معارك أدبيّة: قراءة في كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحيّة السَّدّ 1/3

بقلم : الحبيب علوان

«والحقّ في عملية الفهم لأيّ تأليف من المؤلّفات الأدبيّة  الصّميمة  ، لا تعدو   ــ في كثير من الأحيان ــ أن تكون قضيّة بين التّأليف و القارئ نفسه ،  لا شأن  فيها  لصاحب التّأليف  ، ولا لمقاصده ونواياه … » محمود المسعدي

مدخل

وأنت طيلة قراءتك لهذا الكتاب  بجزأيه  الذي بلغت صفحاته  ثمانين وثلاثمائة ، فلا بدّ أنّك مثلي  وجدت نفسك  مشفقا على صاحبه ، ومُقدّرا ــ أيضا ــ  جهده : منهجية ومحتوى  ، حيث كان طريقه واضحا  معبّدا ، على الرّغم من أنّ أساس المغامرة  ونقطة الانتهاء  أو لحظتها ، مرصودة أو موعودة  ، ولا أقول واعدة  دائما  وكذلك إصراره على البقاء  في مجال التّفتيت والتّحليل ، دون الانتهاء إلى التّركيب والتّجميع  ، لكن ستجد نفسك من جديد معه ، أمام سدود متعّددة  من حيث المضامين  التي تعب مجتهدا  في جلبها من شتى الحضارات ، فأبهرك ،  أو  أضناك  بهذه السعة في الإسقاط  ، جمعا وتفسيرا  ، واستنطاقا  ، ومقارنات  وتأويلات  ، والسَّد ما يزال فاتحا قلبه ، أو ذراعيه للقادرين على تحمّل أثر الرّحيل إليه  من المريدين والظامئين،  ولهذا لا يجب أن لا تعتقد في نفسه  انه آخر متقادري الرّاحلين  ، فهو ما يزال  يستقبل ويستقبل  دون كلل ، أو ملل ، أو نضوب ، جِبلّته تحدّي الانتهاء  والقحط،  لأنّه مفتوح ، ولن يغلق أبدا ، وهو ما  يعنيه النّقاد التحليليون : أنّ النص الأدبي الجيّد يقدّم نفسه جديدا لكل جيل(1)  ،  متى كانت لهم  الثقافة والاستعدادات  التي تمكّنهم من ذلك  ، وهناك تكمن عظمته وخلوده  إلى جانب  ــ أيضا ــ  ما تفرّد به من عبقرية في التّعبير، والإيحاء وصور البلاغة والإعجاز ، فالسّدّ سيبقى السّدّ مهما تعدّدت الفتوحات ، والتأويلات والإسقاطات ، وعبقريات الفهم  ومحاولاته ،  ونداءات الدخول  ومنطلقاتها ،  فإنسانه الإنسان في كل زمان ومكان  في أيّ حضارة  ما دام متمردا على ضعفه ، وقصوره طالبا تأصيل كيانه،  واستقلال إرادته  ، وجدوى فعله  رافضا العدم والاحتواء،  والسقوط ،  وأن يكون مغلوبا لا غالبا ،  وهو ما نادى به أدولف باستيان  في عالمية الإنسان ،  من حيث أنّ الأديب  بوصفه عضوا في الجماعة البشرية يفكر تفكيرها ،  ويحلم أحلامها ، وربّما يستوعب بنفس الطريقة رموزها المختلفة ، على اختلاف البيئات وتنافرها(2) ، فله من عمق الزّمن أو امتداده ، ومن عمق المكان ، أو لا نهايته ، فيبدو لك متطاولا ، ولكنّه متأصّل فيهما بعناده ، زاعما الكفر بالنواميس والحدود ، والعراقيل ،وإنكار العجز والإسلام  ، ونفي العدم ، هو الإيمان بالفعل(3)  لذلك ينازل الأقوى  ويتمرد عليه ذلك هو غيلان  المتخذ من نكباته  منطلق انتصاراته  حيث “كان ذلك بضرورة الفعل وقوة الخلق “(4)  وفي طبيعة تكوينه  وعزمه قائلا ” لو اجتمعت الأكوان لترحي وتقتل ، لما أصابت غير أسراب الطّيور ،  وجماعات الناس  وقطعان الغنم … وأمّا من كان واحدا أوحد ، فإذا صعقته الصّاعقة ، فهو الذي أهلك الصّاعقة ” (5) فهو  ــ إذن ــ المُتأله  الفعلي ، ومن قدر في نفسه الثّورة  على العجز والاحتواء  ،متحدّيا الواقع  وإمكاناته الذّاتية  ، والقدرات الفعلية المُحدّدة  له ، حيث  لا يركن ، ولا يستكين ،  ولا يستسلم،  قلقا ثائرا يطلب الخطر  ، وتغيير الثّوابت ،  والمعطيات في  صراع دائم بين الشّكّ واليقين  ، طالبا للإنسان  القدرة ، ونفي الإقرار بالعجز ،  والصّمت  عن الاحتواء : «اسيان » حيث يذكّرنا بالكاتب الإسباني ، ميجيل دي أونامو1864 ــ 1936)   (*) Miguel de Unamuno فيلسوف ، شاعر ، روائي ، مؤلّف تمثيليات  ، في روايته «المعنى المأساوي للحياة » وشعاره «الكلّ أو لا شيء » وأنّ الوجود  معناه الحنين للوصول إلى المكان كلّه ، والزّمان كلّه ، أي  «إلى الوجود كلّه»  لذلك «ينبغي أن نبذر  في بني البشر  الشّكّ والتّحدّي والقلق ، ومن هنا يُعدّ فكر أنامونو  إرهاصا للوجودية المناضلة» ، وهو الذي كان يردّد قول الكاتب الفرنسي  الرومانسي : سنانكور(1770 ــ 1846*) Etienne Pivert Senancour «الإنسان هالك لا محالة ، ولكن فلنهلك  ونحن نقاوم ، وإذا كان العدم مقدّرا علينا ، فليس لنا أن نجعل من هذا العدم عدلا وإنصافا» وهكذا كان غيلان أيضا ثائرا رافضا قبول الأمر الواقع ” هذه الأرض المُتجعّدة ، المِغبار كالعجوز الفاجرة ، لأحبلّنّها ماء ، فأملأنّ بطنها ، فأخرجنّ حياة ” (6) ” نعم سننشىء ونخلق “(7) إذ هو من رموز هذه الوجودية الإنسانية المناضلة الرّافضة ، ولا علاقة لها بأيّ  دين أو ديانة إسلامية ــ أو مسيحيّة ــ  مثلما ذهب إلى ذلك الأديب النّاقد  المصري  طه حسين(1889 ــ 1973)،  ومن سار على دربه  من المُقلّدين الأوّلين ، أو الأخيرين في حديثهم عن السّدّ ،  “إنّما كل ذلك للعلاقة الرّابطة بين الأساطير والعقائد  والفنون” (8) في المطلق وهكذا ” نحسّ الفنّ مقدّس كما هو الدّين ” (9)  مطلق الدين في جوهر الحياة “إذا اعتبرنا مرحلة لاحقة لإنارة الإنسان وتطوره اجتماعيا وحضاريا ، وتميّزه أو تفرده عن بقية  الكائنات في سعيه الدائم ، إلى خلق نوع من الانسجام مع الواقع “(10) في ذهنه  أو حسّه  ” وإذن  أليس في الخرافات كل ما يحقّق رغبة الإنسان ” ؟(11) في البدايات الأولى للحضارات الإنسانية ،  في الانطلاق من الخرافات والأساطير والسّحر  والأديان  ، وصولا إلى العلم والعلمانية في تدرّجه حاليا ،  وسعيه إلى الرّقيّ والسّيطرة والتّغلّب ، ونشدان التّغيير ، ولو كان ذلك في مفهوم اللاوعي الجماعي ،  الذي صدر عنه كارل يونغ ، وسوف أعتبر ما ألحقه طه حسين  ومقلّد به ، بالوجوديّة في السّدّ  وتقييدها ، من باب التّقوّل ،  والافتراض ،  والإدخال ، أو اللّصق  ،إلزاما ، أو إسقاطا  لتحديد الهوية الدينية  في السد ؟  كما يريدونها  هم ، وهو ما يعني فرض المسار المطلوب ، ومن ناحية أخرى  منهجية  ،فأجدني  مع الرّأي القائل  ، والذي يدحض  ما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمان بدوي ،  في كتابه الزمان الوجودي ،  في ردّه نشأة الفلسفة الوجودية  المعاصرة  إلى جذور عربيّة  ، وهو قول لا يستقيم  ،  إذ الحقيقة  العلمية  الفلسفية المؤكدّة أنّها  ــ أي الفلسفة الوجوديّة  ــ  لم تظهر  إلاّ مع  الفيلسوف الدانماركي :   سورين كيريكارد  (1813 ــ 1855) ،Søren Kierkegaard لاهوتي ، شاعر ، ناقد اجتماعي ، مؤلّف ديني  ، و الفيلسوف الألماني  مارتن هايدغر(1889 ــ 1976) Martin Heidegger ، و الفيلسوف  الفرنسي جان بول سارتر (1905 ــ 1980)  ، Jean – Paul Sartreروائي ، كاتب  مسرحي ، ناقد أدبي ، ناشط سياسي ،   و الكاتبة  ، المفكّرة ، الفيلسوفة ، الفرنسية : سيمون دي بوفوار(1908 ــ 1986) Simone de Beauvoir ، و الفيلسوف العبثي : الكاتب المسرحي ، الروائي  الفرنسي ألبير كامو (1940 ــ 1960) Albert Camus ، وهي وحدها التي قدّمت الوجود على الماهية   ، بينما ظّلت الفلسفة القديمة والإسلامية والمسيحية  ، والحديثة تؤكّد سبْق الماهية على الوجود (12)  ومن هنا نرى أنّ الفلسفة الوجودية بقيت على حالها ،  دون ارتباط  بأيّ دين  ، لاسيما  وهي الخارجة عن الفلسفة القديمة ،  ولذلك كان صنيع الذين ربطوها بالدين ــ مسيحية وإسلام ــ يذكّرنا : 1 ــ بما سبق من أنّ الدّارسين المسلمين أخرجوا التّراث الأسطوري للعرب الأوّلين  ، وهو وثني خالص من إطار الأدب  والتّاريخ  لأسباب دينيّة وسياسيّة (13) ولا أرى  في الإمكان  التّسليم بأنّه لم يكن للعرب رصيد أسطوري بالقدر الكبير … (14) فحياتهم الحافلة آنذاك بشتّى الصّراعات  والتّطلّعات ، والنّضالات الوجوديّة  ، والاتّصالات بالأمم  والشّعوب الأخرى ، قرينة دالّة على أنّه ، كان لهم في هذا المجال الحيوي النّابض ،  باع وإبداع ، وفعل وخلق  وكيان ، مثلما للأمم الأخرى . 2 ــ بما حدث في عصر التّرجمة ، أيّام عزّ العرب ، وسلطانهم ، كيف تصدّوا عن طريق الإخراج  ، أو الحذف ــ أو الصّمت ــ عن كلّ ما هو فلسفي أو شعري ــ أو فكري ــ يبدو في نظرهم ضدّ اليقينيات ــ الإيمان ــ الدّينيّة / الإسلاميّة خاصّة حيث قدّموا ما يريدونه هم من تراث الآخرين ،  وليس كلّ ما وقفوا عليه من إبداعات  الآخرين ، لأسباب دينيّة  وسياسيّة أيضا ، بل إنّنا نجد  ما دار حول حرق مكتبة الإ سكندريّة  أيّام فتح مصر على يد عمرو بن العاص  ،يدخل في هذا المجال ، حيث يذكر المؤرّخون أنّ هذا الأخير أرسل إلى أمير المؤمنين ، عمر بن الخطّاب يسأله عن أمر مكتبة  الإسكندريّة  ،فأجابه : إذا كانت هذه الكتب تتّفق مع ما جاء به كتاب الله ، فلا تُمسّ ، وإذا وُجد فيها ما لا يوافق كتاب الله فتُدمّر  ,هكذا أمر عمرو بأن تُوزّع الكتب على حمّامات الإسكندريّة  وتُستخدم كوقود لها ،  واستغرق حرقها ستّة شهور حتّى استنفدتها جميعا (15) على الرغم من أنّ  الخلافات قائمة حول إثبات ذلك ونفيه (16)  ومن المآسي المعاصرة في هذا السّياق   ــ أيضا ،، وبعد حوالي ثلاثة عشر قرنا ،  وحالة من حالات كثيرة تجري في هذا العالم الجاري إلى الخلف :  أنّ الدكتور نصر ابو زيد  الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية ــ بآداب القاهرة ــ رفضت اللجنة الدائمة للغة العربية بالمجلس الأعلى للجامعات ، ترقيته في وظيفة الأستاذية على أساس أنّ بحوثه تتعارض ــ في رأي البعض  ،، مع النصوص  الدينية  ،وقد أثارت هذه القضية  شجونا عديدة  ، لدى العديد من المثقفين  المصريين المهمومين  بحرية البحث العلمي ، وضرورة الدّفاع عن تلك الحرية  خصوصا في البحوث الأكاديمية (*)  بل ومما يزيد  في الشعور  وبعمق ــ المأساة ــ بل المهزلة ــ أنّ أحد المتعصّبين ــ منتسبا إلى القانون ــ تقدّم في حقّ الأستاذ المذكور ، موضوعها فصله عن زوجته ، بدعوى أنّه مرتدّ ، وأنّ هذا لا يحقّ له الزّواج بمسلمة حيث أنّه في تدريسه سعى إلى تحليل القرآن واعتماد منهجية جذرية بشأن كلام الله .

