كلمة رئيس التحرير : د . الهادي غابري
اختلف المؤرّخون في تصنيف الثورة التونسية ، وتفاوَتوا في إطلاق المصطلحات عليها ، ولكن لم يخلصوا إلى مصطلح موحّد ، فنجد مصطلح : ثورة ، ربيع عربي ، انقلاب ، انتفاضة ، تمرّد ، هَبّة ، عِصيان ، هيَجان ، خَطْرة ، هَرَج ، دقّت طبول الحرب ، فُزُوع …، و يؤرّخون الأحداث العنيفة بعام الفُزُوع …، وبادرت كبرى الجامعات في العالم بتدريس هذه الظاهرة الثورية النوعية مكانا وزمانا ، هي ظاهرة ثورية سلمية ، فجائية دون قيادة ، ودون برنامج ، أبهرت سكّان المعمورة ، و كَسَرت الثوابت السياسية الجامدة في بلدان الربيع العربي ، وخاصّة أنّ الجيش التّونسي قد التزم الحياد ، فحمى الثورة و الثّوار، والممتلكات العامة والخاصة ، وهي ظاهرة فريدة ، ونوعية لافتة في تاريخ الأنظمة العربية المستبدّة التي تسخّرـ عادة ــ الجيش للبطش بمواطنيها ، ولا تسخّره ضدّ العدوان الأجنبي الخارجي ، حظي الجيش التونسي ــ خلال الثورة وبعدها ــ باحترام شعبي قلّ نظيره في تونس وخارجها .
تلقّفت البلدان الاستعمارية الغربية الحدث محاولة تطويقه ، و انقاذ بعض وكلائها ملوكا ورؤساء بالبلاد العربية : مدّهم بالسّلاح والمعلومات ، لكن كان هدير الشّارع العربي أقوى رافعا شعار “الشّعب يريد إسقاط النّظام “، وهو شعار مُستَلْهَم من رائعة : قصيدة «إرادة الحياة »للشاعر التونسي ، ابو القاسم الشابي (1909 ــــ 1934) .
إذَا الشَّعْبُ يوْما أرَادَ الحَيَاة *** فلا بُدَّ أن يسْتجيبَ القَدَرْ
و لا بدّ َللّيل أنْ ينْجَلِي *** ولا بُدّ للقيْدِ أنْ ينْكَسِرْ
ومن لم يُعانقْه شوقُ الحَيَاة *** تَبَخّرَ في جَوِّها وانْدَثَرْ
فويْل لمنْ لم تَشُقْه الحَيَاة *** مِنْ صفْعَة العَدَم المُنْتصِرْ
كَذلكَ قَالتْ لِي الكَائِنات *** وحَدّثَني رُوحُها المُسْتَتِرْ
تجاوبــت مع الشــعار كل البــلدان العربية المقــهورة ، وانصهرت فـئات الشباب و المسحوقين في بوتقة واحدة هادرة ، غايتها إزاحة الاستبداد السياسي العربي حيث كان : الاستبداد وحَّد المقهورين، فنهضوا ضدّ الفاسدين فَيَضانا جارفا .
الثورات ــ عبر التاريخ ــ تُؤَرَّخُ ببِداياتها ، ولا تُؤَرَّخُ بنِهاياتها ، وأعني بذلك أن تاريخ 17 ديسمبر 2010 ، هو التاريخ الحقيقي ، والصحيح ، والقانوني ، والأخلاقي ، الموجب تثبيته عيدا وطنيا تونسيا ، يُحتفل بذكراه سنويا ، باعتبار أن ذلك التاريخ هو الحاضن للشّرارة الأولى لانفلاق صبح ثورة الكرامة والحرية ، بعد سنوات الاستبداد والجور بتونس .
