التصدّع الاجتماعي في تونس : اليوم وغدا …؟؟

بقلم :د. إبراهيم جدلة ، استاذ التاريخ ، كلية الآداب  والفنون والانسانيات ، منوبة ــ تونس

من بين كبرى التحديات لهذه الحكومة ،وللحكومات المقبلة ، مهما كان لونها وشكلها وتركيبتها ،هو درء التمزّق  الاجتماعي المتفاقم الذي تعيشه البلاد، بين الجهات وبين الأجيال، وكلّما تمّ التّفطن للداء ومحاولة توقيه ،أو إصلاحه كلّما كان أسلم من أجل تنمية عادلة ،ومتوازنة وقابلة للتطوّر السريع. ما حدث في المدّة الأخيرة من انفجار اجتماعي أليم ومؤسف،يحثّنا حتما على البحث عن الدواعي والمسببات والتشخيص، وربما البحث  عن الحلول. وعوض البحث في المصطلحات فقط: هل النّهب نهب؟ وهل العنف عنف؟ ، حريّ بنا أن نتعمّق في الظاهرة ، وأن نحاول فهمها بالإصغاء إلى الآخر ،والشّروع في البحث عن حلول من شأنها أن تجنّب البلاد المزيد من المآسي والآلام، والخسائر التي نحن في غنى عنها.

هذا القلق الاجتماعي الذي نعيشه اليوم ليس جديدا ولا طارئا. ربما الجديد فيه هو تزامنه مع وباء لكورونا  ،والحجر الصحّي ، وما انجرّ عنه من  نتائج  سلبيّة على شرائح كبيرة من المجتمع، منها حرمان البعض من قوتهم اليومي، ومنها الضّجر بسبب التّضييقات على التنقّل، ولعلّ هذا  يفسّر منسوب العنف الذي ارتفع نسبيّا….

هذا القلق الاجتماعي الذي تحوّل إلى أزمة عميقة ليس وليد اللحظة ،بل إنّه يعود إلى ما يزيد عن أكثر من ثلاثة عقود، والسبب الرئيسي في ذلك هو : التراجع التدريجي في استيعاب المزيد من الشباب في منظومة العمل والسوق والانتاج.

في البداية كانت المضارّ الجانبيّة ، أو المباشرة غير مرئيّة ، أو ضعيفة لكن مع مرور الأعوام ، وتراكم السلبيات بدأت   مظاهر الأزمة تبرز للعيان. ما يقع في ملاعب كرة القدم والمواجهات الكلاميّة مع الأمن، وربما مواجهات فعليّة، رفض المنظومة الرسمية والأمنية، حراك 2008 في الحوض المنجمي … انتفاضة السباسب 2010-2011…

لمزيد فهم هذا الكسر الاجتماعي المتنامي، لا بدّ من   البحث في مسائل متشابكة ومتتالية ومعقّدة ، بداية من الطفولة، والتمدرس ،والاعداد إلى سوق الشغل. هذا التصدّع تسبّب أحيانا لدى البعض في رفض كلّي أو نسبي للمنظومة التقليديّة العاديّة: الأسرة/ المدرسة/ المجتمع / مؤسسات الدولة…وإن كانت القاعدة تقول : يولد جميع الأطفال متساوون في الآمال والأحلام، متساوون في الإنسانيّة، غير أنّه في الواقع  كلّما كبر الأطفال، وحسب متغيرات الأسرة الحاضنة ، والمجتمع والبلد  ، يمكن للبعض منهم أن يفقدوا جزءا من هذه الآمال والأحلام  ، وهو ما ينجرّ عنه  رفض الحلقة المواتية من المنظومة الرسمية: العائلة أو المدرسة أو ما يمثل الدولة، في مستوى  ما يمثل الخيبة أو التهميش. و بالعكس كلما كانت مراحل الإدماج ناجحة نجح الفرد في الاندماج في مختلف الحلقات….

فالأسرة هي الحلقة الأولى التي تحتضن الطفل ، وتوجّهه نحو ما تعتبره الأصلح والأفضل، لكن الأسر التي تشكو من الفقر والتهميش ، أو من تدنّي المستوى التعليمي تعجز أحيانا عن تأطير أبنائها. ومن هنا تبدأ مراحل التمايز الاجتماعي والفكري بين الأطفال، وربما يتسبّب ذلك في الانقطاع المبكر عن التعليم ، أو في الانحراف المبكّر للبعض منهم. 