وقد علّق أحد رجال الدّولة المصرية أنّ هذا إرهاب بهدف إذلال المثقّفين  والتّضييق على حرّية  التّعبير… وما كتبه نصر حامد أبوزيد  لا يمتّ بشيء  إلى البدعة والتّحريف (**) وإذن فملاحقة الفكر الحرّ أو المبدع إشكال كتواصل ، أو متلاحق ، أو مترابط ، أو ممتدّ  منذ ذلك الحين  والعالم من حولنا يتقدّم … فإنّ هذه النّزعة الأبويّة ــ الفوقيّة ــ مازالت متواصلة ، فيما يقدّم للشّعوب العربيّة ولنفس الأسباب . هذا المسار ، إذن ، يبدو في خلاف مع الوجودية الإنسانيّة  بشرطيْها ــ أو بُعديْها ــ في الحرية  والمسؤولية ، وما يتبع ذلك من الحديث عن الالتزام والتلقائية والتبعيّة .

 إحالات :

(*) لصاحبه ، الهادي غابري ، مؤسسة أبو وجدان ، ط1 ، تونس 1992(1)أحمد زكي ، الأساطير ، دار العودة ،ط2 ، ص 265 ، بيروت 1979(2)م . ن  ، ص 266(3)محمود المسعدي ، السّدّ  ،  دار الجنوب للنّشر ،ص 49 تونس 1992(4)م . ن ، ص 107 (5)م .ن ، ص  128(**) انظر ، محاولة في فهم رواية السّدّ  ، ص 20 ــ 53  ، وانظر عنه ــ أخيرا ــ مقالا : سيجيل دي أونامونو ، المواجهة بين الإيمان ، فؤاد كامل ، مجلة العربي ، ، ماي 1993 ، الكويت(6)م . ن ، ص 58(7)م . ن ، ص137(8)أحمد زكي ، الأساطير ، دار العودة ، ط2 بيروت ، ص 144(9)م ، ن ، ص 138(*)  ولهذا كان موضوع الدين لدى غيلان في السّدّ  غير محدّد ، ولا مقيّد ، ونفيا لكلّ تفضيل ، ولذلك يخاطب ميمونة  «كنت أحسب  أنّك نسيت  كل توراة وقرآن  وإنجيل»  السّدّ ، ص 75  ، وهل يكون المسعدي قصد شيئا بتقديمه القرآن على الإنجيل ،  وتاريخيّا العكس .(10)م . ن ، ص 70(11)م ، ن ، ص 70(12)مجلة العربي  عدد 415  ،  يونيو ، الكويت  1993   ، ملاحظات على المسيرة التنويرية العربية ،  محمد فؤاد علي .(13)م . ن ، ص71(*)  انظر نماذج لذلك هامش ص71  المصدر السابق  وانظر كتاب ، جواد علي ،  تاريخ العرب قبل الإسلام  .(14)م ،. ن ، ص 71(15)مجلة العربي  ، عدد 415 ، يونيو الكويت 1993  ، كتاب الشّهر ،  مصطفى العياري ،  حياة ومصير مكتبة الإسكندرية  القديمة ، عرض عبد الغني داود .(16)المصدر السابق ، انظر عرض الكتاب المشار إليه بروح علمية صافية ، همّه إثبات الحقائق،  ونفي التُّهم والملابسات  الصليبية ، وكيف كانت النزعة الدينية المتعصبة وراء الأباطيل  والنزاعات  والتناحر الإنساني ، حيث براءة الفتح العربي من الحريق ، وانظر في هذا السياق  محمد كرد علي .(*)  وانظر المقال النّقدي  في هذا المجال  ، عبد العظيم أنيس ، مجلة الهلال مايو 1993 ، القاهرة ،  الجامعة والبحث العلمي ، وقد ركّز على قضيّة الحريّة في البحث الأكاديمي بالجامعات قديما وحديثا .(*) انظر جريدة الصباح التونسية بتاريخ 19 أوت 1993 .

قراءة في كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحية السّد  2 /3

بقلم الحبيب علوان

في هذا الجزء الثاني  من الدراسة  يواصل الأستاذ الحبيب علوان  مناقشته  ل ما جاء في كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد  ،تأليف الأستاذ الهادي غابري .