أمّا تثبيت تاريخ يوم 14 جانفي 2011 عيدا وطنيا تونسيا ، فهو مغالطة ومخاتلة وانقلاب التاريخ على التاريخ ، إذ التاريخ الآنف ، هو تاريخ تهريب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (1936 ــ 2019)ــ الى المملكة العربية السعودية ــ لحمايته كي لا يلقى مصيرا مريعا على أيدي الثّوّار ، ويعني تاريخ يوم 14 جانفي : نهاية الثورة ، وهو تثبيت قصْدي رسَمه ، وخطّط له فقهاء الظلام ــ دينيون ، وعلمانيون ـ بتونس وبالغرب الاستعماري ، بهدف إضفاء صفة القداسة والمباركة على هذا العدد 14 الذي هو مبارك في دولة الكيان الصهيوني باعتبار يوم 14 ماي هو العيد الوطني لنشوء دولة الكيان الصهيوني سنة 1948 ، طمسا لدولة فلسطين القائمة آنذاك ، وكذلك هو، عدد مبارك لدي الفرنسيين ، إذ هو العيد الوطني الفرنسي الموافق لــ 14 جويلية سنة 1790.
جهات أجنبية معادية للثورة التونسية ، عملت على تثبيت العدد 14 عيدا وطنيا بتونس ، وفق مرسوم رئاسي بتوقيع الرئيس المؤقت فؤاد المبزع (1933 …) رمز أنظمة الاستبداد ، بغية تحقيق التبعية التاريخية لكل من العدو الصهيوني ، والمحتل الفرنسي ، وهو مرسوم مجانب للصواب ، و يُمْكن لأيّ مواطن تونسي دافع للضّرائب تقديم مطلب بهدف إلغائه استعجاليا من خلال رفع دعوى شعبية لدى الرئيس الأول للمحكمة الإدارية بتونس .
تمّ استبعاد يوم 17 ديسمبر 2010 من الذاكرة الجماعية لأنّ للعدد 17 مضامين دينية اسلامية ومنها : عدد الرّكعات في الصلوات الخمس ، هي 17 ركعة ، وعدد حروف البسْملة هي 17 حرفا ، وعدد الغزوات الاسلامية النّاجحة لبعض البلدان عددها 17 غزوة .
رغم قدسية العدد 17 ومرجعيته الدينية الاسلامية ، لا يمكن التأكيد بأن انطلاق شرارة الثورة التونسية المعاصره ، هي ذات مرجعية دينية اسلامية ، بل اقترن العدد 17 مصادفة بحدث احتراق الجسد مُشْعِلِ لهيب الثورة في تونس وغيرها من نظم الاستبداد العربية .
عشر سنوات عِجاف وسَمَت الثورة التونسية السلمية ــ منذ انطلاقها يوم 17 ديسمبر 2010 ــ أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، إثر اضرام النّار في جسده المرحوم بائع الخضار طارق بن الطيب بن محمد البوعزيزي (1984 ــ 2011)احتجاجا على المسّ من كرامته ، ومصادرة رزقه من قبل أعوان تراتيب البلدية ، و تلاسُن مُهين ــ وقيل عنف مادي ــ نشبَ بينه وبين عون التراتيب فادية حمدي كريمة الطاهر حمدي ، ومهنته : بوليس سياسي بمنطقة سيدي بوزيد .
تعاطت سلط الجهة مع الحدث باستخفاف وسخرية ، واحتقار ، وكذلك السلطة المركزية بقرطاج تعاطت معه بشماتة ، معتبرة الحدث عابرا ، وتافها ، لا أثر له ، وفورا ، احتقرت السلطة الشّاب الضّحيّة المُحْتَرِقَة ، و أصرّت على مطاردة ، ومحاصرة المحتجّين بالمكان ، مغْلظة هراوتها تهشيما لعظام الثوار، فاتحة عليهم فوهات الغاز الخانق ، مطلقة فيهم أنياب الكلاب نهْشا ، وعمّ التّمرّد كامل البلاد ، وزحف إلى العاصمة ، ، صعّدت السلطة المركزية بقصر قرطاج في التّرويع و التّقتيل، والتشريد معتبرة الثوار صيدا تتسلّى بهم إلى حين ، لكن حَدَث العكس : صاد الثوّار السّلطة المرتعشة ، وهُرّب الصّياد الخائب الرئيس المخلوع إلى المملكة العربية السعودية يوم 14 جانفي 2011 .
