البوصلة المفقودة في تونس !!! : أين معهد الدّراسات الاستراتيجية؟

 

بقلم : د . ابراهيم جدلة

أستاذ التاريخ ، كلية الآداب والفنون والإنسانيات ، منوبة ــ تونس

في مختلف أنحاء العالم تعتمد الحكومات والمؤسسات في سياساتها وعملها على تنبّؤات الخبراء على المدى المتوسط أو الطويل، لتكييف وتعديل ، وربما ضبط حاجياتها وأهدافها ، وتحقيق النجاحات أو تجنّب الكوارث غير المنتظرة… وعادة ما يتمّ الاعتماد في هذا على مراكز الدراسات الاستراتيجية ، إمّا الحكومية أو الخاصة  ، مثل مركز الأهرام …

أمّا في تونس فلا يوجد سوى معهد حكومي واحد تشرف عليه رئاسة الجمهوريّة، ويشرف عليه موظّف برتبة وامتيازات  وزير، والغرض من وضع هذا الموظف على رأس هذه المؤسسة ليس لتمكينه  من جراية وتوفير ” ركشة “، بل للإشراف على فرق عمل مختلفة الاختصاص للقيام ببحوث علميّة مستقبليّة حسب ما يمكن أن يكون من توقّعات في فترة  معيّنة، عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر… لكن للأسف الشديد ، ومنذ عقود وإلى يوم الناس هذا ، وربما مستقبلا حتى منتصف هذا القرن، ظل وسيظل  ” معهد الدراسات الاستراتيجيّة ” مجرّد ” معهد الركشة الأبديّة”، ما هي أسباب ذلك؟ وهل يمكن إصلاحها؟

لكي تكون التعيينات على رأس هذا المعهد مجدية، يتعيّن على من يقوم بتعين مديره، أي رئيس الجمهورية،  أن يعرف هو أولا ما هي مهام هذا المعهد؟ ماهي وظائفه؟ ما هي مزاياه؟ ولماذا نحن في حاجة إلى  هكذا معهد؟

إذا أجاب صاحب القرار، المؤتمن على مستقبل الوطن على هذه الأسئلة، فهو سيصبح مضطرّا إلى ترك الترضيات جانبا، وترك الإخوانيات جانبا ، وترك العقوبات جانبا : أحيانا هذا المركز يعتبر ترضية عقابية، أو ثلاجة كما يقال …، للبحث الجدّي والمجْدي، عن الإنسان المناسب للمكان الأنسب له، أي  عمّن يمكن أن يقدّم الإضافة على رأس هذه المؤسّسة، أي الشخص الذي يجب أن يقوم بواجبه كما ينبغي مقابل ما يحْصُل عليْه من جراية من المال العام، وقبل اختيار هذا الشخص، من الضروري طلب مشروع عمل ، أو تصوّر لهذه المهمّة يتم إعداده للغرض،  فمن لا مشروع له ، لا مشروعيّة له للإشراف على الدراسات الاستراتيجيّة: أي بوصلة الوطن، بوصلة الحكومات، بوصلة السياسات.

ليس المطلوب أن يكون صاحب المشروع نبيّا ، ولا عبقريّا ولا وحيد زمانه، بل مجرّد   شخص له من الدراية والخبرة ما يسمح له بمعرفة ما يدور حوله وحول البلاد عامّة، وله من القدرة على تنظيم فرق العمل حسب مختلف الاختصاصات، وتوجيههم نحو القضايا العاجلة والآجلة ، القضايا الحارقة والقضايا العاديّة، وخاصة نحو أهم التحوّلات التي ستعرفها البلاد على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد في شتّى القطاعات: الفلاحة، الماء، السياحة ، الصناعة، السكن، المناخ ، الديموغرافيا، التعليم ، الصحّة، الطاقة…..وغيرها كثير.

نعم لا يمكن لهذا المُكلّف بالإشراف على هذا المعهد أن يعمل بمفرده، ولا يمكنه أن ينجح بمفرده، بل يتعيّن عليه تكوين فرق تفكير وعمل تضمّ النخبة من أهل كل اختصاص، كلّ في مجاله، حسب محاور الدّراسات الاستراتيجيّة المنتظرة أو الملحّة، سيكون قائد السفينة هو الذي يشرف على عمل الفرق، هو الذي يحدّد شروط عقودها، المقابل المادي، المهام، المحتوى، آجال تقديم التقارير….كما يتعيّن عليه تكوين هيئة لتقييم هذه التقارير ومدى جدّيتها وأهمّيتها… ولخلق ديناميكيّة بحث متواصلة ومتابعة عمل هذه الفرق، يتمّ وضع رزنامة لتقديم التقارير: ورقات عمل كل ثلاثة أشهر، تقرير سنوي، وتقرير خماسي  أي  كل خمس سنوات ،  مع العلم انّ هذه التقارير  تكون مبوّبة حسب مختلف الحاجيات ومختلف القطاعات الحيّة والمظاهر البشريّة والطبيعيّة.

بعد تجميع التقارير وتبويبها ونشرها داخليّا في إطار المعهد يصبح مدير المعهد مسؤولا عنها، سواء كما جرت العادة بوضعها في درج وقبرها أو بجعلها في خدمة أصحاب القرار من وزراء ورجال أعمال ونخب مفكّرة، فالمطلوب منه ليس أن يكون عبقريّ العباقرة ، بل قائد سفينة من خلال قيادة الطاقات وتنظيمها وتوجيهها نحو أهداف تنفع البلاد والعباد.

معهد الدراسات الاستراتيجيّة، هو معهد حكومي، مصاريفه محمولة على أموال الشعب، لذا ليس من الشطط أن نطلب ممن يشرف عليه أن يكون في خدمة الشعب من خلال إفادة أصحاب القرار في سياساتهم ، وتوجيههم نحو الأفضل ،  ومن خلال خلق ديناميكيّة بحث علمي بإشراك النخب وتحميلهم مسؤولية انخراطهم في تنمية البلاد وتوجيه بوصلتها.

انتهى وقت الدكاكين المغلقة، ولا حلّ سوى بتوسيع التشارك في الرّأي وربما الموقف والقرار،  وترك الزّبونيّة جانبا مع العمل معا من أجل مصلحة البلاد.

اترك تعليقاً