بقلم : عبد الحميد محفوظي
عضو جمعية قدماء ضباط وزارة الدفاع الوطني ومحاضر مختص في الشأن الروسي معتمد لدى البيت الروسي بتونس.
لا شك أن إفريقيا شكّلت ولازالت مطمحا استراتيجيا مهمّا ،ومحورا جذّابا للصراع بين القوى العالمية الكبرى ، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي ممثلا في فرنسا أساسا من جهة، والصين والهند والإتحاد السوفييتي أو روسيا حاليا من جهة أخرى، حيث تعتبر إفريقيا قارة شبه عذراء ومجالا واسعا للاستثمار والهيمنة السياسية. وفي هذا المجال، تبدو رغبة روسيا من وراء تعزيز نفوذها في إفريقيا :في خلق أسواق بديلة عن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، بعد العقوبات الغربية المسلطة عليها.
ورغم أن الغرب يتعمّد تبنّي خطابا مضلّلا تجاه النفوذ الروسي المتعاظم في إفريقيا : إلى استخدام وسائل غير شرعية وغير نظامية، لكن موسكو في المقابل، تبرّر تطور علاقاتها مع الدول الإفريقية بمقاربة تجنّب فلسفة الشروط والاستعلاء التي ينتهجها الغرب دون حياء، لخّصها لافروف ذات مرة في قوله ” نحن هنا من أجل الشراكة والمكاسب المتبادلة، لا من أجل أن نملي على الآخرين ما يجب عليهم فعله” وفي حقيقة الأمر، لم تكن موسكو تواجه الغرب بنقد لاذع تجاه هذه السياسات، وإنما كان همسا خجولا، لتفادي الصدام المباشر معها ، والمحافظة على شبه آمال مراعاة لمصالحها الإستراتيجية، لكن الأمراختلف الآن وصار الموقف الروسي عقيدة ستبنى عليها السياسة الخارجية الروسية مستقبلا. هذا هو الوصف الطبيعي الأنسب لإستراتيجية السياسة الخارجية الروسية التي أعلن عنها في 31 مارس2023عند ربط مبادئها، مهامها وأولوياتها ببعضها بعض. إن أبرز ما يمكن استنتاجه من ذلك التغيير الجدّي – على حد وصف بوتين – في السياسة الخارجية لموسكو: هو رؤية روسيا للسياسات الدولية على أنها سياسات للقوة، يحكمها منطق التنافس والصراع بالدرجة الأولى ، وهي رؤية سينبثق عنها عداء أشد للغرب وأمريكا خصوصا.
ويتجلّى العزم الروسي الصريح ،والمعلن على مواصلة السعي في سبيل تقويض منطق الوضع الراهن ، وتعديل بنية النظام العالمي، وموازين القوى المتحكّمة فيها، ولترسيخ صورة الدولة غير القانعة والمعادية علنا لقوى الهيمنة، وبناها والتي ما فتئت روسيا تقدّمها عن نفسها ، منذ خطاب بوتين الشهيرفي مؤتمر ميونيخ لشؤون سياسة الأمن سنة 2007. سيكون المآل الحتمي للسياسات الروسية التي ستبنى عليها قاعدة مبادئ العقيدة الجديدة في المستقبل : مزيدا من التراكم لعوامل القوة على جميع الأصعدة ،ومنافسة أشرس عليها مع الغرب في كل الفضاءات والأقاليم ، بما في ذلك الموجودة في القارة الإفريقية التي شهدت زخما غير مسبوق في تطور علاقاتها مع روسيا في السنوات الأخيرة، فما هو نصيب القارة السمراء من الإهتمامات الجيوستراتيجية الروسية ؟ مبدئيا، يأتي بند القضاء على أساسيات الهيمنة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ، والدول الأخرى غير الصديقة في السوق الدولية الذي وضع كأولوية للإستراتيجية الروسية الجديدة. وبوصفها فضاء محبّذا للغرب، مارس فيه كل صنوف الهيمنة والإمبريالية، وبحكم ثقلها في الحسابات المستقبلية للاقتصاد العالمي وموازين القوى، ستكون القارة الإفريقية بلا شك، الحلبة الأهم لمشادات جيوسياسية شرسة بين روسيا والدول الغربيةالنافذة، وستكون القارة الإفريقية مسرحا لتنافس شديد بين قطبين صار يتأجج عداءهما كل يوم أكثر. وفي هذا المطمح ستتلاقى أولويات السياسات الخارجية الروسية الجديدة مع أهداف الكثير من النخب الإفريقية الحاكمة ، والتي لم تعد تتحرّج من تبنّي خطاب ينأى بها عن الغرب، وسيوحّدهما تقاسمهما الحقد على القوى الكولونيالية القديمة ضمن مسارات تجعل الكثير من الدول الإفريقية أقرب إلى روسيا ،التي لا تتوانى عن الاستثمارفي الحقد التاريخي للأفارقة على الإستعمار، كي تطرح نفسها كبديل ولتوطّد علاقاتها بهم. ويمكن أن نستدل هنا بالنموذج المالي:النيجر،والبوركينيوالغابوني…استنادا إلى هذا المرتكز، سينحو النهج الروسي النازع إلى الاشتباك الجيوسياسي مع أوروبا والولايات المتحدة في القارة الإفريقية، منحى أعتى وأشرس، وضمن فضاءات جديدة محسوبة على الغرب(كإقليم غرب إفريقيا مثلا) وفق مقاربة جيوسياسية، وسيصبح الحديث عن مجرد توسيع للنفوذ الروسي في القارة السمراء، ضربا دالا على عدم مواكبة لمجريات الأحداث في السنوات الست الأخيرة على الأقل. نقول هذا من منطلق أن حركية توسيع النفوذ الروسي في إفريقيا في السنوات الأخيرة ، لا تضاهيها حركية سياسية أي