تصاعدت وتيرة الثورة ، إثر نداء الفُزُوع ، ودَقِّ طبول الحرب في تقاليد وثقافة القبائل العريقة ، كان الفُزُوع تلقائيا ، فهبّـت مدينة القصرين جارة سيدي بوزيد وحليفتها تاريخيا في انجاز الثورات ومنها : ثورة علي بن غذاهم : ربيع العربان ــ قبيلة ماجر و حليفتها قبيلة الفراشيش ــ سنة 1864 ، وثورة عرش أولاد عزيز من قبيلة الهمامة ، سنة 1870 ــ 1875 القاطنة بسيدي بوزيد وقفصة حتى تخوم بلاد الجريد.
نهضت ثورات ــ خلال القرنيْن الثامن عشر، والتاسع عشرــ ضدّ جور البايات الأتراك الفاسدين ، و نهضت نُسَخَها في القرن الحادي والعشرين من سنة 2010 ضدّ سلطة الفاسدين المستبدين بتونس ، وكانت قد خلّدت مآثر ثورات القرنيْن الآفِليْن المرأة الشّاعرة الشعبية العزيزية بقولها :
أوْلادْ عَزيزْ أعْطُوا نْهارْعْلَى ذْرَارِيكُم ْظنّي***مْخَازِنْكُمْ فَرْغَتْ وِ مْكَاحِلْكُمْ بِرْدَتْ
قَايِدْ هَا يْقَيّدْ قِيدَكْ *** رَاهُو وْلِيدِي كِوِلِيدَكْ
وْلِيدَكْ فَايِتْ بِالكُبْرَه *** وْلِيدِي فَايِتْ بِالرُّجْلَه
يَا حَاكِمْ لاَ دُونِكْ حَاكِمْ *** يَا حَاكِمْ الحُكَّامْ
إذا حْكَمْ عْلِيكْ الحَاكِمْ *** لاَ تْدُومْ أنتَ وَلاَ الخُدَّامْ
واجه شباب أولاد العزيز ،بطش عسكر الباي رغم قلّة السّلاح ، ولم يستسلموا ، استنهضت المرأة العزيزية الهمم محرّضة على الأخذ بثأر الذّراري : أي أبناء أولاد عزيز المغدورين ، متسائلة حول صلوحية ، أو عطب قد عطّل سلاح أولاد عزيز؟ ، وفي الآن نفسه تقارن بين وْلِيدْهَا ــ تصغير لكلمة وَلَد ، للتّعظيم ــ وَ وْلِيدْ القايد التركي ، فبيّنت الفرق بينهما ، فوَلدُها يتفوّق على وَلَد القايد بالرُّجولة ، وهي قيمة معنوية لا تُشترى ، في حين يتفوّق ولَدُ القايد على ولَدِها بحيازة منصب في السلطة التركية ، قد اشتراه بإذلال كرامته ، وتعني الشاعرة بذلك الحطّ من قيمة ولد القائد ، المنتمي إلى كبراء الموظّفين ، نخبة فاسدة من طينة خاصة ، قرّبها الحاكم التركي ، ومتّعها بالمنصب الوظيفي لتدوس الآخرين ، إلاّ أنّ الشّاعرة تخْلص إلى حكمة ، أو موعظة تذكّر فيها الحاكم التركي بأنّ في الوجود حاكم أعلى : وهو الله ، الحاكم الوحيد الخالد ، ذو القدرة على الحكم بفناء الحاكم التركي وخدمه.
