التقارب التونسي الروسي : بين الواقع والتطلعات

 

بقلم : عبد الحميد محفوظي، عضو جمعية قدماء ضباط وزارة الدفاع الوطني  ، محاضر مختص في الشأن الروسي  ، معتمد لدى البيت الروسي بتونس

عبد الحميد محفوظي

في البداية، لا بد أن نأتي على ذكر الأسباب الموضوعية ضمن سياقها التاريخي والإيديولوجي والسياسي لتفكيك دواعي الخطوات المحتشمة،والمتعثرة التي طبعت هذا النسق البطيء من التقارب التونسي الروسي.

عوامل جغرافية :

لا شك أن البعد الجغرافي شكّل ،  ولازال أحد أهم العوائق أمام التقارب التونسي الروسي في جميع المجالات  ، ومنه الاقتصادي : مستويات المعاملات التجارية  و السياسي : إقامة تحالفات إقليمية .

عوامل سياسية :

تعاني روسيا ولازالت من حزمة عقوبات مجحفة ، وحصارا برّيا وبحريا وجويا، فضلا عن تجميد أرصدتها البنكية بالبنوك الغربية والأمريكية أساسا. عقوبات لا يلوح في الأفق إمكانية رفعها أو حتى التخفيف من حدّتها ،  وهذا كفيل بحد ذاته لصرف النظر عنها إما تفاديا لعواقب ،  ومخلفات خرق الحصار ، أو إذعانا لقوى الهيمنة التي تقف وراء هذه العقوبا ت ، أو مراعاة لوضعها الداخلي الصعب الذي يلقي بظلاله على صعوبة الاستثمار الخارجي. هذا، زيادة عن الضغوطات الغربية التي تعتبر تونس حليفا استراتيجيا طبيعيا سياسيا واقتصاديا وتاريخيا ،  لا يمكن التفريط فيه، حيث ترى فيه البوابة الجنوبية لأوروبا ،  وإطلالة مثالية على منطقة شمال إفريقياــ  نقول هذاــ  رغم اختلال الميزان التجاري لفائدة قوى الهيمنة هذه.كما أن تونس ترتبط منذ عقود مع الغرب باتفاقيات في جميع المجالات  ـ صارت تكبّلها وتقلّص من فرص تطلّعاتها نحو شركاء جدد غير تقليديين، دون أن نغفل عن أن الغرب قام بترسيخ إيحاءات مفادها : أنّه الضّامن الموضوعي لاستمرار الأنظمة والحكومات العربية ،  مقابل ضمان املاءاته وشروطه الاستعمارية في شكل مقايضة، واقعيا حاول الرئيس التونسي التصدّي له في انتظار التوصل إلى تقويضه نهائيا، ومن أبرز دلالاته،  الانفتاح على دول مثل روسيا والصين وإيران، وهي وجهات كانت في الماضي القريب خطوطا حمراء ن  لا يجوز التفكير فيها أصلا. هذا الانفتاح المشروع ،  فتح علي الرئيس التونسي أبواب الجحيم ، وهو ما تجلّي بوضوح في المحاولات المتكررة لزعزعة الاستقرار الداخلي ،  وارتباط هذا المعطى بقوى خارجية،  تسعى بكل الوسائل، حتى القذرة منها للحفاظ على مصالحها على حساب سيادة الدول واستقلال قرارها الوطني  .

 

عوامل إيديولوجية :

إن طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية ،  والتي لازالت محكومة ب أيديولوجيا دينية صارمة، تبدو مترددة في انفتاحها الآخر، وهذا ما جعلها تدفع الثمن غاليا عبر الحقب التاريخية المتعاقبة،وهو أيضا ما نجح الغرب في الترويج له للأسف، ساعده في ذلك هشاشة العقل العربي ، وعاطفيته المفرطة الناتجة عن طبيعة تنشئته ــ ومن جهة أخرى ـ  مازال يُنظر إلى روسيا، وفي غياب تام لأية أحكام موضوعية،على أنها مؤسسة النظرية الاقتصادية الأكثر إجحافا في حق الشعوب :  وهي الشيوعية و الاشتراكية المبنية على الفلسفة الماركسية اللينينية، وهي نظرية اقتضتها طبيعة المرحلة آنذاك ونجحت في تأسيس إمبراطوريات عظمى كالإتحاد السوفييتي والصين، غير أن الغرب والقوى الامبريالية تروّج لها على أنها نظام لقتل روح المبادرة والخلق  ، وتكبيل للقدرات البشرية دون الإشارة لمزاياها المتمثلة في المساواة  ،  وترسيخ القيم الإنسانية والكونية والتصدّي للممارسات المتوحشة للرأسمالية ماضيا وحاضرا. وفي كل الأحوال يمكن القول أن هذه النظرية عفا عنها الزمن ،  وتجاوزتها حركة التاريخ، ورغم انخراط روسيا في نهج الحداثة المجتمعية والولوج إلى عالم اقتصاد السوق والاستثمار الخارجي والداخلي ،  وتشجيع المبادرة الحرة، إلا أن الغرب لازال يصرّ على اعتبارها: دولة ذات نظام مركزي صارم ومنغلق .

