د. إبراهيم جدلة ، أستاذ التاريخ ، كلية الآداب والفنون والإنسانيات ، منوبة ـ تونس
لماذا نريد الإصلاح؟
كلما توقفت ساعة الزمن في مجال ما ،أو تراجعت خبراتنا وطاقاتنا وخيراتنا ومجالاتنا الحيويّة ، إلاّ والعقل يقودنا إلى البحث عن أسباب التراجع أو الركود. وهو نفس العقل الذي يحثّنا على مراجعة أمرنا ، وإيجاد الحلول التي من شأنها إخراجنا من الركود ،أو إنقاذنا ممّا وصلنا إليه من التخلّف والتردّي. كل الشّعوب لا تتقدّم إلاّ بمراجعة تجاربها ،ومكتسباتها الفكريّة والمادية، والبحث عن أنجع وسائل التقدّم، وهو ما نعبّر عنه بالإصلاح . وعادة ما تدعونا الحاجة إلى ذلك في إطار المقارنة مع المجتمعات الأخرى، وفي إطار التنافس معها، من أجل الأفضل والأسلم والأصحّ.
وفي كل مجتمع نجد أعداء الإصلاح : سواء المنتفعين بالوضع الموجود أو من أعداء العقل والاجتهاد. فكيف نفهم أنه في الجامعة التونسيّة وفي القرن الحادي والعشرين يتقدّم مشعوذ بأطروحة حول انبساط الأرض وعدم كرويتها؟ كيف يقبل أستاذ يدرّس في الجامعة الإشراف على مثل هكذا أطروحة؟ كيف قبلت لجنة الدكتوراه هذا الموضوع؟ ألا يعرف كل هؤلاء أنّ المسعودي الذي توفي بعد سنة 346 هـ كان يقول أنّ الأرض كرويّة؟ ألم يطّلعوا على ما كتبه ابن خلدون حينما قال :إن ّالأرض كرية الشكل مثل حبّة العنب التي تطفو على الماء…
أعداء الإصلاح والاجتهاد والعقل ، لا يعرفون أنّ بناء الدولة الإسلاميّة على يد الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب ــ رضي الله عنه ــ ، كان نتيجة اقتباس ما كان موجودا لدى الفرس ( مثل الدواوين ) أو البيزنطيين؟ لقد كانت هذه الاقتباسات عبارة عن بِدَع، لكنها بِدَع أفادت الدولة والمجتمع. وقد تعاقب رجال الإصلاح والبناء جيلا بعد جيل رغم النكسات والارتدادات. وفي البلاد التونسية ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، ومحاولات إصلاح الفكر والممارسة ، تتوالى من سليمان الحرايري ، إلى خير الدين ، ثم أحمد توفيق المدني ، والطاهر الحدّاد (1899 ــ 1935)،وغيرهم كثير…
ضرورة الإصلاح
لا يفكّر في الإصلاح سوى الوطني فقط، الوطني المتألّم من تردّي الأوضاع، الوطنيّ الذي عنده غِيرة على تراثنا ومكتسباتنا ووطننا. أمّا الذين ينْبذون كل محاولة إصلاح ،ويعادون التقدّم فهم المحنّطون في نمط جامد منذ عدّة قرون، سُجنوا فيه أو سَجنوا أنفسهم فيه. وكل من لا يقبل بنمطهم يكفّرونه ويحاربونه، وحجّتهم دائما جاهزة لتفسير خاطىء أو ميثولوجي لفشلهم.