وتَلت الثّوراتِ ضد سلطة الأتراك ، ثوراتٌ أخرى بالجهة ، قادها ثوار وطنيون تلقائيون ، بارعون في إدارة حرب العصابات ، كَسرت شوكة الاستعمار الفرنسي إبان دخوله البلاد التونسية ، أو أثناء وجوده الفعلي العسكري حتى رحيله .
وفي دولة الاستقلال التونسية سنة 1956 ، كُوفئ الوطنيون في الجهة ــ وهم المخدوعون ــ : بتوظيف بعضهم في خطط العسَسِ المنبوذة ، أو في وظائف حقيرة تمْييزا لهم ، في حين تسنّم خَونة ــ لهم أياد بيضاء على فرنسا ــ من جهات معيّنة مناصب عليا نافذة في السلطة ، عاد الوعي لبعض الوطنيين في كامل البلاد التونسية ، ، وتأكد لهم بأنهم كانوا بقرة حلوبا، قد نزف ضرعها دما من كثرة الحلب ، وتأكّد لهم ــ أيضا ــ أنّهم كانوا وقودا غَنِمَ دفْأه أوْغاد ، اعتلوا كرسي السّلطة الهزّاز بتونس بعد الاستقلال ، وبسبب ذلك نشطت المعارضة السّرّية ، والعلنية ــ القانونية الكرتونية ــ ، ضد سلطة المجاهد الأكبرــ صفة دينية أطلقها على نفسه ــ الحبيب بورقيبة (1903 ــ 2000) و بعده ،ــ صفة المنقذ دينية ــ أطلقها اليسار الشيوعي والقومي ــ على زين العابدين بن علي (1936 ــ 2019) كانت المعارضة ضد النّظامين متأرجحة بين السّلمية والمسلّحة .
ثورة 17 ديسمبر 2010 إحدى الحلقات النّادرة في تاريخ الثورات العالمية ، هي ثورة سلمية تونسية ، دون قيادة ، دون برنامج ، : ثورة تلقائية ، أجّجها شاب فرد أعزل بجسده المحترق تناقلته وسائل الاعلام بسرعة فائقة ، وقد نقل صورة الاحتراق الدائرية صحفي محترف مجهول ــ إلى اليوم ـ قد يكون صحفيا حربيا … من هو؟ ، هل هو تونسي ؟ أم هو وافد أجنبي ؟ ما هي جنسيته ؟
أصبح المكان سيدي بوزيد مكانا تاريخيا حاضنا لحدث ثوري نوعي غيّر الخريطة السياسية العربية ، بسقوط نظام الفرد ، المطلق ، المستبد : العسكري في زيّ مدني : المُنْقِذ ، زين العابدين بن علي بتونس ، وسقوط صاحب البزّة العسكرية ، وصاحب لباس ملك ملوك افريقيا ، القائد العقيد معمر القذافي (1942 ــ 2011)بليبيا ، وسقوط نظام الفرعون ، العسكري الفريق حسني مبارك (1928 ــ 2020) بمصر، وسقوط نظام العسكري العقيد علي عبد الله صالح (1947 ـ 2017) باليمن ، وبداية سقوط المملكة البحرينية بسبب احتجاجات طوائف الشيعة المدعومة من ايران ، تمّ اجهاض الثورة بالبحرين إثر تدخل القوات العسكرية السعودية ، وقد تمّ القضاء على الاحتجاجات أيضا بسلطنة عمان ، و ما تزال الثورة السورية ضحية منازعات دولية ، هُلك فيها خلق كثير، وشُرّد ملايين السوريين ، كانت تلك هي حالة موجة ثورة الربيع العربي الأولى ، وتلتها موجة ثورة الربيع العربي الثانية : أسقطت نظام العسكري ــ في زيّ مدنيّ ــ المقاوم للاحتلال الفرنسي سابقا ، عبد العزيز بوتفليقة (1937 ــ 2020)بالجزائر ، وأسقطت العسكري ، الفريق عمر حسن البشير(1944 …) بالسودان ، وهو قابع ــ الآن ــ في السجون السودانية للمحاكمة ، وحاولت الموجة الثانية من الربيع العربي اسقاط العسكري ، الفريق عبد الفتاح سعيد خليل السيسي (1954 …)المنقلب على الشرعية ، واغتصابه السلطة في مصر بواسطة العسكر ، ومساعدة امريكية ــ صهيونية ، فتمكّن السيسي من اجهاض أول حكم مدني منتخب ديمقراطيا بمصر يرأسه الراحل ، محمد محمد عيسى مرسي العياط (1951 ــ 9019) ، ومن ثمّة تأبيد حكم العسكر المستبد بمصر لخدمة مصالح الغرب بالمنطقة العربية ، وأمّا الموجة الثانية من الربيع العربي ، حاولت اسقاط نظام العسكري الفريق ميشال نعيم عون (1935 …)بلبنان ، غير أن جائحة كورونا كانت حائلا دون انجاز الثوار مهامهم ، وما يزال الثوار بالعراق يحاولون اسقاط النظام الطائفي الشيعي المدعوم عسكريا من ايران .
موجات الربيع العربي الأولى والثانية خلخلت ، وغيّرت أغلب النّظم الجمهورية العربية ، و سَلِمَت من تلك الموجات الربيعيّة النّظم المَلكيّة ، لم يكن ذلك مصادفة ، بل رعى الغرب الاستعماري ، وأمريكا تلك النُّظم المَلَكيّة ، الوراثية العَدَميّة ، وابتزّها ماليا وسياسيا وعسكريا ، مقابل حمايتها من شعوبها المتوثّبة للثّورة عليها ، واعترافا بفضل ، وجُودِ الحماية الموصولة ، طبّعت دويْلات الخليج : الامارات العربية المتحدة ، ومملكة البحرين علاقتهما مع الكيان الصهيوني ، وتلتهما جمهورية السودان والمملكة المغربية خلال عام 2020 المنصرم ، وسبق في التطبيع المذكورِين آنفا : جمهورية مصر العربية سنة 1979 ، والمملكة الأردنية سنة 1994 بتوقيعهما اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني .
وقد انقادت ــ مُكْرهة ، ودون استشارة عموم الشعب الفلسطيني ــ منظمة التحرير الفلسطينية إلى إجراء محادثات سرّية بينها ، وبين الكيان الصهيوني بأوسلو منذ سنة 1991 ، نتج عنه ابرام اتفاق سلام بواشنطن سنة 1993 ، وعللّت المنظمة جنحها للسّلام ــ وهي حجّة واهية ــ مع العدو الصهيوني : بسبب نضوب مصادرها المالية المتأتية من دول الخليج ، ومحاصرتها عسكريا وسياسيا ، والإبعاد القسري لقياداتها من لبنان الى تونس سنة 1982.
وبالتّراب التونسي ، تمكّن العدوّ من اغتيال أبرز عناصر منظمة التحرير الفلسطينية المقاومة : خليل ابراهيم الوزير ، المعروف بكنية ، ابو جهاد ( 1935 ــ 1988)، وهايل عبد الحميد ، المشهور بكنية أبو الهول ( 1937 ــ 1991) وصلاح خلف ، واسمه الحركي أبو إياد (1933 ــ 1991 ) ، هم عناصر مؤسّسة و ثورية ، محرّضون على نشوب الانتفاضة الفلسطينية الأولى ، أو انتفاضة أطفال الحجارة بقطاع غزة سنة 1987 .
أمّا الانتفاضة الثانية الفلسطينية ، فكانت سنة 2000 ، والمعروفة بانتفاضة الأقصى ، ثمّ توّجتها الانتفاضة الثالثة ، أو مسيرة العودة الفلسطينية سنة 2011 .