 هذا الكتاب :

يبدو أنّ صاحب هذا الكتاب حاول الرّكون في شعوره ، ــ أو لا شعوره ــ إلى مقولة المسعدي نفسه  ــ  وهي مقولة عامة  ، أصيلة في النّقد ، حين اتّجه إلى هذا التّفسير  والتّحليل،  ، راكبا صهوة «التّجاوز» المطلوب في هذا المجال … تقول المقولة ..« والحقّ  أنّ عمليّة الفهم  لأيّ تأليف  من المؤلّفات الأدبيّة الصّميمة ، لا عدو في كثير من الأحيان أن تكون قضيّة  بين التّأليف ذاته  ، والقارئ ، لا شأن فيها لصاحب التّأليف  ، ولا لمقاصده ونواياه ..»  وهكذا إذن … كان التّعامل  مع هذه الحرّية ــ قصدي المطلقة ــ  التي أقرّها المسعدي  بين السّدّ ذاته  والقارئ نفسه  التي لا شأن فيها لصاحب السّدّ  ، ولا لمقاصده  ونواياه ، فجال صاحب هذا  الكتاب  داخل  السّدّ مستنطقا  جدليّا كلّ معلم  ، أو علم ، أو قضيّة ، وتطلّع حوله في الخارج إلى كلّ  ما يشدّ الفكر ، والوجدان  ، والنّظر والحسّ  ، لكن دون السّيطرة الكاملة ، أو الرّبط ، أو الاهتمام بالتّأليف  من جميع ذلك :  لرؤية جدليّة  متكاملة ــ أو الصّدور عنها ــ دليلك منذ البدء : الفهرس في جزأيه الأوّل والثّاني ، أمّا حجّته إليك : فالمرجعيّة  الواسعة ــ في الموضوع  والتّوثيق ، ولهذا فهو أوّل كتاب يصدر عن السّدّ  في جزأين بهذا الحجم  ، والجهد ، والمحتوى ، والثّقة في النّفس فيما انتهى إليه ، وكأنّ جميعها مُسلّمات  دون الإشارة  إلى أن تكون «اليقينيات»  البديلة : ” الجرأة على طرح الأسئلة  في زمن التّراجع المشهود على جميع الأصعدة ” (17) مثلما قال ، الأكاديمي  المصري ، الباحث المتخصّص في الدّراسات الإسلاميّة  ، د .نصر حامد أبو زيد (1943 ــ 2010) ، و إذن : فالحرّيّة ــ في الفهم ــ  لم تكن مطلقة ، له وحده  على غرار زمن نيوتن  ، والزّمن ــ أيضا ــ ليس بزمن يقينيات  بقدر تمحّضه للتّراجعات  والانهيارات  على جميع الأصعدة ،  حيث تبقى الجرأة  على طرح الأسئلة  والنسبية قائمتين  ، وهما محور الآفاق الأساسي  «اليقينيات » جدليا  حالئذ  على غرار زمن عالم الفيزياء الألماني ، ألبرت انشتاين  (1879 ــ 1955) Albert Einstein، ومن هنا يمكن ملاحظة ما يلي : أوّلا : المفروض ــ والمعروف أيضا ــ أنّ الدّراسة الأكاديمية (*)  أو التي لها ذلك الطّموح ـــ عندما تتصدّى  لمعالجة ظاهرة أو قضيّة ، أو موضوع ما ، وقد حرّك صاحبها إغراء ، أو ضغط ، أو دافع ما  للفعل والإنجاز  ــ لظهور نقص ، أو لتجديد ، أو لسعي  يتجاوز به  الموجود ؟  يتعيّن حينئذ  أن تتقدّم تلك الدّراسة برصد تاريخي ، تقويمي ، نقدي لما سبقها في الموضوع  ، اعترافا لما قبلها ــ  ولا نقول الرّيادة ، إنّما البداية ــ فنقف  على ما كان … انطلاقا  منه إلى ما سيكون ، تحقيقا لغايات فكرية ، أو لمواصفات في الدّراسة  والنّتائج المنشودة  ، أو أنّنا نعلّل لماذا  وقع إهمال  الموجود بالصّمت  عنه تماما ؟  إذا كنّا ننوي البقاء  في مجال البحث الأكاديمي … الموضوعي … لاسيما وقد تنوّعت  الكتابات عن السّدّ ، تقديمات ومقالات  ، وأحاديث  ، وكتبا ـــ  ولا يمكن نسيان ـــ تواضعا أو إحقاقا ــ  ما توصّلت إليه من محاولات  في تفسيره وتحليله  ، ولعلّ بعضها مفاتيح للدّخول ،ولا ندّعي  إذا قلنا أن ّصاحب الكتاب  استعمل بعضها  او مجملها ــ   بعد إغنائه   وتنويعه ــــ نوافذ وأبوابا لدخول السّدّ ،  وقد ساعده أنّ الحفر  ما يزال متواصلا  في مشاكل العصر ،  وقضاياه وأزماته ومآسيه  المثارة ، والمفتوحة دوما   ــ عودا على بدء ــ  في الصراعات حول : الماء ، و الأديان ،  وحقوق الإنسان  ،والثّورة ،  والأساطير، والخرافات ، والجنس   ، والجسد  ، والنّضال بعامة ضدّ الخضوع ، والاستسلام  والتبعيّة ،  والاستلاب ،  فكانت من هذه الناحية إسقاطات ،  وكوى ، وأضواء منادية طيّعة للتّشجيع على التّحليل  ، والتّفسير ،   ولم تكن لهذه «الهموم والتّمزّقات»  من قبل ذلك الإلحاح  ، ولا تلك القوّة  في الإعصار   ،  مثلما لها في هذا العقد الأخير  من عمق الوعي بها ،   وشدّة القسوة في التفجير،  وتراكم مشاعر الإحباط ، والانسحاق ، والتّدمير في الشّعور الجمعي على مستوى الإحساس والوجدان ،  والضّمير ،  و ما يحمله النظام العالمي الجديد من زور ، وإحباط ،  ولهذا فلا يجب أن يرى نفسه« الفارس »الذي يركب  ذلك« الحصان» لأوّل مرّة   ــ التّعبير مقصود ـــ  والقضيّة ليست  في معرفة من أسقط الحصان ،   ومن ذا الذي ما يزال راكبا؟ وليست أيضا في التماس الأعذار لهذا  ،  أو لذاك  ….  وإنّما في« الأخلاقية الأكاديمية »إذا صحّ ذلك تجاوزا لأنّ صاحب  هذا الكتاب ــ  الدّراسة  ـــ   نظر إلى سابقاتها بتهاون (*) في الوقت  الذي تعرف مسبقا  : أنّ الموضوعية  والتّواضع ، والأمانة العلمية ،  وثقة النظرة  ، أ و لياقة التعامل مع الآخر من الأساسيات  ، وقبل الوصول إلى النتائج  ، بل من دعائمها  ، ومن جلب التقدير لها  ، لا سيما  والسّابق عن هذه الدراسة ــ الكتاب ــ  كان لها نوافذ إذا لم نقل أبوابا مشرعة للدخول  ،  ثانيا:  ولهذا كأنّ مصطلح»«جدليّة » مفروض هنا   ، في مطلع العنوان : «جدلية الثورة  والجسد في مسرحية السّدّ  »إذا عرفنا أنّ الجدليّة  طريقة في المناقشة  ، والاستدلال ،  ” الجدليّة المناقشة التي  تتميّز بالتّعبير عن آراء متضادّة “(18)   فأين مراعاة ،  أو فعل هذه «الجدلية »مع الآخرين  ـــ وإن عذر الفقدان ،  أو نظرة التّهاون  ، والتّصغير  تجاه الآخر  ، دون إبداء ملاحظات،   وتعليلات وأسباب  ، تبدو غريبة ،  ومرفوضة  ، ولا مسموعة في هذا المجال  ، وحجّة ضد الفعل ، على الرغم من دخولها بنا عنوة سوق السّباب ،   والاتّهامات  و ارتجالات الحين  ،  ويبدو أنّ الذي أوقعه في هذا  الإشكال الأخير  حول العنوان  أنّ «الجدليّة» لم تكن في تخطيطه  ، حين جاءته من لجنة القراءات بالمؤسّسة  التي طبعت الكتاب ،  وغيرّت عنوانه إلى «جدليّة الثّورة والجسد في مسرحيّة السَّدّ» (*) بعد أن كان «الماء الغائر  والفحل الحائر »(19) وعلى الرّغم من ضمّ صوتي إلى صوته  في الارتياح  بتحفّظ  لاختيار اللجنة  … فسيبقى العنوان مهزوزا  ومحمولا ، حائرا وملصقا … لأنّه لم يكن صادرا عن صاحب الدّراسة  ، ولا عن معاناة الحمل  ، والمخاض والولادة  ، حيث يُعتبر … نجاحا “لمّا  يسيطر الفنّان  على الفكرة المحوريّة  ـــ مهما  كان  عمله الفنّي  ــ ، موضوعة  في صدق وأناقة : اسما له ، لأنّ صنيعة  ذاك  يخبر عن استعداد  لتقديم خطّ فكريّ  مترابط الحلقات  في مقدّماته ونتائجه … أي هناك نظام يرتكز عليه ليصل إلى هدف معيّن واضح “(20) ومن هنا فهل كان العنوان الذي وضعه صاحب الدّراسة  أصلا وأساسا « الماء الغائر والفحل الحائر» يقدّم جدليّا فكرة متكاملة  عن مضمون السّدّ وأبعاده الرّمزيّة ؟  إذ يبدو كمن وضعه عنوانا لمقالة تبحث  إشكالية  غابرة مقحمة  على السّدّ  أو هي جزئية  ذاهبة في القدم ، تُذكّر بجمال وفحولة شعراء الجاهليّة  ، وتناحر قبائلهم حول الماء والكلأ ، الأمر الذي يأخذنا  إلى تتبّع خطّ فكريّ قاهر ، يشدّنا شدّا إلى مضمون السّدّ  ، وأبعاده المستعصية ، وهو غريب عن محتوى الدّراسة ــ الفهرس في جزأيه ــ بما اشتمل عليه من تنوّع في إثارة القضايا ، وترابط في تعاقبها ، لكن يبقى أنّ صاحب الدّراسة غلبه ـــ بل كان متقادرا على ــ التّفتيت والتّجزئة ، والـتّفجير ، وتتبّع الرّموز والقضايا : تحليلا وتفسيرا ، ومحاولات في الرّجوع بها إلى مسافاتها وتأثّراتها ــ لحدّ الإسقاط ــ إلى درجة أنّك ستجد  نفسك بصدد قراءة مقالات متتالية ، لما ورد في السّدّ  من قضايا : مفتوحة  للبحث ، أو أنّ صاحب الدّراسة ، قد فتحها ، فعل  هذا كلّه ، دون القدرة على التّجميع للخروج بخطّ فكري ثابت ، يبدو خاتمة الجدليات التي طرقها  ، على الرّغم من محاولته ذلك في الخاتمة التي جعل عنوانها« الوجود كمال الإنسانية » ولعلّه قصد  تلافي هذا ، فأعقبها بملحق :«جداول الأحداث بالبلاد التونسية من العصر الحجري القديم إلى سنة 1956»  فأفاد ، وأرهق في نفس اللّحظة ” مؤكّدا على جدليّة الأدب  والتّاريخ ” (22) كما قال باعتبار ” أنّ الأدب هو الوجه الثّاني للتّاريخ ، الذي يحمل بين جوانبه الذّاكرة للشّعب ” (22)  وهذا رأيي ، ينسحب على كلّ أدب وشعب ، وإذا كان هذا كلّه  ، يبقى أكبر وأشمل من العنوان  الأصلي :  «الماء الغائر والفحل الحائر »لأنّه  أصغر من أن يكون الخطّ الفكريّ ، ومحور الدّراسة ، فالعنوان المُتَبَنَّى ــ المقترح ــ «جدلية الثّورة والجسد في مسرحيّة الّسّدّ » يصلح ، لو يصبح جدليّة الثّورة والتّغيير (*) في مسرحية السد  لأنّه باختصار ، جميع من ، وما دلّ أو عبّر عن فكرة أو قضيّة ، أو رأي أنطقه المسعدي  بهدف الثّورة ، والتّغيير لإصلاح الواقع والأوضاع  ، ونشدان حرّيّة الإنسان ، ومسؤوليته وسيادته ــ قطعا للتّبعيّة ــ ليكتمل  الوجود  اللائق بإنسانية الإنسان  … فغيلان  المسعدي ، نذكره  ، فنذكر مع بعض الفروق  في التّناول،  والحدس :  نبي جبران ، مرداد نعيمة ، بروميثيوس  ، سيزيف اليونانيين … في الكونية المطلقة ، ونشدان الآلهة ، وفي حريّة الإنسان ومسؤوليته ، ثالثا : وهكذا … والخطّ الفكريّ  لم يتبلورــ واضحا  ولا حاسما بل حائرا ــ  لصاحب الكتاب ، ولم يتجمّع له محور متكامل ، مصاغ في عنوان صادق أنيق : اسما له  يخبر عن لبّه ومحتواه ، على الرّغم ممّا فسّره  وحلّله في جميع جدلياته بالدّخل والخارج ، ولعلّه ظنّ ذلك فقال : “عادة ما يكون الإهداء دالاّ على محتوى الكتاب ، وذلك يُصدّر المؤلّفون كتبهم  بإهداء مُعبّر ، ويذكرون فيه بإيجاز الشّخص المقصود بعبارات دالّة ” (23) لذلك  كان إهداء كتابه ” إليك  يا طفل الحجارة (*)أيّها المتحزّم بالأرض  القادم من رحم أمّ محمّد ، الخارج من صلب  أبي محمّد  ، إليك .. إليهما  … أهتف صادقا …”(24) فالخطّ الفكريّ لغيلان في السّدّ وثورته ، وإصراره على التّحدّي  يلتزم بالشّمول  الأزلي / الأبدي ، بالمطلق في الزّمان والمكان للإنسان ، بالكائن المناضل الإنسان ، في معنى من معانيه يبدو «إبليس »في ثورته ، هي الكونية الأزليّة الأبديّة في عمقها وشمولها : أسطورة وواقع ، لا تقع لغير ذاتها ، ومحتواها ، ونظامها ، وما عدا ذلك فهو قيد … وهي ترفض القيد ، لا تعترف بغير ذاتها ، كدت أراها  في المعنى المعاصر : الكاتب السوفياتي الكسندر زينوفيف (1922 ــ 2006) Alexander Zinoviev الرافض للاستسلام ،  والواقف دائما ،  والمعارض أبدا ، حيث رفض أيضا  السقوط الأخير متحدّيا ” أنا دولة حاكمة ، أنا الرّئيس فيها ، والمواطن الأوحد ، والأيديولوجي الوحيد ،  والعضو الوحيد في الحزب ، هذه الدّولة تُسمّى زينوفيف ، ولا أشارك فيها أيّ تكتّل ، لأنّني التّكتّل الأوحد “(25) فهو خارج الاحتواء ، وفوق السّقوط  وهكذا إذن ،  هذا الفهم أو المدلول يبدو واسعا  وفضفاضا على «القادم من رحم أمّ محمّد» «الخارج من صلب أبي محمّد»  و«عليها » في الذّهن والواقع  ، لأنّ هذا الطّفل المُتحزّم بالأرض ــ وعلى تلك الأرض قديما وحديثا ــ لم يقدم فقط من رحم أمّ محمّد ، ولم يخرج فقط من صلب أي محمّد ، إذن فما هي الدّلالة هنا ؟ لأنّ هذا الطّفل قد جاء أيضا من قنوات ، ومجالات أخرى … ومهما كانت أيديولوجية الكاتب ــ هنا ــ لا تقبل التّقييد زمانا ومكانا ، وعرقا ودينا ، إلى جانب أنّ «أطفال الحجارة » لا يخضعون لهذا التّحديد ، وأنّ المعنى الشّعبي المُتداول لدينا في المغرب العربي ، في إطلاق:« أمّة مُحمّد » ــ وصاحب الكتاب عاش في المشرق العربي ــ لا يلقى الرّواج هنا ، فالعربي قد يكون مسلما ، وقد يكون مسيحيّا ، ولا فرق لديهم ، فالأرض أساسا للجميع ، والنّضال يخوضونه ــ ونخوضه معهم ــ دون قيد أو شرط، إو إشارة إلى ما جاء في الإهداء ، وإذن  ماذا نقول في اللذين  لم يشملهم الإهداء  ، وهم في قلب المعركة ؟ مع الآخرين ، بل وعلى مستوى السّياسة ، والموجّهين ، والمشرّدين من أجل النّضال ، وكسب فعل العودة إلى الوطن ؟ ,إنّ بداية الخلق أو الإنسانية ، أو العربة ، أو النّضال ، كلّها معان لا تبتدئ ، ولا تنتهي عند القادم من رحم أمّ أو صلب أبي محمّد  الذي له عمقه  ، وتأثيره في التّاريخ الحضاري للإنسانية .

