اكذبوا، اكذبوا حتى نصدّقكم :

” خامري أمّ عامر ” ( عنوان ثان منقول عن الصديق خير الدين زروف )

إبراهيم جدلة

بقلم :د. إبراهيم جدلة ، استاذ التاريخ ، كلية الآداب  والفنون والانسانيات ، منوبة ــ تونس

     في ظلّ غياب البرامج السياسيّة الواضحة المعالم، وفي إطار الانتصاب الفوضوي للزعامات والجماعات التي تقوم بحرب الجميع ضد الجميع، وفي ظرفيّة يسودها الإفلاس الاقتصادي والغليان الاجتماعي،  يريد البعض نسج مشهد سياسي على المقاس يتكوّن من  أنصار الثورة وأعدائها،  من أنصار الديموقراطيّة وأعدائها. ومن ليس معنا فهو ضدنا. والعدوّ، حسب ما يسوّقون،  واضح فهو كل من هو ضد الثورة وضد  الديموقراطيّة  وبالتالي يجب القضاء عليه.

     لعلمكم أنّ الثورة التي نتحدّث عنها، هي تراكم اجتماعي وفكري وسياسي امتدّ من ستينات القرن الماضي إلى حدود 2010، تتالت فيه المحطّات السياسيّة وتواترت الهزّات الاجتماعيّة (1962 ، 1968، 1978، 1980، 1982، 1987، 2008، 2010 ) ونشطت فيه  المجموعات السياسيّة وتنوّعت التحاليل الإيديولوجيّة….ما حدث في نهاية 2010/2011 هو نتاج لكل الزخم السابق، وللتذكير فقط،  ألم تسمعوا بذاك الرجل الذي  صاح ذات يوم: ” لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة  التاريخيّة”؟

     لا أحد يمكنه أن يشكّك في هذا المسار النضالي أو السياسي لمختلف مكوّنات المجتمع التونسي بمختلف أجياله.  لذلك نحن جميعا نتفق  أنّ النظام القائم سنة 2011 قد اختفى كلّيا ولن يعود أبدا، ولن يأتي  أي نظام حكم يشبهه.  إلى هنا  لا يختلف  جميع الفاعلين في الساحة السّياسيّة، ولا مجال لخلق ثنائيّة وهميّة  تتكوّن من أنصار الثورة ومن أعدائها. وكل من يرى غير ذلك مطالب بتوضيح من هم الأنصار؟ ومن هم المعادون؟ وخاصة كيف يمكن أن تكون ضد شيء قد أصبح من الماضي، والأمر قد قُضي. العداء للثورة أصبح شعارا مبتذلا، فمن لا يشاطرك رأيك أو شطحاتك أو عمالتك هو عدوّ لك أنت وليس عدوّ للثورة. أضق إلى ذلك،  لا شيء يثبت أنّك أنت الثوري والمدافع الشرس عن الثورة، ونحن نعرف أنك تدين بالولاء لإمارة ما خارج الوطن، لا علاقة لها بالديموقراطيّة،  أو لمهرّج ما يدّعي أنه خليفة المسلمين، ولا علاقة لك بوطن اسمه تونس.

     نعم لقد سقطت المنظومة القديمة وجاءت منظومة جديدة، وفّرت، وضمنت  للجميع حرّية التعبير والتنظّم، والتملّك، والغزو، والنهب، والكذب…. والجميع، وخاصة فقاقيع الإعلام والسياسة،   استفاد من ذلك ولا أرى ولم اسمع على الإطلاق بأحد عبّر عن رأيه أو تحرّك ضدّ الحرّيات الأساسيّة أو الافتراضيّة أو العدائيّة…كلهم  قابلٌ بهذه الديموقراطيّة. ومن حقّنا أن نتساءل اليوم من هم أعداء الديموقراطيّة: هل هم دعاة الخلافة السادسة؟ أم جماعة إعلام  ” المجاري ” ؟ أم كلّ من يخالفك الرأي أو الفكرة ؟ أم هم المغيّبون من كل المشاهد؟  كذبة أخرى تنضاف لصالح الذين اختلسوا انتفاضة أبناء  السباسب واستثمروها لسلب البلاد والعباد. 