إضافة إلى تراجع دور الأسرة، نلاحظ أحيانا تقلّص دور المدرسة، وعجز السوق عن استيعاب وإدماج الشباب من أصحاب الشهادات ، أو الكفاءات أو غيرهم. ومن أهم الأسباب في ذلك،  فشل  منظومة التعليم التي تخلّت دون سبب وجيه على التكوين المهني ، والتقني في المعاهد الثانوية، والذي كان مخصّصا  إلى الذين يرسبون كثيرا والذين لم تكن لديهم القدرة  الذهنيّة ،  وربما الاجتماعيّة على مواصلة التعليم العام.  وإضافة   إلى ما تسبّب فيه هذا التراجع من خسائر ماليّة كبيرة بالتخلّي عن آلاف التجهيزات، فقد لبّى أحد مطالب البنك الدولي بالرفع من عدد المتعلمين في مستوى الجامعة. وعوض تطوير التعليم التقني الجامعي، تمّ ضخّ مئات الآلاف من الطلبة في الجامعات في مسالك ضعيفة ، أو عديمة التشغيليّة دون النظر في إمكانية تشغيلهم بعد التخرّج.

عندما تفشل الأسرة، وتعجز المدرسة يبقى دور الدولة التي من أولى واجباتها الإصغاء إلى الشباب ، والتحاور معه ، وفهم أسباب ونتائج هذه  الهنات ، وهذه الخيبات التي سبق وأن قلنا أنها تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود.  نتساءل لماذا  غابت الدراسات والأبحاث الخاصة بالشباب رغم  وجود  معهد للدراسات الاستراتيجيّة، والعديد من مراكز البحث ( مثل مركز الدراسات والأبحاث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، مرصد الشباب… ) والعديد من الجمعيات والمنتديات  المهتمّة بهذا القطاع. كذلك نلاحظ أنّ العديد من الوزارات التي يهمّها الأمر غائبة تماما   ، وبعيدة   كلّيا عن الواقع التونسي: وزارة المرأة والأسرة والطفولة، وزارة الشباب، وزارة التعليم، وزارة التكوين والتشغيل.  كثر المتدخلون وقلّت البركة. لا نعرف من هو المسؤول عمّا نعيشه اليوم ، كل ّما نعرفه هو أنّ الدولة  ( ممثلة بهذه الوزارات والإدارات ) في واد والشباب في واد آخر. وهذا هو الصدع الاجتماعي في أعمق مظاهره ، والذي يتم اختزاله أحيانا في شكل صراع بين الأمن ( الدولة ) والشباب.

نعرف أن الحلول يصعب الوصول إليها حالا، وربما يجب انتظار عقد أو عقديْن من الزمن للصول إلى حلول مقبولة. لكن في الأثناء يجب الانطلاق في الحوار مع الشباب، وحثّ كل الهياكل ذات الصلة لدراسة ، ومحاولة إيجاد الحلول لمختلف العوائق: تعمّق التمايز الاجتماعي، عدم القدرة على إدماج شرائح عمريّة واجتماعيّة في الاقتصاد وفي مجالات الخلق والانتاج. يتعيّن على الهياكل الرسميّة دراسة الديموغرافيا، وتأنيث التعليم والإدارة والخدمات ( نسبة كبيرة من الناجحين ومن الذين يلتحقون اليوم بسوق الشغل هنّ من الإناث )، وإصلاح التعليم والتكوين….سيسمح الشروع في هذا ببعث الأمل لدى شرائح مختلفة من المجتمع، لكن  الحكومات المتعاقبة بسرعة البرق  لا همّ لها سوى الكراسي ، وتوزيع المنافع الآنيّة على المريدين والزبائن، فهي قد جاءت لتستخدم الدولة لا لخدمتها، لذا رجاء، رجاء، المطلوب منكم هو الحدّ الأدنى من الشفقة على الشعب، والحدّ الأدنى من الوطنيّة.

اترك تعليقاً