استحقاقات سنة 2024 … والفوضى … المدمّرة !!!

بقلم د. إبراهيم جدلة

كلية الآداب والفنون والإنسانيات ، منوبة ــ تونس

أتحدّث عن سنة  2024، لأنّ من يريد إنقاذ تونس عليه من الآن التفكير في استحقاقات سنة  2023 ( البلديات ) وسنة 2024 ( الرئاسيّة والبرلمانيّة ). اليوم ليس لدينا أيّ حلّ تنموي أو اقتصادي لحلّ مشاكل البلاد ( فهذا بعيد المنال حاليّا )، مشكلتنا الأساسيّة هيّ سياسيّة. والحل سيكون سياسيّا قبل كل شيء. نعم  من الضروري أن يتولّى الوطنيون مقاليد السلطة، ولن يكون ذلك سوى بالاستعداد للانتخابات المقبلة.

     سأنطلق من كذبة المائتي حزب لكي أقول للمرّة الألف أنّه لا يوجد في الساحة السياسيّة الوطنيّة بصفة فعليّة سوى عشرة أحزاب فقط، أمّا البقيّة فقد اندثر واختفى.  ومن أوكد المطالب الآن، استدعاء رؤساء هذه الأحزاب الصّوريّة أو التي اختفت بمحض إرادتها، والاتفاق معها نهائيّا على المواصلة أو القيام بحلّ نفسها، وبالتالي توضيح وضعها القانوني. مع العلم أنّ ما لا يقل عن مائة وتسعين حزبا قد اندثر قانونيّا بحكم أنّ المسؤولين عنها لم يقوموا بالتصاريح اللازمة ولم يقوموا بتسوية  أوضاعها القانونيّة. ما تبقى بصفة فعليّة على الساحة لا يتجاوز عشرة أحزاب، وهو عدد كاف لحياة سياسيّة سليمة  ، ولا يشكّ اثنان في أنّ العمل الحزبي والتنظيمي هو أساس العمليّة الديموقراطيّة. كل هذا جيّد لكن ما يسود الرّأي العام بصفة عامة هو تفخيم عدد الأحزاب، وشيطنة هذه الأحزاب، وترذيل العمل التنظيمي، والنفخ المتواصل  في ظاهرة الاستقلاليّة.

    ظاهرة الاستقلاليّة، هي قديمة جديدة، ومنذ عدّة عقود، كان العمل التنظيمي ولا يزال ‘ مُكْلفا من حيث الوقت والمال والعائلة والأمان السياسي (تجنّب  التتبّعات )، لذك يلتجأ البعض إلى التحيّل والمتاجرة بالنضال، فتظهر علينا من حين إلى آخر بعض الزعامات التي تدّعي أنّها مستقلّة، وهدفها الأساسي هو خدمة القائم بالأمر وعدم دفع ثمن الانتظام، فهي تريد الزبدة وثمن الزبدة، وطبعا إرضاء كل الأطراف بما في ذلك صاحب السلطة. اليوم أصبحت الاستقلاليّة سرطانا ينخر العمل التنظيمي ويقلّص من حظوظ الأحزاب في الجهات  باستقطاب نسبة من الناخبين المتردّدين أو الذين تستهويهم الولاءات القبليّة أو المصلحيّة. وليس للمترشحين المستقلّين ما يبرّر ذلك التدافع نحو الترشّح سوى  الاستجابة لحالات مرضيّة تتمثل في  نرجسيّتهم.  وقد أصبح من الضروري على الوطنيين الحقيقيين الابتعاد عن هكذا ممارسات، بل يتعيّن عليهم محاربة هذه الظاهرة.

    ماذا بقي لنا على السّاحة؟ لايهمّني الحديث هنا عن الأحزاب الحاضرة في البرلمان، بل سأتحدّث عن ” شتات الأحزاب ” الوطنيّة والدّيموقراطيّة، وعن الشخصيات الاعتباريّة، وعن المناضلين القاعديين الذين ظلّوا لا حول لهم ولا قوة، فاقدين لكل بوصلة توجّههم ولكل قوّة توحّدهم. إلى متى الهزائم المتكرّرة واليأس والإحباط وشتم الآخرين دون مبرّر، نعم دون مبرّر لأنّ المرض داخلي ولا يمكن معالجته باتهام الآخرين باكتساح الساحة. فذلك من حقّهم، وعليكم تجاوز الأمراض الفكريّة والتنظيمية المعيقة لتقدّمكم بقواكم الذاتيّة.