إحالات :

(17)نصر حامد أبو زيد ، قراءة في كتاب : تجديد النّهضة باكتشاف الذّات  ونقدها مجلّة العربي عدد 415 ، الكويت ،  جوان1993 . (*) ما يمكن الـعبير عنه بالنّقد والنّقد الذّاتي  ورفض الخضوع .(*) حيث يقول «هذه الدّراسة  كنت تقدّمتُ بها حلقة بحث  في كلّية الآداب جامعة دمشق ــ سورية ــ تحد إشراف ، الأستاذ الجامعي   السّوري ، الأديب ، النّاقد  د .  نعيم اليافي (1936ــ 2003 ) مدرّس مادّة الأديب الحديث ،»انظر ، الهادي غابري ، جدلية الثّورة والجسد في مسرحي’ السّدّ  ، ص 5 (*) يقول «… ذرعت شوارع دمشق  بحثا عن بعض المراجع ، لدى الطّلبة التّونسيين  المسجّلين بالمدارس الثّانوية  الحرّة السّوريّة ، فكان الطّلب غريبا ، وفي كثير من الأحيان أعثر ، عند هذا أو ، ذاك  على مرجع لا يفي … بالغرض »، انظر ،  جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد ، ص5  ، وللتّاريخ فقد أعجبني جدّا وصفه لموقف التّونسيين ، وهو يطلب منهم مراجع عنّ مسرحيّة السّدّ  فكان الطّلب غريبا  ، وكأنّهم  ارتحلوا إلى دمشق  ليجدوا في انتظارهم  دراسة السّدّ بمدارسها ، فهم قبله يعرفون ــ أو بعده ــ أنّ السّدّ  ليس بمقرّر دراسي في برامج التعليم بسورية  ، لماذا إذن  حمل ما كتب عنه إليها ؟ (18) انظر المعاجم (*)  لا أعتقد لهذا العنوان  مجال ركوب على دراسة السد ، بل هو في صميم  لما جاء على نمط  الأديب المصري إحسان عبد القدوس (1919 ــ 1990)، أو لرواية موسم الهجرة إلى الشّمال للأديب السّوداني الطّيّب صالح (1929 ــ 2009) ، وقد يركب أيضا دراسة عن رواية «حدّث أبو هريرة قال …» للأديب محمود المسعدي  ، نُشِرت لأوّل مرّة  بتونس ، سنة 1973 .(19)الهادي غابري ، جدلية الثّورة والجسد في مسرحيّة السّدّ  ، ص 8(20)في النّقد والثّورة : تسمية العمل الفنّي ، ص 172 ، الحبيب محمد علوان ، مكتبة عالم الكتب ، القاهرة 1976 .(21)الهادي غابري ،  جدلية الثّورة والجسد في مسرحيّة السد  ، ص 330 .(22)م .ن ، ص 330 (*) انظر لتوضيح الفكرة رسالة مفتوحة في الثّورة والتّغيير ، في كتاب : في النّقد والثّورة ، مكتبة عالم الكتب ، القاهرة 1976 .(23)جدلية الثّورة والجسد في مسرحيّة السّدّ ، ص 168 .(24)م . ن ، ص 3 ، وللتّاريخ فإنّ المقطع الشّعري ، الذي عقِب الإهداء ، أكثر دلالة  ، وقربا من الخطّ الفكري في السّدّ ، هاتفا إلى طفل الحجارة ، يشرح ويحدّد ، ويفسّر هويّة هذا الطّفل  الملتزم بالثّورة والتّغيير .(25)محمود قاسم ، خيانة الوطن  بين الأدب والسّياسة ، مجلة الهلال ،  عدد ماي ، القاهرة 1993 .