عوامل ثقافية :

لا شك أن العالم بمن فيه الأفارقة ،  لا زالوا يعتبرون اللغة الروسية ،  لغة محلية وثانوية لاكتساح العالم المتطوّر، (رغم تداولها بين قرابة 300 مليون كلغة أولى) وبالتالي فمن الطبيعي منح الأولوية للغة الإنجليزية والصينية ( بحكم الهيمنة الصينية على الحركية الاقتصادية العالمية) وكذلك اللغة الإسبانية بحكم المكانة المتميزة التي أصبحت تحتلها منطقة أمريكا اللاتينية في التوازنات الدولية الاقتصادية والسياسية الجديدة، مع أن المجتمع الروسي شديد الشبه بالمجتمعات الإفريقية كتقديس الأسرة ونبذ التكبّر والاستعلاء  والعنصرية والتفرقة ، وعدم السعي لتغيير قوانين الطبيعة البشرية وتركيبة المجتمعات خارج هذا الإطار. دون إغفال ارتباط جزء هام من النخب التونسية في ولائها لجلّاد الأمس : وأعني دولة فرنسا، المستعمر الذي يرفض رفع اليد عن سيادة واستقلالية مستعمراته القديمة ومنْع انعتاقها.

عوامل موضوعية :

قبل ظهور المواقع الإلكترونية ،  وخاصة منها مواقع التواصل الاجتماعي، كان الإعلام الغربي يقدّم دولة روسيا أو الإتحاد السوفييتي سابقا:  على أنها دولة قديمة،  تحكمها القوة والغطرسة داخليا ،  يسودها الفقر والخنوع والذل داخلها ،  وأن لا صلة لمجتمعها بالتطور والتحديث في غياب تام للرفاهة ، وأسباب العيش الكريم ،  وأنها دولة حربية بالأساس تاريخيا، وبالتالي لا يمكن لها الاندماج في تحالفات إقليمية أو دولية لصعوبة التعامل معها. هذا الخطاب الغربي التضليلي وجد صداه مع الأسف ،  وساد لمدة عقود خاصة لدى البلدان التابعة ــ  للغرب الاستعماري ــ  والتي لا حول لها ولا قوة. وهذا الزيف افتضح الآن ويفتضح كل يوم أكثر، حتى أن الكثير من الدول بما فيها النافذة، انفتحت على روسيا بالكامل ،  بل وفي شكل تكفير عن الذنب ،  ورد الاعتبار لهذا البلد الأبي ، والذي أخذ على عاتقه مقاومة الهيمنة الغربية الظالمة ،  وإعادة تشكيل النظام العالمي على أساس العدل والسلم والمساواة .

وإلى حد المرحلة الراهنة، لا يزال الوجود الروسي في تونس متواضعًا، على الرغم من أنه غير مقيّد. بخصوص هذا، يقول دبلوماسي غربي “الأرض الخصبة مواتية” بحيث يخدم استياء الرأي العام التونسي من “المعايير المزدوجة” للأوروبيين والأمريكيين في الحرب على غزة، خطاب موسكو بشأن الغرب غير المؤهل أخلاقيا، تماما مثل اعتبار الرئيس الروسي متهما ومطلوبا لدى محكمة الجنايات الدولية، بينما ينعم قتلة الأطفال والنساء وكبار السن ومدمّري الأوطان والشعوب والحضارات بالحرية والحصانة. تلك هي ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين  ، التي لا يستحي الغرب من ممارستها متحديا شعوبه التي لطالما ندّدت بوضوح بهذه الغطرسة الغربية غير المسبوقة في مظاهرات عارمة ، سرعان ما يقع قمعها بالقوة الأمنية ،ونفس الممارسات تعيبها هذه القوى على دول أخرى عندما يتعلق الأمر بتصدّيها  لمحاولات زعزعة  استقرارها.

‌من الواضح أن العلاقة بين تونس وروسيا  تتعزّز، حتى لو كان من السابق لأوانه الحديث عن تحول استراتيجي. إذ بعد تأجيلها مرتين، على الأرجح تحت ضغط أمريكي، تمّت زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى تونس أخيرًا ــ  يومي 20 و21 ديسمبر 2023  ــ في سياق ازدهار متزايد للتبادلات التجارية، التي كانت بالطبع غير متوازنة بشكل كبير لصالح تونس، كما ارتفعت واردات الحبوب الروسية بالفعل في سنة 2023 بزيادة قدرها 435 بالمائة مقارنة بعام 2022 لتبلغ قيمتها الإجمالية نحو 1.1 مليار دينار (326 مليون يورو)، بحسب المعهد الوطني للإحصاء.

