعهم بعد رحيلنا بأن هذه صفقة قديمة عُقدت بكلمة شرف وفنجان قهوة بين أجدادهم قبل سبعة عقود أو أكثر؟
بعد حوالي سبعة عقود من الصفقة، جاء الوريث برفقته محام من البلدة، ومعهما رزمة من الأوراق والملاحظات، كُتبت عليها تفاصيل صفقة البيع والشراء ومساحة الأرض وموقعها وثمنها التقديري في هذه الأيام، وقّعت على الصفقة وكأنما أنا الذي تلقيت المال مقابل الأرض، في الحقيقة أن بيع أرض في فلسطين ليس سهلاً، ويحتاج إلى جهد نفسيٍ كبير، ولكن ما يعزّيك بأنها ذهبت لأناس من أهل البلدة تعرفهم جيّداً، وليس لغرباء أو لسماسرة. بعد التوقيع واحتساء القهوة، شعرتُ براحة كبيرة، وبعبء ومسؤولية ثقيلة انزاحت عن كاهلي…
بقلم سهيل كيوان
كاتب فلسطيني