قراءة  في كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد ، 3 / 3

بقلم :الحبيب علوان

يواصل الأستاذ الحبيب علوان في هذا الجزء الثّلث والأخير من بحثه النّقدي  فيس كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد  ، وهو للكاتب الأستاذ الهادي غابري ، صادر عن دار الأخلاء لأبي وجدان ، الصادق شرف … يوصل النّظر في بعض جوانب  الكتاب .

ــ على الرّغم من عمق معنى المأساة في أدب المسعدي ، وفي السّدّ بخاصّة ــ لظروف في التّكوين ، وفي التّأثّر ، وفي التّوجّه ، وفي العصر ـــ حيث الفرد ــ آنذاك ــ بقناعاته المطلقة ، وبطولته الفردية  الفاعلة ، فإنّ صاحب الدّراسة / الكتاب ، حاول التّوجّه إلى الملهاة / الملحمة  مركزا على  المساق السّياسيّ ، سعيا لنهضة الشّعب وحرّيته ” لتأسيس ملحمة الخلق الكبير ” (26) كما قال ،  وهي  محاولة  كادت تطمس في السّدّ  المساق المبدئي الثّقافي  الفكري الأخلاقي  الذي به  يستقيم المساق  السّياسي في موقعه وتوجّهه  ونجاحه  ، بقطع النّظر عن الانتهازيين  الجدد في المساقين ــ وقد كان تركيز العهد الأوّل  على أساسيات الدّولة الحضاريّة واضحا ،  ليواصل بعد ذلك البناء ، السّدّ فكر قبل أن يكون سياسة ــ مع إبداء التّحفّظ  في هذا الفصل، الذي لا أعتبره قاطعا ، ولا معمّقا ــ وغيلان بطل كوني  في تفكير المسعدي ، قبل أن تكون له حدود  جغرافية أو تضاريس بيئية  ، وإذا كانت ، فهي رموز وأسباب وعقبات ، وقد سايرت صاحبة التّقديم صاحب الكتاب  في تغليب المساق السّياسي للتّفسير  والتّحليل على غيره ، لذلك أخذت منه عبارة  ملحمة الخلق الكبير عنوانا لتقديمها متخلّية  عن لتأسيس … في آخر ما جعله تحت عنوان الاتّجاه ، فقالت ” وإذا فهمنا أنّ غيلان في مسرحية السّدّ  أراد الخلق ، وهذا لا يعني  مشاركة الخالق فعله ، وإنّما أراد غيلان البعث ، أي بعث الشّعب التّونسي  من سباته تحت واقع سطوة التّصوّف والرّضوخ إلى سلطة الباي الصّوريّة  ، وسلطة فرنسا الاستعمارية ، فكان سلاح غيلان في هذا البحث المتميّز ــ الماء ــ وهو السّلاح الذي ارتبط  في ذاكرة الشّعوب  بالحياة والسّلم ” (28)  فمنذ البدء أقول ــ هنا ــ إنّ توجّه المسعدي في السد  ، لم يكن كشف القهر السّياسي  فقط ، هو أساسا كشف القهر الفكري  والحضاري ، ، ومعاناة القضيّة الوجوديّة  في شمولها  التي في محتواها السّياسة ، وهي تأتي بعد الدّين ، أو ضمنه ، أي أنّ غيلان في السّدّ يتوجّه إلى أن يكون له ــ وجوديا ــ موقف  من هذه القضايا الفوقية في الكون ، دون التّقيّد بزمان ومكان على وجه الإلزام ، وقياسا إذا كان بروميثيوس ـــ قديما ــ نزل بالنّار إلى الأرض ، فإنّ غيلان ــ حديثا ــ أراد توفير الماء  سدّا على الأرض ــ أيضا ــ للإنسان تحدّيا  للقوى الأخرى  مهما كانت ، فهدفه الفعل  بحرية وتلقائيّة ، رفضا لجميع التّبعيّات والعراقيل ، في النّفس وفي الواقع : أي أنّ الفكر هو الذي يوجّه السياسة ، وتكون من محتواه ، وليست السياسة هي التي تُوجّه الفكر ، ويكون من محتواها حيث مرّت أجيال ، توارثت هيمنة السياسي على الثقافي لملابسات وظروف ” لأنّ الوضع الدّولي الذي كان سائدا كان محكوما بالصّراع الأيديولوجي  بين الغرب الرأسمالي ، والمعسكر الشيوعي ، وهو صراع كانت له امتدادات مباشرة في جميع الأقطار ، ممّا جعل الإيديولوجية  تهيمن على الثّقافة ، مكرّسة أولوية السياسي على الثقافي كقاعدة عامة ” (29)  وقد ثار المسعدي على هذا الإلزام السّياسي / الأيديولوجي لصالح الإلزام الفكري  الثقافي وكأنّه يقول في هذا السّياق ” فالسّياسة سلطة ، والثّقافة حرّية .. ونقطة البدء في ذلك يجب أن تكون تحرير الثّقافة من السّياسة (30) وهو ما كان له من ضجّة في أثناء فعاليات مؤتمر (*) الأدباء العرب بالقاهرة سنة 1957 ، ولا أقول إنّ السّدّ عمل محايد … لا ، إنّما هو في صميمه عمل ملتزم ، ولا يلزم أحدا بشيء  … لأنّه في حرية الانسان  ، وفي تحرّره ، وفي رفض التّبعيّة والإلزام .

خامسا :  ولا أحسبني متناقضا ، ولا متردّدا ــ وانطلاقا من تغليب المساق السّياسيّ في تحليل  وتفسير صاحب الكتاب للسّدّ ــ لو جاء العنوان : جدلية المعتقد  والسّياسي في مسرحية السد ، أو جدلية الدّين  والسّياسة في مسرحية السّدّ  لأنّ حضور المعاصر الذي ساد تفسيرات صاحب الكتاب ، وإسقاطاته لإخضاع أفكار المسعدي ورموزه في السّدّ ، يلائم كلّ ذلك أحد العنوانين ، وتبرز الرّؤى هادفة وصائغة ، وقد تضافر القديم والجديد  في تقديمها واضحة  ، وذلك من خلال ما اجتهد فيه  صاحب الكتاب  من”ربط الأثر بالتّراث العربي و الإسلامي وبالتّراث العالمي  من قصص وأساطير ، تعيش في الوجدان الشّعبي ، وفي الذّاكرة الجماعية لهذا الشّعب أو ذاك” (31)  وفي الحقيقة أنّ صاحب الكتاب ــ باعتماده على مطالعاته   الواسعة والمتنوّعة ــ وجد الطّريق أمامه مفتوحة ، فسار ودار ، وتوقّف كما يريد ، وقد أضاف وأفاد ، ولا أبالغ إذا قلت : كن وجد أمامه : عناوين ، ومفاهيم ، وطلاسم ، ورموزا ، ، وأفكارا دالّة … عليه حلّها  وتوضيحها ــ من وجهة نظره  ــ اعتمادا على ثقافته والعصر  ، وما يتطلّب ذلك من مسافات ، وقرائن ، فاجتهد ربطا بالأصول والجذور ، والعصور والمناسبات ، ليصل إلى الملائم ، وما يمكن أن يكون فيه التّوصيل ، حسب ثقافته  ، واطّلاعه  ، وتوجّهه ، ومشكلات العصر ، كلّ ذلك حدّد له الانتهاء ، حيث الانتهاء الحقيقي في هذا المجال ، لا يأتي … ولا ننسى أنّ النّظرة إلى السّابقين  ، كانت جامدة وذات عنتريات … على الرّغم من عدم نكران الاستفادة من التّراكم الزّمني ، والمعرفي الفاصل بين ما كُتب  من قَبْله عن السّدّ ، وبين كتابه عنه .

سادسا : معذرة فلأوّل مرّة أقرأ كتابا عن السّدّ  أجد  فيه هذه النّكهة العميقة ، أو هذه الجدليّة الغنيّة ، الحاصلة من تفاعل النّصّ  مع قارئه ، اتّفاقا مع رأي رالف ستيجر في هذا المجال عندما يقول ”  «القارئ يحمل  إلى  الصّفحة  التي يقرأها  عالمه الخاصّ ، هذا يثري قراءته لأنّه عندما يكون هذا  العالم عقيما مجدبا ، فإنّ ذلك يقلّل من قدرته على تأويل أفكار الكاتب …» ، وفهمها  حتّى أنّي هممت باقول : لقد السّدّ بما  يحمله من قراءات ، ودخل هذه القراءات ، وهو يحمل السد  فمن هذا التّفاعل  ، أو التّلاقح ، تولّدت  هذه الخصوبة  ، وتلك النّكهة  ، وللتّاريخ فإنّ صاحب هذا الكتاب قرأ السّدّ كمن لم يقرأه أحد مثله  من قبل ، فجاء محملا إليه بإمكانات في الثّقافة  ، والإطّلاع والتّحليل  والتّفسير والإسقاط ، لم يحملها أحد من قبله  بنفس النّوع  ، والاتّساع  مع الإفادة  من سابقيه  ، وقد كان ثاني كتاب (*)  في التّلقائيّة المبدعة  عن السّدّ دون التّفكير في ربح مادي أو تجارة  من صاحبيها أوّلا ، ولأوّل مرّة أجدني أكتب عمّا كُتب عن السّدّ  :  ــ أي نقد النّقد ــ   ، وكأنّ الذي أقرأه في هذا الصّدد ، تركته ليتناوله صاحب الكتاب .