لو نعود قليلا إلى القرن التاسع عشر فقط، حين اتسعت الهوّة بين عالمنا والعالم الغربي على مستوى العلوم والتقنيات والإنتاج والمبادلات، كان الكثير من أبناء جلدتنا يحاولون فهم الآخر وفهم أسرار قوّته، ولِما لا ، الأخذ مما يمكن أن يفيدنا في حياتنا اليوميّة ، وفي مكوّناتنا الفكريّة. من بين أوائل رجال الإصلاح آنذاك الشيخ سليمان بن علي الحرايري الحسني التونسي (1824 ــ 1877)ــ ينحدر من عائلة فارسية الأصل ــ ، وكان هذا الشيخ الزيتوني يتقن الفرنسية ، ويترجم منها وإليها. وقد قام بترجمة أهم ما صدر آنذاك في مجال العلوم من الفرنسية إلى العربيّة، وكان غرضه في ذلك أن يطّلع عليها المسلمون ، ويستفيدون منها. وما يميّز الشيخ سليمان الحرايري هو قيامه بتقديم تفسيرات عقلانية ،وعلميّة لمختلف الظواهر الطبيعيّة. كما أنه أصدر العديد من الفتاوى الجريئة منها ما يخصّ عدم تحريم ” لبس البُرْنِيطة béret ,berret ,chappeau، أي : القبعة الإفرنجيّة ” ، وقد سبق في ذلك ــ محمد عبده (1849 ــ 1905) مجدّد إسلامي مصري ــ بنصف قرن بخصوص الفتوى الترنسفالية : سأله قوم من المسلمين في بلاد الترنسفال ، والفتوى جاءت ردا على مسائل مختلفة ، منها لبس البرنيطة ، وجواز أكل المسلمين من ذبائح أهل الترنسفال : فتوى في إباحة ذكاة النصارى، وعدم تحريم أكل طعامهم، اعتمادا على قوله تعالى : ” وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم ” ( سورة المائدة، الآية 5 ) …. ، ولابس البرنيطة لا يُعدّ كافرا، اذا لم يقصد فاعله الخروج من الاسلام ، والدخول في دين غيره …..طبعا ما كان على الجهلة سوى تكفيره. أمّا التاريخ فقد أنصف الشيخ محمد عبده . أمّا خير الدين التونسي (1820 ــ 1890) فكان من أجرأ المصلحين الذين نادوا علنا بتغيير المؤسسات السياسيّة استئناسا بما يقع في أوروبا، مستعرضا أفكار الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689 ــ 1755) في كتابه ” روح القوانين ” التي تنادي
بالفصل بين السلطات، وهو يميل إلى الاقتراب من نوع من الملكية الدستوريّة. بل أكثر من ذلك يبدو خير الدين مقتنعا بفكرة الأخذ عن الغرب و محاكاته في كل ما يمكن أن يكون مجلبة للفائدة. ويقول في هذا المجال “لا يتهيأ لنا آن نميّز ما يليق بنا.. إلا بمعرفة أحوال من ليس من حزبنا ” و نادى بأن “نتخيّر من الحضارة الغربية ما ينفعنا ،ولا يتنافى وشريعتنا”. وكان يرى أن النموّ الحقيقي للبلاد يخضع لشرط هام ،وهو “حسن الإمارة المتولّد منه الأمن . ويرى في نفس السياق أن التقدّم لا يتيسّر” دون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتيْ العدل و الحرية “.
وسيتواصل المدّ الفكري الإصلاحي مع بداية القرن العشرين، وكان أحمد توفيق المدني ،ــ جزائري الأصل ، تونسي المولد (1899 ــ 1983)، ـــ أحد مؤسسي الحزب الحر الدستوري، لا يتردد في الدفاع عن فكرة الفصل بين الديني والسياسي، مستلهما المثل الأوروبي ،حيث كل ما يهم المعتقد يعود إلى البابويّة ،والسياسي يعود إلى السلطات العموميّة. وهذا ما نعبر عنه بالعلمانيّة التي يحلو للجهلة ، وتجّار الدين بوضعها كمرادف للإلحاد.
نعم منذ أكثر من قرن ونصف كان كل من سليمان الحرايري ،ثم خير الدين التونسي ينادون بإصلاح الفكر والبلاد والعباد، مقابل الاستهجان والتكفير سلاح الجهلة. كما أنه منذ قرن من الزمن كان أحمد توفيق المدني ــ الزيتوني / الدستوري ــ ينادي بالفصل بين الديني والسياسي، وإلى اليوم مازال المشكل مطروحا ،والبعض يرى عكس ذلك. إلى متى سنظلّ نراوح مكاننا القرن بعد الآخر، متى سنحرّر عقولنا ونصلح وضعنا.
من المؤكّد أنّ العقل سينتصر في الأخير، وأنّ الإصلاح سيكون الحلّ الأوحد، لكن الزمن لا يرحم، والطاقات المهدورة ستزيد من ألمنا، والصراعات الوهميّة ستمثل مكابح لكلّ محاولة تقدّم. أملنا يكمن في عقلنة التعليم واستيعاب التحوّلات العلمية والتقنية الجديدة ،وإعطاء مكانة كبرى لركائز الحداثة الأساسيّة: الوقت والعمل.