وبالاغتيال حقّق العدو الصهيوني اسكات نهج الكفاح المسلح ، وأطفأ نهج تأجيج الثورات ، ومن ثمّة اجبار الجانب الفلسطيني الهشّ على المفاوضات السياسية التي كانت نتيجتها راجحة لكفّة العدو الصهيوني .
وبالتراب التونسي أيضا ، تمكّن العدو الصهيوني من اغتيال مهندس الطيران التونسي محمد الزواري ( 1967 ــ 2016) ، عضو كتائب عز الدين القسام ، الجناح العسكري لحركة حماس الفلسطينية ، و الاغتيال هو نتيجة مساعدته للفلسطينيين بغزة على تطوير قدراتهم القتالية .
عشر سنوات عِجاف خَلت من عمر الثورة التونسية دون تحقيق أهدافها المتمثلة في : الكرامة والحرية والحقّ في التشغيل ، وهي مطالب اساسية هتفت بها خناجر الشباب الثّائر ، إذ التفّ على ثورة الشّجعان الأوْغادُ ، ومنعوا قانون تحصين الثورة ، وحالوا دون انجاز قانون العدالة الانتقالية ، وبذلك أفلتَ مجرمو نظام الاستــبداد من المحاسـبة الحقــيقــية ، بل استفادوا من المصالحة الوطنية ، و اندسوا في الأحزاب الحاكمة ، كالنهضة بزعامة راشد الغنوشي ، وُلِد الخريجي بالحامة ، ولاية قابس (1941 … )وحزب نداء تونس العلماني بزعامة الرئيس الراحل محمد الباجي بن حسونة قائد السبسي (1926 ــ 2019) ، و فيما بعد حزب قلب تونس بزعامة رجل الأعمال ، نبيل القروي (1963 … )، ويحتضن ايديولوجيا الثورة المضادة علنا حزب الدستوري الحر الممثّل في البرلمان بزعامة عبير العمدوني موسي (1975 …)، أفلح بعض الأوغاد المنخرطين في تلك الأحزاب من قيادة الثورة المضادة ، و بثّوا حقدهم انتقاما من أجيال الثوار: بتعطيل كل مطالبهم ، والتنكيل بهم ، هادفين إلى زجّهم في متاهات العنف والانحراف ، و اجبارهم على اجتياز الحدود البحرية التونسية خلسة في اتجاه أوروبا ، تحويهم مراكب الموت ليغرقوا جماعيا .
أوْغاد الثورة التونسية ، جلسوا على عرش كرسيّ السلطة الهزّاز ، كانت الآلام ، ودم الشّهداء الشّجعان غنيمة تاجروا بها ، قبضوا ثمنها من عدّة دول: دولة الامارات العربية المتحدة … المملكة السعودية … قطر … ثم تركيا … فرنسا … أمريكا وذيلها العدو الصهيوني … مقابل إجهاض الثورة التونسية حتّى لا يصل فتيلها إلى بعض العروش الهشّة في بلاد العربان ، فبها تفتك ، وهم يعلمون أنّ عروشهم من قشّ تسري فيه النيران بسهولة ، وكذلك ساهمت دول غربية في اجهاض الثورة التونسية ــ وأساسا فرنسا ــ بعد سريان الفتيل إليها ، وبدأت شعوبها تطلّع إلى غد أفضل بعد تفشّي البطالة بين شبابها وشطط الضرائب .
يجمع المحلّلون أنّ مسلسل إجهاض الثورة التونسية يتنزّل في سياق التمهيد السّري بقيادة أوغاد الثورة التونسية لإبرام اتفاق سلام معلن مع دولة الكيان العنصري الصهيوني ، وخاصّة أنّ حركة النهضة الاسلامية صاحبة اغلبية المقاعد بالبرلمان التونسي ، كانت قد رفضت سنّ قانون يجرّم التطبيع مع العدو الصهيوني .