إحــالات :

(26) الكتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد (27) م .ن ، ص 5(28)  م .ن ، ص 11 (29) مجلة المستقبل العربي ،  محمد عابد الجابري ، الثقافة العربية اليوم  .. ومسألة الاستقلال الثقافي ، أوت 1993 ، بيروت  ــ لبنان (30) م .ن .(*) انظر وثيقة أعمال مؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة  سنة 1957  ، كلمة المسعدي . (31) جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد  ، ص9 (*)  أوّلها  محاولة  في فهم رواية السّدّ  كتابة سنة 1966 ، وطباعة سنة 1976  بالقاهرة ضمن كتابي  في النّقد والثّورة ، ثمّ طباعته مستقلاّ باقتراح من النّاشر  في تونس سنة 1979 ، وقد تركته على تلقائيته الأولى على الرّغم من من اقتراحات  والمهتمّين ــ مشكورين للاهتمام ــ بإعادة منهجيته تبويبا ، وتنقيحا ، وتوسيعا وإضافات ، فكنت أجيبهم : أحبّذ فيه تلك التّلقائيّة الأولى ، والعفوية والصّدق مع النّفس والواقع ، آنئذ وهو سيصدر هذه الأيّام في طبعة خامسة ، والزّميل الكاتب قد استفاد من هذه الفجوة الزّمانية  ، ومن التّراكم المعرفي  والثّقافي في المجال  ، ومن بقاء القضايا  المعاصرة  مفتوحة دون انتهاء إلى حلّ أو غلق لأنّها قضيّة  الإنسان ــ كيفما كان وأينما كان ــ في التّحدّي ورفض الظّلم  والتّبعيّة والانسحاق والانغلاق ، وتجمع بين الكتابين تلقائية أكاديمية ولدت في المشرق ، وترعرعت ، وأثمرت في المغرب معرفة وجهودا وإنارة .

 

 

 

حول نقد النقد لكتاب جدليّة الثورة والجسد في مسرحيّة السَّدّ : ما أحوجنا  إلى النّقد في أدبنا التونسي 1 / 2 *