دولة أخرى، حتى أن الصين لم تحقق ما حققته روسيا في آخر ست سنوات مضت، ولا ينبغي لنا أن نغفل هنا أن العلاقات مع الدول الإفريقية أصبحت محددا رئيسيا في المكانة الجيوستراتيجية لروسيا ــ منذ أزمة شبه جزيرة القرم في سنة 2014ــ وفي سنة 2022، شكلت الزيارات التي نظمتها الخارجية الروسية إلى دول إفريقية، بما فيها الجزائر ومصر وأوغندا والكونغو الديمقراطية وأثيوبيا، جزءا من استراتيجية روسيا لكسر العزلة والعقوبات التي فرضها الغرب عليها ، غداة إعلانها العملية العسكرية ضد أوكرانيا. ولقد بدا واضحا من تلك الزيارات ، وما بعدها أن منحنى العلاقات الروسية الإفريقية مصيرها التطور بكل أبعاده. والواقع أن هذه الحركية في العلاقات الروسية الإفريقية مرشحة لأن تتضاعف بعد إقرار الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، يحرّكها الإدراك الروسي لحيوية الفضاء الجيوسياسي الإفريقي في تحقيق الأهداف الإستراتيجية الكبرى لروسيا في رقعة الشطرنج العالمية ، وفي هذه الظرفية تحديدا، ناهيك بجملة من الدوافع هي بالأساس من طبيعة جيوستراتيجية، سياسية واقتصادية.لا فبدوافع جيوستراتيجية، سنشهد تكريسا لجهد أكبر من قِبَل روسيا في سبيل تعزيز شراكاتها مع دول شمال إفريقيا ، وتعميقها بالنظر إلى محورية هذا الإقليم في الحسابات الروسية الأمنية والجيوسياسية، وفي معادلات التنافس الإستراتيجي بينها وبين حلف شمال الأطلسي. إن الحرص على استقرار العلاقات مع دول الشمال الإفريقي، سيضمن لروسيا تأمين إطلالها على البحر الأبيض المتوسط على الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي، وفي الوقت ذاته سيساعدها نسبيا على كسر طوق الاحتواء الأطلسي المضروب عليها عند تخومها الغربية. هنا كانت زيارة الرئيس الجزائري إلى العاصمة موسكو تجسيدا مثاليا على جدية الروابط الإفريقية الروسية خاصة في أبعادها الجيوستراتيجية. علاوة على ذلك، ومن منطلق جيوستراتيجي، سيشكل سعي روسيا للتشويش على الدول الغربية في نطاقات نفوذها التقليدية في غرب إفريقيا ، وفي خليج غينيا دافعا قويا بالنسبة لها لتطوير علاقاتها الحالية بدول غرب إفريقيا، وفي الوقت نفسه، لبناء علاقات مع دول جديدة في المنطقة، تمكّنها من الدّنو أكثر إلى الضفاف الشرقية للأطلسي. وفي رأينا، تبدو دولة ساحل العاج الأقرب إلى تحقيق هذا الطموح الجيوستراتيجي الروسي. أما من الناحية السياسية، فإن الأصوات الــ 54 التي تمتلكها دول القارة الإفريقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، هي هدف جذّاب بالنسبة إلى روسيا ، يستحق الرهان عليه في خضم حرب عقوبات يخوضها الغرب ضدها، لا يلوح في الأفق حاليا ما يُنبىء بإمكانية رفعها، وكلما ضمنت روسيا عددا أكبر من هذه الأصوات لصالحها، أو حيادها على الأقل، ساعدها ذلك على تلافي تصويتا أمميا ضدها. لذا، فإن المطالب الإفريقية من قبيل دعم الحلول لمشكلاتها، أو مقاومة الاستعمار الجديد أو مناهضة سلوكيات الهيمنة متعددة الأبعاد (بما فيها الثقافية)، هي مطالب من المتوقع أن يتردد صداها أكثر في الخطاب الرسمي الروسي مستقبلا.وفضلا عن هذا، فإن الاتفاقيات الأمنية المبرمة إلى حد الآن بين روسيا ، وعدد من الحكومات الإفريقيةهي مما يتوقع ترسّخه. أخيرا، وبحكم محورية المطالب التنموية والاقتصادية للأفارقة، فإن المرتقب من الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية ، هو تعميق الشراكة الاقتصادية مع الدول الإفريقية ، وتوسيعها لتدارك -على الأقل- التأخر في تحقيق أهداف قمة سوتشي 2019 التي تعهّد فيها الرئيس الروسي بمضاعفة مستوى التجارة مع إفريقيا ــ في غضون 5 سنوات ــ وعْد لم يتحقق بسبب جائحة كوفيد 19 وآثارها. توازيامع هذا الوضع، فإن رقم المبادلات التجارية بين روسيا وإفريقيا المتواضع ( 14 مليار دولار فقط مقارنة ب 295 مليار دولار مع الصين، 254 مليار دولار مع الولايات المتحدة الأمريكية و 65 مليار دولار مع الإتحاد الأوروبي)، يعكس ضعفا في الشراكة الاقتصادية بين روسيا وإفريقيا من المؤكد أن الأفارقة لن يقبلوا باستمراره مستقبلا. تلك هي أهم المحدّدات التي يجب أن يرتكز عليها للتنبّؤ بمستقبل العلاقات الإفريقية الروسية ، بعد إقرار الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، وهي محدّدات تجعل من الاعتماد على إفريقيا حاجة لا غنى عنها بالنسبة إلى روسيا بالنظر إلى الوضع الذي تعيشه، وبحكم ما سطّرته من أهداف هي بمنزلة فرصة يجدر بالأفارقة اقتناصها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة منها مستقبلا.