لقد كانت تونس مرتبطة تقليديًّا بالمعسكر الغربي، حيث ترتبط قواتها المسلحة ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة، ومن المؤكّد أن التطوّر المُحتمل المؤيد لروسيا في البلاد سيشكل تحولًا، على الرغم من أنه في هذه المرحلة يظل اقتراحًا نظريًّا للغاية. كما أن الخطاب الجريء للرئيس قيس سعيد، الذي ينتقد بانتظام “إملاءات” الغرب، يعزز الخطاب الرائج في موسكو، على حد تعبير مراقب أوروبي في تونس.

الرئيس التونسي قيس سعيد
الرئيس التونسي قيس سعيد

وفي المقابل، يلاحظ العديد من المحللين ،  أن الأمر ليس مستغربًا خاصة في ظل الانتشار الجديد للنفوذ الروسي في منطقة الساحل وليبيا، حتى لو كان البعد العسكري المباشر ،  لا يزال غائبا حيث التعقيدات والغموض  ، ظلّ مخيّما  على مستقبل المنطقة  ، وحيث تتبع روسيا سياسة التريث وعدم الانزلاق نحو المجهول.
‌‌وعلى الرغم من العقوبات الدولية المفروضة  على روسيا، فقد ضاعفت تونس وارداتها من “الفحم والنفط ومشتقاته” ثلاث مرات، مقارنة بسنة 2022. ومنذ بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا في فيفري 2022، استوردت تونس كميات من النفط الروسي  ، تجاوزت ما كانت عليه في السنوات التسع السابقة.

لافروف وزير خارجية روسيا
لافروف وزير خارجية روسيا

وسُجّل المزيد من التعاون السياسي، خاصة في المسائل الانتخابية بعد توقيع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي المسؤولة عن تنظيم الانتخابات في تونس، مذكرة تعاون مع اللجنة الانتخابية الروسية في 15 مارس 2016.

وفي هذا السياق توجّه فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إلى موسكو، للمشاركة في البعثة الدولية لمراقبة الانتخابات الروسية التي جرت بين 15 و17 مارس 2023 والتي فاز خلالها بوتين بنسبة محترمة جدا من الأصوات وفقًا لوسائل الإعلام الروسية الرسمية.

فاروق بوعسكر
فاروق بوعسكر رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات 

‌ومن ثمار هذا التعاون المؤسساتي، أن ظهرت في تونس ملصقات إعلانية تروّج للنسخة العربية من قناة روسيا اليوم، التي تمولها الدولة الروسية، وقد افتتحت  قناة روسيا اليوم العربية مؤخرًا مكتبًا لها في الجزائر وعينت مراسلًا لها في تونس.

وينظم البيت الروسي بتونس، وهو مركز ثقافي تابع للسفارة، بانتظام فعاليات حول ثقافة ولغة وتاريخ روسيا، ويشارك في الفعاليات الثقافية، مثل معرض تونس الدولي للكتاب وتنظيم محاضرات وعروض أفلام وثائقية تهتم بالشأن الروسي.
‌وفي الختام، ومع كل ما سبق، فإن تغيير النموذج   الاستراتيجي ليس  بالأمر السهل، بعد حصول تونس على صفة “الحليف الرئيسي من خارج الناتو” من قبل الولايات المتحدة في سنة 2015. ناهيك عن كونها عضوا في “صيغة رامشتاين” التي تشكلت بمبادرة من حلف شمال الأطلسي لدعم أوكرانيا، غير أن كل المسائل تبقى قابلة للتغيرات حتى العميقة منها،حيث العالم مقبل على كم هائل من المفاجآت المحسوبة  ، وغير المحسوبة من تشكّل لتحالفات صلبة جديدة  ومن صحوة المجتمعات وضغطها على حكوماتها من أجل تغيير أو حتى تعديل سياساتها الخارجية خاصة، فضلا عمّا ستؤول إليه نتائج الحرب الروسية الأوكرانية وحالة الاحتقان السائدة في منطقة الشرق الأوسط (إيران – حزب الله وإسرائيل )، يضاف إليها تطورات المسألة الصينية واستعادة تايوان،وأخيرا وليس آخرا مآلات تفعيل منظمة بريكس التي ستحدّ دون شك من هيمنة المؤسسات المالية العالمية الحالية وهو الحد الأدنى من تطلعات وآمال باعثيها، كل هذه المسائل ستلقي بظلالها في تأسيس مشهد عالمي جديد سيكون فيه عدد المنتفعين أضعاف أضعاف الخاسرين.