   منذ سنة 2011، لم نسمع بحزب واحد، قام بتقييم تجربته الذاتيّة ونقدها بالسلب أو الإيجاب. كذلك رغم أنّ الخارطة الانتخابيّة ( نتائج آخر انتخابات ) متوفّرة للجميع ولا مجموعة واحدة انعكفت عليها لدراستها وفهم مكامن القوّة أو الضعف الذي كان سببا لهاته النتيجة أو تلك.

     ففي كل موسم انتخابي (  مرّة في كل خمس سنوات ) وقبل الموعد بشهر واحد تُشْحذ العزائم والهمم ويتم إطلاق مشروع توحيدي  ( انتخابوي ) سرعان ما يتبخّر بسبب عدم الاتفاق على القائمات، وبسبب الزعاماتيّة المقيتة، والأنانيّة المفرطة، وسراب امتلاك الحقيقة …..ولم يتساءل أحدهم يوما : ما أهمّية هذه الزعامة عندما تكون النتيجة التي حصلتُ عليها أو سأحصل عليها لا تتجاوز 0.1، ….؟؟

    ألم يكن من الأجدر ترك هذه الزعاماتية جانبا، والبحث في سبل النجاح الفعليّة بعيدا عن الشعارات الجوفاء والأوهام المضلّلة، والعمل على تجاوز هذه الفوضى المدمّرة. لسنا هنا بصدد إعطاء دروس لأجيال من المناضلين، بل يحرّكنا هاجس الخوف على مستقبل الوطن، وإرادة الدّفاع عن مجتمع متحرّر وعن فكر نيّر. وتساؤلاتنا ستبقى مثلها مثل التساؤلات المشروعة لبقيّة الطيف السياسي، مجرّد مقترحات بنّاءة من أجل غد مشرق وتونس أفضل.

    على مختلف الكيانات السياسيّة التي أعنيها، أن تشرع في تقييم قدراتها وحضورها وانتشارها في مختلف أرجاء البلاد.  الاختلاف في الأفكار والبرامج لا يمكن أن يكون عائقا دون  الاتفاق أو التوافق حول حدّ أدنى، القاسم المشترك الذي يمكن أن يجمعنا، الذود عن الاستقلاليّة الفعليّة للبلاد، الدفاع عن الحرّيات الأساسيّة، والفصل الفعلي بين السلطات. 

للأسف الشديد نعرف أنّ العديد من الأحزاب لا تملك برامج وليس لها رؤيا عن المستقبل، عمّا تريد: هل تريد السلطة أم خدمة الشعب والوطن؟ وأحيانا هي عاجزة بمفردها عن نشر أفكارها والتعريف ببرامجها. مع التأكيد أن هذه الأشكال النضاليّة  لا يمكن أن تكون مقتصرة على  الحملات الانتخابيّة فقط، بل من الضروري أن تكون عملا  يوميّا  وطيلة  السنة.

والمطلوب الآن، وبصفة عاجلة هو الشروع في قراءة للجغرافيا السياسيّة من خلال آخر انتخابات، ومحاولة كل طرف القيام بتقييم لقدراته وحضوره. وعلى الجميع أن يتساءل: ماذا يمكن أن نفعل؟ وماهيّ الحلول الممكنة؟ وهل يوجد عائق  دون أتّحاد القوى الديموقراطيّة؟

ما يمكن تأكيده أنّ  شتات الديموقراطيين يلعب ضدّ الوقت، الوضع لا يستدعي التسرّع لكنّه لا يقبل الانتظار. من المؤكد أن مجرّد الدخول في نقاشات جدّية سيخلق ديناميكيّة سياسيّة تهمّ كل أرجاء البلاد. لذلك أقول أنّ المبادرات الجدّية تبدأ اليوم، والنقاشات تبدأ اليوم،  والصراعات والاختلافات  تبدأ اليوم ، اليوم يبدأ الاستعداد لاستحقاقات سنة 2024،

وكفى بكاء على الأطلال. سؤالنا الأخير: هل يوجد فعلا وطنيّون قادرون على تجاوز هذه   الفوضى المدمّرة !؟ .

اترك تعليقاً