أوْغاد الثورة التونسية ــ مهما كانت الذرائع التي يسوّقونها ــ فهم قادة الثورة المضادة بامتياز ، تنكّروا لشعارات الثورة السِّلْمِية ، وبثُّوا إشاعات النّدم بين العامة : أنّ بقاء النّظام البائد هو الأفضل ، وخلافا لشيم الكرام وأخلاق الإسلام ، روّج الأوغاد أدْعيات شرّ ، وألفاظ سباب وشتائم ونعوت ، تمسّ من كرامة، المرحوم طارق بن الطيب بن محمد البوعزيزي ، و ذويه ، الذين غادروا سيدي بوزيد ــ مُكْرهين ، وقد طال بعضهم العنف الجسدي ــ فأحسنت وفادتهم دولة كندا ، وحفظت كرامتهم لأسباب انسانية ، ولم يسلم أيضا من تلك النعوت والشتائم المكان ، منطلق الثورة سيدي بوزيد وسكّانه ،وكلّ من يحمل هوية منصوص بها ولاية بسيدي بوزيد ، وكذلك حصدت القصرين كمّا هائلا من الشتائم والنعوت المشينة ، على شاكلة الشّتائم المُقْذِعة الموجّهة ضدّ المكان سيدي بوزيد ، وضدّ كلّ مَنْ كان مسقط رأسه بسيدي بوزيد ، نكاية في المرحوم طارق بن الطيب بن محمد البوعزيزي .
جادَت القصرين بأكثر أعداد من الشهداء ، مقارنة بغيرها من باقي بقاع البلاد التونسية ، وكذلك كانت القصرين المساهم الأوّل والرئيسي في فكّ حصار قوّة البوليس الباطشة بسيدي بوزيد ، وكان ذلك عملا، واستجابة دون قيد أو شرط ، لعادات وثقافة الفُزُوع التاريخية في تلك الجهات ، عند حلول العُدوان بإحداها ، ومن شِيَم الكرام والمروءة ، وحسن الجوار، يَفْزَعُ الجار لنجدة جاره ظالما ، أو مظلوما ، فاديا روحه بروح جاره ، وهو واجب مقدّس تتوارثه أجيال الجهة .
وشماتة ــ الى اليوم ـ ما تزال الحكومات المتتالية متلكّئة في نشر قائمة شهداء وجرحى الثورة النهائية بالرائد الرسمي حفظا للذاكرة الوطنية ــ وقد تمّ تحديدها من الجهة المخوّلة قانونا بذلك ــ وإن لم يتمّ النّشر بعد عشر سنوات ، فيعني أن الأوغاد لم ، ولن يعترفوا بالثورة ، بل هم يمثّلون النّظام البائد في حلّة وشعارات جديدة ، استقواء بسلطة المال الخليجية ، وسلطة مخابرات الدول الغربية الاستعمارية الطّامعة في بسط نفوذها التوسعي بشمال افريقيا : ذات ثراء مخزون ، مُغْر، وتأتي في المقدمة امريكا ودولة الكيان العنصري ، التي قدرت على تطويع الدول العربية ، وجرّها إلى تطبيع العلاقات معها ، وبذلك فكّت عزلتها لتصبح قاطرة دينية توراتية ، وعسكرية ، و اقتصادية تتحكّم في مقدرات الشعوب العربية التي ناصبتها العداء من أجل اغتصاب أرض فلسطين وتشتيت شعبها .
العدو الصهيوني استفاد من صفقة القرن التي بموجبها نقلت الولايات المتحدة سفارتها من تل ابيب إلى مدينة القدس الشريف ، واعترفت بالقدس عاصمة للعدو الصهيوني ، بمباركة دول النفط الخليجية التي باعتها أمريكا أسلحة باهظة الثمن بهدف حمايتها من شعوبها ، وشبح العدوان الايراني المحتمل .