      أبناء الوطن الحقيقيين  يرون أنّ الثورة هي التقدّم إلى الأمام: اقتصاديّا وسياسيّا واجتماعيّا وعلميّا وفكريّا ولا شيء غير ذلك. الثورة هي احترام الفرد والوقت والعمل. وما بعد الثورة هو البناء والإنجاز والابتكار . ما بعد الثورة  هو النجاح في تطوير الأنظمة التعليميّة والصحّيّة والاجتماعيّة. ما بعد الثورة لا يقتصر على محاربة  ” أعداء الثورة ” بل يتجاوز ذلك بالإنجازات، وبإقناع الفقراء بأن وضعهم تحسّن، وبإعطاء الأمل لمن لا عمل له بأنّ غده سيكون أفضل، بتوفير الأمان للمستثمرين لكي يخلقوا الثروة…. ما بعد الثورة ليس الغرق في الديون، وغلق المعامل، والسمسرة بمقدّرات البلاد، والقضاء على كل مكتسبات دولة الاستقلال ونفيها. ما بعد الثورة ليس سوقا لبيع الأوهام بل محطّة هامة للبناء والإنجاز في ظل تنافس شريف، تكون فيه قيادة البلاد للأفضل والأجدر والأنظف. ولا شيء غير ذلك.         مرّت عشر سنوات والفشل يراكم الفشل، ولا شيء ينبأ  بغد أفضل، تبخّرت الوعود والأحلام ، وسقطت شجرة التوت عن أنصار الكذب والبهتان، ولكي يفسّروا فشلهم ظلّوا يبحثون عن طواحين الرّيح أسموها أعداء الثورة وأعداء الدّيموقراطيّة، أمّا الذين يعتبرون أنفسهم أذكياء فقد اختلقوا كذبة أكبر، ربما يصدّقها الجمهور. ففي الأيّام الأخيرة كثيرا ما ردّد البعض بأنّ الثورات لا تنجح إلاّ بعد مدّة طويلة والبعض يستشهد بالثورة الفرنسيّة وغيرها. أيّها الأغبياء بعد قيام الثورة الفرنسيّة بعشر سنوات فقط احتلّ نابليون نصف أوروبا واحتلّ مصر. أين ترون الفشل ؟  بعد ثورة القرنفل في البرتغال بعشر سنوات، أصبحت هذه الأخيرة عضوا في الاتحاد الأوروبي ( 1986 ). لا تبرّروا فشلكم بتزوير التاريخ، اليوم وفي عصر سرعة انتقال المعلومة والفكرة والأشخاص والبضائع، ورقمنة الاقتصاد، عشر سنوات هي مدّة طويلة ولا شيء يبرّر فشلكم المتواصل ولا الكرامة المواطنيّة تسمح لكم  بمواصلة استحمار شعب بأكمله. الثورة الحقيقيّة هي أن تقرّوا بفشلكم وأن تكفّوا عن الكذب لأنّ  تونس الإصلاح والحداثة ستبقى عصيّة عليكم . اقرأوا كتاب : ” أقوم المسالك  ” لخير الدين التونسي وستفهمون الكثير ممّا غاب عنكم.  وربّما، إن كانت لكم القدرة على ذلك،  ستعُون فعلا بأنّ المعركة اليوم هي بين أنصار الوطن وأعدائه، وما عدى ذلك فهو مجرّد هراء. إمّا أن تكونوا مع تونس الوطن والأمل ,إمّا فأنتم الأعداء الحقيقيين والفعليين للثورة وللديموقراطيّة.

اترك تعليقاً