بقلم : د . الهادي غابري

مدخـــل

طالعتنا جريدة الصباح التونسية ، خلال ثلاثة أسابيع متتالية : 16 و23 و30 نوفمبر 1993 بدراسة مطوّلة ، تحمل عنوان:  قراءة في كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحيّة السّد ، للأديب التّونسي محمود المسعدي (1911 ــ 2004)، بقلم الأستاذ الناقد الحبيب علوان ،  وهذه الدراسة المعمّقة كانت موثّقة  توثيقا تاما ، يدلّ على عناء صاحبها ، ودقّته في  المصادر والمراجع ، حتى يستطيع الاضطلاع بمهمّة نقد النقد،  هذه المهمّة الشاّقّة  الغائبة في وسائلنا الإعلامية ، إلا أنّ الأستاذ الناقد الحبيب علوان ،ما فتئ يتحفنا بين الحين والآخر ، بدراسة في هذا الكتاب، أو ذاك  مضحّيا ماديا ومعنويا  في سبيل إثراء الحركة الأدبية  التونسية ، فقيرة الحال في مثل هذا النشاط الأدبي  ، وإنّه لمن” المؤسف حقّا أن تطالعك الصّحف اليومية والمجلات  ، وكثير من الكتب بما نسمّيه قشور النّقد … أمّا نقد النقد فلا أثر له “(1) أمّا الأستاذ الحبيب علوان ، فهو يحاول من خلال مقالاته  هتك  أحجبة الصمت المضروبة بإتقان،  حول النقد الأدبي بتونس،   وهذا الإقدام فيه من الجرأة  ، والمصداقية  ، والحقائق الشيء الكثير ،  لأنّ الأستاذ الناقد  ، لا يجامل ، ولا يتطاول ،  وإنمّا همّه الصّدح  بحقيقة النصّ والكاتب معا ، وذلك لكشف مواطن الإبداع عند هذا،  أو ذاك ،   وفي هذا الكشف ، تبرز قيمة النّاقد  لأنّ ” النّاقد هو الآخر،  لا وجود له من غير الكاتب ، الذي يقدّم له مادّة نقده ، وهو أي :النّاقد ، مبدع آخر  ، عندما يرتاد مع هذا الأخير ، آفاقا ورؤى وأفكارا،  لم تكن في بال الأوّل ،  وبذلك  لا يكون النّاقد مجرّد واصف ، أو مقوّم للأثر الثقافي ، بل مبدع له أيضا  ،أو مشارك في الإبداع ” (2) والأستاذ الحبيب علوان ، أبدع في نقده لكتب تناولت مسرحية السَّد لمحمود المسعدي،  ونذكر من هذه الكتب: مأساة الخلق  والفعل في مسرحية السَّد، تأليف الأستاذ  التونسي : الأديب الشّاعر ، عبد الرحمان الكبلوطي ، ومجموعة من الأساتذة  ، ثم قراءة في تقديم توفيق بكار لرواية السّدّ 1992 ” (3) ، وكان الأستاذ الحبيب علوان ، تربطه علاقة ودّ ، ومحبّة مع نصّ السَّد  ، فهو النص المقدّس  عنده  ، وكل من لامسه يجني سيلا من النقد  الهادف ،  يسبره قلم الأستاذ الحبيب علوان ،  بأناة وصبر ، ودقّة مثلما  بنى غيلان سدّه  ، لأن ّالأستاذ علوان ناقد ماهر ، ويعرف أين  يضع الكلمات  ،مثلما يعرف غيلان أين يضع الحجرات  ولذلك كان نقده لكل الكتابات حول السَّد  ، يخضع  إلى مقاييس علمية  ، موضوعية ملتزما ” بالنقد الحرّ المسؤول ” (4)  محاولا التمييز ، والاختيار ،  وقد ورد في المعاجم ” تمييز الدّراهم ، وإخراج الزّيف  منها: أي تمييز جيدها من رديئها ، والنّقد أن يضرب  الطائر بمنقاره : أي بمنقاره الحبّ ،يلتقطه واحدا ، واحدا ” (5) ومن المجاز في النّقد ” اختلاس النظر نحو الشيء ، ومازال فلان ينقد بصره إلى الشيء ، إذ لم يزل ينظر إليه ” (6) وكذلك فعل الأستاذ الحبيب علوان في نقده للدّراسات المكتوبة ،حول مسرحية السَّد،  إذ كان يختلس النّظر ليعرف مواطن الجودة، والرّكاكة في بعض الدّراسات لأنّ ” النّظر المستقيم المباشر في عملية النّقد ، تُفضي بنا إلى أكثر الملامح الخارجية، التي غالبا ما يختبئ وراءها ، ما هو مغاير،  ومعاكس ،بالاختلاس  وحده : أي النّظر إلى ما وراء السّطور والرّسوم  ،والأصوات نعبر الكون إلى أرجاء الحقيقة ، ومكامنها ” (7)  علما أنّ عملية اختلاس النّظر، ليست بالعملية السّهلة  في العمل النقدي، الذي يمارسه الأستاذ الحبيب علوان ،  لأنّه يمارس عملية خطرة ، ومضنية ،  وهي نقد النّقد  تستدعي فارسا متمرسّا بفنّ الفروسيّة، بدءا من النّقد ،هذا الجواد لا يتحكّم في لجامه إلاّ فارس ناقد ،يرى ما لا يراه الغير، إذ يقلّب الكتابات النّقدية على وجوهها المختلفة، ليعرف معاناة النّاقد الحقّ في معالجة نصّ السَّد ، الذي أراده المسعدي مؤلّفه سَدّا أمام النّقاد  والباحثين،  إلاّ من استطاع ولوج هذا السَّد النّصّ  بعد معاناة ومخاض ولادة عسيرة ، لكتابة نصّ نقدي يفتّت نصّ السَّد ،لأنّ هذا النّصّ “حجريّ  وفي البداية كانت الحجارة سلاحا  ، ومنها نار الصّوّان “(8)  ورغم هذا النّصّ الحجريّ في السَّدّ ، فإن الأستاذ الحبيب علوان ، يُصرّ في كل مرّة أن يكتب نقد النّقد الحجريّ  متجاوزا الأقاويل  ، وكل المخاوف التي يرويها البعض حول  سلطة هذا النّاقد ــ المحتكر لنصّ السَّد ــ  ،فنقده مقدّس  ، وهو القول الفصل ،  ولذا يستحيل تجاوز رأي ذلك الناقد ، وبذلك أغلقت أبواب النقد في وجه الآخرين ،بسبب خوفهم  من الكتابة في أدب المسعدي ، لأنّ فلانا لم يأذن لهم فوجب استشارته ، وإلا تعرضوا إلى غضبه  ، والى غضب أتباعه ، وكأنّ أدب المسعدي حكر على جماعة معيّنة ، فأصبح ملكا خاصا لها ، و أتساءل متى كان  الأدب ملكا لفلان ، أو الناقد فلان ؟ أليست هذه بدعة أدبية في تونس وخدعة كبرى لأجيالنا ؟ وكذبة كبرى يروّجها  أدعياء المعرفة ،  ومثل هذه  الإشاعات جعلت أدب المسعدي يُحشر لفترة طويلة ضمن خانة أدب العبث ، وأدب الخرافات والغيبيات إلى حدّ تشويه صاحب الأثر  نفسه  محمود المسعدي ،  ولا يخفى على أحد ما يُروّج حول المسعدي سياسيا ، قصد التعمية على أدبه  ، وهذا في حدّ ذاته جريمة  في حقّ الثقافة  التونسية ،  وكأنه مكتوب على الأدب التونسي ، وخاصّة  بعض أعلامه : أبو القاسم الشابي ،محمود المسعدي وغيرهما …أن يكون نصيبهم الغبن بسبب الحسد والغيرة ، مصدره داخلي : أبناء الوطن ، من جهة أولى ، وبسب عوامل أخرى دخيلة خارجية ، من جهة ثانية  ، والقصد منها الحطّ من قيمتنا الأدبية في تونس  ،  من يقف وراء ذلك ؟  وأمام هذه الظواهر الثقافية الجامدة في بلدنا ،فإنّ مهمّة النّاقد الحقّ صعبة جدا،  لأنّ الأسهم ستُوجّه إليه من كل صوب ،  غير أن الأستاذ الحبيب علوان آمن أنّ ” النّقد وظيفة اجتماعية ،ومهمّة ثقافية لها دورها في الحقل الثقافي العام ، الذي يؤكد رقي الأمم وحضارتها ، فتنتظم فنونها وآدابها ، وتتأطّر نتاجاتها داخل مذاهب فكرية واضحة الحدود والمعالم ،  وتنقّي الفوضى التي تتّخذ من الحرية المطلقة مطيّة لتستر العجز الإبداعي “(9) في النقد وغيره ، وقد وعى الأستاذ الحبيب علوان عجز بعض الواهمين الذين يدّعون ،أنّهم يفهمون دون غيرهم في أدب المسعدي فنقدهم دون مهادنة أو خوف،رغم مكانة البعض السياسية  في السلطة القائمة بتونس  ، وقد نالوا شهرة نقدية بين أوساط طلبتهم فقط ، وهذه الشهرة كسبوها بتبنّي المذاهب الاشتراكية ــ موضة لكسب صفة تقدّمي ــ  في النقد الأدبي ــ خلال المدّ الشّيوعي سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ــ   نقد الأستاذ الحبيب علوان لتلك النماذج  النقدية  ، لا يخلو من غمزات ، وهمزات ساخرة ، تشير إلى ضعف وسذاجة فكر أولئك النقاد ، الذين احتكروا أدب المسعدي ،   فروّجت لهم أبواق السلطة بأنهم القول الفصل في هذا الأدب الرمزي ، الذهني  الغامض ، فنالوا مكافآت مختلفة وتسلّق بعضهم رُتب التعليم العالي ، وملفّه خال من المؤهّلات العلمية ، بيد أنّ طلبته يتفوّقون عليه بشهائدهم العلمية ،يمتاز الأستاذ الحبيب علوان بجرأة نقدية ،  مكّنته من بيان عديد الثّقوب الموشومة في كتابات أولئك أشباه النّقّاد الجامعيين وغيرهم ، وكان طريقه في النقد وعرا ، وملغوما بسبب غياب الحرية الفكرية في تونس  ، وهي  عامل هام في النقد الأدبي ،و دونه تُشلّ  الحركة النقدية ، وهذا العامل هو ” الحرية التي تُعدّ العامل الأكبر في مسيرة الثقافة الإبداعية والنقدية ” (10) ونحن في تونس نفتقر إلى أقلام مثل قلم الأستاذ الحبيب علوان الثّائر أبدا على كل النصوص النقدية المدغدغة  لنصّ السد دون الغوص في عمقه لاستخراج الدرّ المخفي وراء الكلمات ، وهذا النقد في كتابات الحبيب علوان ، رغم عنجهيته  وجموحه في بعض الأحيان لبلوغ الأسمى  ، هو نقد يدعو إلى قراءة متأنّية عميقة بعيدة عن الأيديولوجية ، والتعصّب الأعمى يسارا، أو يمينا لأن التعصّب معادل للجهل ، وإذا تعصّب النّاقد للنصّ المنقود فقد قبَره حيّا ، وفي ذهنه أنّه أحياه،  وأعطاه من روحه ، وهذا هو الذي حصل لنصّ السَّد في العديد من القراءات السّريعة التي لا تدل على إحساس بالمسؤولية ، تُجاه الأجيال، وتُجاه أدب المسعدي ، وخاصّة في نصّ السَّد الدّاعي إلى الخلق والفعل ، فكيف نقبر من يدعو إلى الحياة وإلى الماء وإلى النّور؟   نقول هذا لثقل المسؤولية ، نحن جيل الشّباب النّقّاد ، لأنّنا تناولنا نصّ السَّد بالنّقد ، فاعترض كثيرون ، وحاولوا صدّنا ، وحجتهم  أنّنا نرتكب  المحظور ، اذ لا يمكن  لنا ولوج عالم نصّ السَّد نظرا لحراسه الكثيرون ،  هم يعاقبون من تحدّثه نفسه بالكتابة حول السَّد  ، ويعتبرونه مارقا  ، متمرّدا على سلطتهم النقدية  ، وأمّا  أساليب عقابهم متنوّعة وخفيّة ،  فكيف تكون ؟  ومتى تحدث ؟  وقد صدر هذا  التّحذير ترهيبا  لنا من أرباب مهنة القلم : أساتذة مثلنا بالتعليم الثانوي ، وآخرون بالتعليم العالي ،  ونتيجة ذلك قاطعني زملائي بالجامعة من طلاّب المرحلة الثالثة  ، فأشفقت على حالهم  وسذاجتهم ،  فتساءلت هل أعرف أحدا من هؤلاء  أشباه  النّقّاد الجامعيين ؟   أو سبق لي أن تتلمذت  على أحدهم ؟ ولماذا يصفني بالمتمرّد ؟  وفي الحقيقة كنت طالبا  في الحلقة الثالثة  بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس ــ مستهلّ بداية التسعينيات من القرن العشرين ، وأستاذا بالتّعليم  الثّانوي في آن ــ كنت جاهلا بأسماء من يصفني بالمتمرّد ، كانوا أشباحا في نظري ، لم يواجهوني ، حرّضوا ضدّي قطعان الضّباع من طلبتهم ،فاستغربت كيف يقع التعرض لي ،  وتحذيري بعدم نشر أيّ دراسة حول السد،  فهل هذا إرهاب للفكر؟ أم وضع عراقيل للنقاد  الشّبان لإلزامهم الصّمت ؟ ولمّا تكاثرت التحذيرات ، قرّرنا نشر دراستنا حول مسرحية السدّ ، فتفضّل بنقدها  الأستاذ الحبيب علوان ، نقدا مطوّلا ، فرأينا الرّدّ عليه ، لأنّه حرّك فينا مواجع كثيرة . (يتبع)

 الهــوامش :

(*)      جدليّة الثّورة والجسد في مسرحيّة السَّد ، لصاحبه الهادي غابري ، نشر مؤسسة أبو وجدان للنشر والتوزيع ، ط1 ،سبتمبر ، تونس 1992  .(1) انظر، مقال ياسين الأيوبي ، النقد وأثره  في النشاط الثقافي ، مجلة الموقف الأدبي ، عدد 169 ــ 170 دمشق 1985 سورية . (2) انظر، المقال السابق .(3)  انظر، جريدة الصباح ، بتاريخ 05 ــ 01 ــ 1993(4) أنظر ، مقال ياسين الأيوبي السابق  (5) انظر، تاج العروس ، وزارة الإعلام ، الكويت ، مجلد 9 / 230  (6)انظر، المصدر السابق  ، ص231(7)انظر ، مقال ياسين الأيّوبي السابق(8)انظر ، الهادي غابري  الشكل الفنّي في مسرحية  السّد ، مطبعة حاتم أصلان،  ط1 أكتوبر 1993 ، ص 171(9)انظر ، مقال ياسين الأيوبي  السابق(10)انظر ، نفس المقال السابق  (*)نُشِر في الجريدة  اليومية التونسية :الصّباج  بتاريخ 14 ديسمبر 1993 ص 9

 

حول نقد النّقد لكتاب : جدليّة الثّورة والجسد في مسرحية السَّدّ2 / 2 (*)

بقلم ، د : الهادي غابري

1 ــ في الأخلاقية الأكاديمية :