ومن مصلحة العدو الصهيوني، ودول الغرب الاستعماري ، وأمريكا ، وأنظمة الخليج العربي ، وحلفائها من أنظمة الاستبداد العربي ، اجهاض الثورة التونسية ، حتى لا تصبح نموذجا ديمقراطيا في البلاد العربية ، و به تقتدي ثورات الموجة الثالثة للربيع العربي التي تطفو على السطح ، ثم تخبو بسبب وباء كورونا ــ حينا ، وحينا آخر ــ بسبب سياسي داخلي أو خارجي قاهر.
صحيح الثورة التونسية خَبت بسبب الوباء ، وقانون الطوارئ ، ورغم ذلك تواترت الاحتجاجات و الاعتصامات بسلمية ، ووفق تراخيص قانونية ، درءا لانتهازية بعض الاحزاب البارعة في صيد آلام الآخرين ، وتوظيف أوجاع المغلوبين لصالحها ، و كذلك درءا لانتهازية بعض نقابات الاتحاد العام التونسي للشغل المتاجرة بخبز الآخرين : الأحزاب والنقابات الانتهازية فاقدة للمصداقية ، لأنها لا تهدف إلى خدمة المصلحة العامة ، بل تهدف إلى الضغط على الحكومات لكسب منافع خاصة ، وهكذا سلوك انتهازي يدرجها في خانة ثورة الأوغاد المضادة .
تحت الرّماد اللهيب ، الثورات لا تقاس بمُضي الأعوام القليلة على انطلاقها ــ عشر سنوات تساوي جيل ــ بل الثورة الفرنسية دامت قرابة مائة سنة حتى صحّحت مسارها ، ومع ذلك تخللتها ثورة مضادة ، أجهض عليها الثوار الفرنسيون ، وأسّسوا فرنسا الحديثة دولة المؤسسات والقانون ، وأصبحت الثورة الفرنسية مرجعا تاريخيا ، وفلسفيا تُقاس به نجاح الثورات أو إخفاقها.
حالة الثورة التونسية يُقاس عليها ،و يُستلهم منها ، ولا تَقيس على غيرها ، ولا تستلهم من الثورات الأخرى ، وليس ذلك اعجابا بالذات الثورية التونسية ، وتكبّرا على تجارب الآخرين الثورية ، و انّما هي حالة ثورة فريدة ، سلمية فجائية ، نموذجية التوجّه والمطالب ، قَدرت على توحيد الجميع في بلدان موجات ثورات الربيع العربي على مطلب واحد ، بصوت عال : “الشعب يريد اسقاط النظام” ، شعار مختصر مفيد ، موسيقيّ ، يتضمّن سلطة الشّعب وإرادته في نسف سلطة الاستبداد .
يخشى الأوغاد ــ اليوم حيث ما كانواــ من موجة ثورة الربيع العربي الثالثة ، والتي قد ينبلج صبحها فجأة بتونس في ثوب جديد ، و الحال أنهم عملوا باكرا على اجهاض صبح الثورة و طمسه غدرا ، وهو في عنفوان اشعاعه ، بعد هروب رأس السلطة المستبد ، وبقيت ذيوله مرتعشة ، ملتاعة مختفية في الجحور كالفئران ، أوفي اسطبلات البقر الخائرة ، خشية انتقام الثوار.
الأوغاد زعانف الثورة المضادة بتونس لن يهنأ لهم بال ، لأن الثورة مسارات ، وهي مُنْجز لم يكتمل بعْدُ ، هي كأمواج البحر تنكسر، ولا تنهزم ، تخبّئ الأمواج أسرارها إلى حين تهبّ العاصفة ، تعلو ثورة الأمواج فتغرق السفينة وركابها الأوغاد ، وعلى تلك الشّاكلة ستنهض غاضبة : أمواج الربيع العربي الثالثة لتنجز ثورة التغيير الجذري .