بقلم د. إبراهيم جدلة
أستاذ التاريخ ، كلية الآداب والفنون و الانسانيات ، منوبة ــ تونس
طُرْطُورْسْتَان هي ” جمهوريّة ” ( أي يحكمها جمهور الغوغاء، لذك وضعتها بين ظفريْن) تقع في شمال إفريقيا. وأنت تبحث عمّن يحكمها أو من يقرّر مصيرها فيضنيك التعب ولن تجد جوابا مقنعا. منذ عشر سنوات، تعاقبت على حكمها جماعات ومجموعات بصفتهم أهل قرار، لكن لا نكاد نعرف من هم؟ وكيف أتوا؟ وماهيّ برامجهم؟ وماذا أنجزوا؟
مرّ الجميع مرور الكرام، بقلّة خبرتهم، وربما بشهيّة كبيرة للسلطة والثروة لكي لا نقول بفسادهم. كلّ لا يملك سوى الوعود الكاذبة التي يطلقها كلما اشتدّ ضغط الشارع، دون اعتبار قدرة الدولة على تحمّل أعباء هذه الوعود. كان الأهمّ بالنسبة إليهم هي اللحظة، لا غير. شعارهم دائما: ” اليوم خمرٌ وغدا أمرٌ “، وبما أنّ الطراطرة أو المسؤولين الطرطوريين لا يعمرون طويلا في السلطة، فقد تراكمت طلبات الأفراد والجهات، ووافق ذلك تراكم وعود ليس من السهل تحقيقها، التزم بها الطراطرة وأمضوها باسم دولة ” طرطورستان “. ونحن اليوم في هذا البلد الآمن والأمين، نعيش تبعات هذه السياسات الانتهازيّة التي كانت دوما نتاج قلة الخبرة والجبن السياسي والجشع. اليوم لم نعد نتحدّث عن الأيادي المرتعشة بل عن زلزال ” الكاموريات ” التي انتشرت على كل شبر من البلاد مهدّدة بإحراق الأخضر واليابس. لم تعد مهمّة المسؤولين أو ” المسهولين “، تسيير دواليب الدولة بل محاولة إطفاء الحرائق وإيجاد أجوبة وحلول لمطالب مشروعة، سبق لدولة طرطورستان أن التزمت بتحقيقها. فلم تعد مهمتهم الدفاع عن هيبة الدولة وتحقيق الرفاه الاجتماعي والنمو الاقتصادي، وحماية المكتسبات الاجتماعيّة التي ضحّت من أجلها الأجيال السابقة والمتمثلة في تطوير التعليم العمومي والصحّة العموميّة والمحافظة على الصناديق الاجتماعيّة…..بل اقتصرت مهامهم على التفكير في إيجاد حلول لهذه الأزمات التي ما انفكّت تتعمّق.
أمام هذا الوضع المأساوي، نتساءل بكل تجرّد، هل من حلّ ممكن؟ هل بإمكاننا الخروج من هذا النفق المظلم؟ لا نشكّ في جدارة وجدّية السيّد المشيشي الذي حُمّل مسؤولية فشل كل الذين سبقوه. لكن أمام كثرة الانتظارات هل من بريق أمل؟
اليوم كلّ الرياح تجري ضد إرادة السفن. صراعات عقيمة داخل البرلمان. محاولات لتعطيل مشروع الميزانيّة، وبالتالي ابتزاز الحكومة. صراعات واتهامات خطيرة داخل جسم القضاء. محاولات اختراق المؤسسة العسكريّة العتيدة. محاولة بعض الأطراف تحييد كل من يحاول محاربة الإرهاب بجدّية وخاصة قوات الأمن الداخلي. العجز التام عن التحقيق في كبرى الجرائم ضد الوطن والمواطن، وعدم القدرة على محاسبة المتورّطين ولو في تدليس الانتخابات…. هذه هي ” طرطورستان “، الصوملة البطيئة للدولة والمجتمع، أمراء الحرب والجريمة يصولون في كل شبر من وطننا العزيز، ولا رادع لهم.
ماذا ننتظر من كيان، يقوم فيه وزير الخارجيّة بتصريح أو بتفسير منطقي حول علاقة تونس بالاتحاد الإفريقي، فيأتي التكذيب مباشرة من ناطق باسم الرئاسة، أهكذا تُدار الدول والسياسات، إنهم يظنونها ” لعب حوم ” . نحن في تونس ولسنا في صوماليلاند. وبكل أسف، هذا ممكن عندما يعترضك شخص صدفة، فيتم تعيينه وزيرا ، وبعد مدّة تتخلّى عنه دون تفسير. الأمور لا تساس بالأهواء ولا بالولاء، يا أولي الألباب.
كل شيء ممكن في طرطورستان، فحين تخرج علينا هيئة قضائية عليا وتفضح الممارسات الخاطئة في الانتخابات الأخيرة وهو ما يدعو إلى إسقاط بعض القائمات، ولم يتحرّك أي ّصوت رسمي لإبداء الرأي، أو للإعلان عن موقف، فاعلم أنّ هيبة الدولة واحترام القوانين واستقلاليّة القضاء، كلها ذهبت أدراج الرّياح. والمجال مفتوح لأصحاب النفوذ المالي أو المعنوي أو الفئوي… لكي يستولوا على أكثر ما يمكن من صلاحيات الدولة، وهو ما يؤشر لا بضعفها فقط بل باندثارها….فهي في نهاية الأمر ليست سوى طرطورستان.
في طرطورستان، يصعب التكهّن بالمستقبل، فالسياسات مرتجلة، والأيادي مرتعشة، والصمم أصاب ” الطراطرة ” إلى حدّ أنهم لا يسمعون سوى ذواتهم وأصواتهم، ولا أحد يملك شجاعة قول الحقيقة، ولا أحد له القدرة على تحمّل مسؤولياته في السلب أو الإيجاب، مزيج من طبيعة الذئب والنعامة والضبع. وإن كنّا لا نشكّك في نظافة ونزاهة الكثير من المسؤولين لكن ذلك غير كاف. اليوم على الكل أن يتحمل مسؤوليته، بالتطرّق إلى كل المسائل الحارقة بكل شجاعة، وبمصارحة الشعب بواقع الاقتصاد والعلاقات مع الجيران. كما يتعيّن على الجميع العمل سويّا من أجل إنقاذ ما بقي من الدولة، التي لم يبق منها الكثير.
طُرْطُورْسْتَان تجسّد الرداءة في أبشع مظاهرها، غموض السياسات، والتطبيع مع الإرهاب والتهريب والفساد، تفكيك الأنسجة الاقتصاديّة الفعليّة أو نقلها تحت رحمة الأثرياء الجدد. لا حلول في الأفق القريب، فقط أضواء حمراء تشتعل في كل مكان وفي كل مكمن، والصمت السلبي المتواصل يعلن صراحة أنّ الرداءة تتقدّم بخطى حثيثة، والقاعدة تقول إن لم تتصدّى للرداءة فهي تكتسح الساحة، ونحن الآن أمام معادلة صعبة، معادلة لا بدّ من فكّ إشكالاتها: إمّا الرداءة أو الوطن. إمّا طرطورستان أو تونس.