يتحدّث الأستاذ الحبيب علوان عن الدراسة الأكاديمية قائلا ”  والمعروف أيضا ــ أنّ دراسة الأكاديمية  ، أو التي لها هذا الطّموح ــ عندما تتصدّى لمعالجة ظاهرة أو قضيّة ، أو موضوع م ، وقد حرّك صاحبها إغراء ، أو ضغط ، أو دافع ما للفعل والانجاز ــ لظهور نقص أو لتجديد يتجاوز به الموجود ، يتعيّن حينئذ أن تُقدّم تلك الدراسة برصد تاريخي تقويمي نقدي ، لما سبقها في الموضوع ، اعترافا لما قبلها ــ ولا نقول الرّيادة ، إنّما البداية ، فنقف على ما كان … انطلاقا منه إلى ما سيكون ، تحقيقا لغايات فكرية ، أو لمواصفات في الدراسة  والنّتائج المنشودة ، وإنّما نعلّل لماذا وقع إهمال الموجود بالصّمت عنه تماما ؟ إذا كنّا ننوي البقاء في مجال البجث الأكاديمي .. والموضوعي ” (1) . إنّنا نشاطر الأستاذ الحبيب علوان رأيه هذا ،  ولا نظنّ أنّنا غفلنا عنه في كتابنا ، وإنّما أشرنا إلى ذلك ، إذ بيّنا، الصّعوبات التي اعترضتنا في انجاز هذه الدّراسة التّحليلية بكلية الآداب ، جامعة دمشق ، سورية (2) . ولا يخفى على أحد شدّة الصّعوبات التي حاولنا تذليلها لانجاز حلقة البحث ــ في السنة الرّابعة آداب عربية للتّخرّج ـــ  وهي متعلّقة بمسرحيّة السَّدّ للأديب التونسي محمود المسعدي ـــ في الكلية المذكورة آنفا  خلال السّنة الجامعيّة 1985 / 1986 ، فكان ضرورة  أن نقدّم البحث على جذاذات تتضمّن الشّواهد  ومخطّط البحث  وقائمة المصادر والمراجع ،  ومراجعة الأستاذ المشرف في كلّ مرحلة إلى حين ختم البحث خلال ستّة أشهر  ، و هذه كانت  محاولة أولى للتّدريب على البحث الأكاديمي الجاد ، ولا نعتقد أنّ هذا الجهد هيّن ، وخاصّة ندرة المراجع  في المكتبات السّورية المتعلّقة بالأثر المدروس  ، لم نيأس، فقد طرقنا باب جهات رسمية تونسية منتصبة بدمشق ، فكان ردّها  خبيثا ، سلبيّا  ،بحجّة :أنّ تونس  لا تملك مركزا ثقافيا بدمشق ، والغاية الحقيقية هي طمس أدب المسعدي ، ورغم الأبواب الموصدة تفضّل علينا طلبة عرب وافدون ، وسوريون ، وتونسيون …ببعض المراجع ، وكان الأستاذ الجامعي ، الناقد ، الأديب السّوري : د . نعيم اليافي(1919 ــ 2008)رحب الصّدر ، يقوّم ما اعوجّ في حلقة البحث  ، ولذا نحن ندرك قيمة البحث الأكاديمي ، ولم نكن قطّ نتجاهل جهود غيرنا السّابقين ، فهم لَبِنة أولى طيّبة في تحليل ونقد مسرحيّة السّدّ، وليس من قيمنا وأخلاقنا نيّة الصّمت عن تلك المحاولات السّابقة لنا ، ونحن لسنا من دعاة المؤامرة ، أو القتل بالصّمت ــ وهي من شيم اللّؤماء ــ نحن كنّا  ومازلنا  صوتا عاليا صادحا بالحقيقة ، وقد حصدنا جرّاءها   تجفيفا في الرّزق  ، واقصاءات عديدة ، دبّرتها خفافيش الظّلام: هم أدعياء الثّقافة والدّيمقراطية ، وحقوق الإنسان والتّقدّمية ، فضلا عن ملاحقتنا  بكيل من الشّتائم والإشاعات التي برع فيها أشباه الجامعيين التونسيين  ،

وعكس هؤلاء نهض الأستاذ الحبيب علوان ، فأفادنا بنقده ، وصدح بأنّنا قمنا ” بإسقاطات ” (3) في تحليلنا و” الإسقاطات تفسيرات تعكس آراء أصحابها  ومشاغلهم الفكرية  ، والرّوحيّة ، أكثر من أيّ شيء آخر ” (4) ومن المعلوم أنّ مسرحيّة السّدّ بناء فنّي ، وفكريّ بالّدّرجة الأولى ، وهو ما جعلنا نطنب فيه الجدل  والتّأويل ، فهي مسرحية حبلى بالهموم  والمشاغل الروحية  ،والعقائدية والسياسية ، والاقتصادية والاجتماعية ،  والدينية والثقافية واللغوية  ، ما دفعنا إلى عدم  الاطمئنان إلى تفسير ، أو رأي  واحد ، والاتّجاه في البحث ” هذا يذكرنا بالأعمال الفنّية الكبرى التي لا تحمل وجها واحدا قاطعا . فالقطع  والتأكيد ليسا من صفات الكائن الحيّ .  ولكنها صفات الموجودات المادية الجامدة .  ولنذكر مثلا تلك التفسيرات العديدة التي قدّمها النّقّاد لشخصية ــ هَمْلَتْ ــ أو لغيرها من الشّخصيات المعروفة في الفن الإنساني . وليس التّعدّد والاختلاف في التّفسيرات قاصرا على الشّخصيات الفنية وحدها ، بل هناك أيضا تعدّد و اختلاف   في التّفسير أمام كثير من الأعمال الفنّية ” (5)  وإيمانا منّا بان الاختلاف ضروري للتقدم الفكري والحضاري ، والإنساني  عموما  ، جعلنا لا نرى الرؤية نفسها التي درج عليها غيرنا في  تقييمه لمسرحية السَّد   ، والحال  أنّ  هذا البحث ، قد تمّ خارج حدود الوطن ــ وأنا مغترب بالمشرق العربي ، كنت مشتّتا بين طلب العلم  ، وبين تأمين لقمة العيش ليلا بفنادق ، وشوارع دمشق  ، فلم أكن ممنوحا من أيّ جهة كانت  ــ  وتلك الحالة  أضفت على البحث  تفرّدا ، ورؤية جديدة منفتحة على الآخر ، منطلقة من منابعنا الفكرية ، و تقليبنا للفكرة الرّمزيّة على وجوه عدّة ، في هذا الأثر  الذي وجب  الحفر فيه بأدوات فنية جديدة ، وِفق هندسة حديثة ، تطمح  إلى الخلق والإبداع ، لأنّ المسعدي مهندس أدبي  ، ولا يُواجَه ، إلا بهندسة  وتخطيط  ، من شأنهما تمكيننا من فكّ بعض الرّموز الغامضة في السّدّ . ليس من شيمنا النظر في هذا المرجع أو ذاك بازدراء، أو تصغير ، وإنّما الظّروف الحافّة بنا خارج الوطن ، ثمّ داخله  ” هي التي جعلتنا لا نأتي  على كل الدراسات حول السّدّ “(6) وكنّا “ذكرنا ذلك في الدّراسة “(7) ، ثمّ نذكّر أنّ دراستنا هذه ، ليست  هي الكمال أو النّهاية ، وإنّما هي محاولة متواضعة ، بدأتها طالبا بالمشرق العربي ، والسّدّ نصّ مفتوح ، ولكلّ اجتهاده  في القراءة وتأويل الأحداث ، وفق إمكاناته الفكرية  والثقافية ، ولم نكن من واضعي السّدود في وجه النّقّاد من خلال دراستنا للأثر ، وإنّما فتحنا بابا جديدا من أبوابه المقفلة سرّا وعلنا ، وقد أحكم مؤلّف السّدّ تغليقها سياسيا، وتاريخيا، ولغويا ، وأسطوريا ، ودينيا.

2   ـ الفارس المنكود ولصوص الثقافة ؟                            

يتحدّث الأستاذ الحبيب علوان عن الفارس والحصان ، قاصدا  نفسه ، وهو النّاقد ،  أي الفارس الأوّل الذي ولج عالم السّدّ بجرأة ، ونقده في دراسة مستفيضة  بين دفّتيْ كتاب  ،تكاد تكون الأولى من نوعها ، بقلم تونسي ، قد تلقّى علومه الجامعية أواسط ستّينيات القرن العشرين  ــ قسم الآداب العربية ــ بالمشرق العربي ” وتحديدا بالقاهرة  ” (8)  أستاذنا الجليل ، لسنا من هواة القنص غدرا، أو طعن  الخصوم من القفا ،  والحال أنّك  قدير على مسك لجام النقد ،  هذا الجواد الجموح ،  ولكن للأسف لم نعثر على كتابك اللّجام الأوّل  للسّدّ،  وهو بداية التأسيس له نقدا ، رغم وجوده بفهارس المكتبات التونسية ، ولكنه ككتاب حقيقي ملموس، فهو معدوم الأثر ، وبالسّؤال عنه ، يكون الرّدّ إمّا سُرق ، أو مُزّق ، وهذا شأن بعض المُثقّفين في تونس ، هواة تغييب المبدع  الآخر بدافع الغيرة ، أو الحسد ، أو تنكيلا بالباحثين  ، ليستأثر بالكتاب الدراسة ، فيستفيد منها دون الإحالة عليها ، وعموما الفرسان  المغاوير  ــ وأنت أحدهم ــ يكونون هدفا للّصوص ــ وهي حالة المتنبي ــ الذي أجهض عليه الّلصوص بحلب  ، ولصوص الثّقافة في تونس ، أجهضوا عليك بتغييب كتابك ، وحجبه عن العموم ، وأنت تعلم بعض  أشباه الجامعيين التونسيين الفرانكفونيين ــ من حملة شهادة التّبريز في الآداب العربية  ــ جامعات فرنسا المشبوهة  ــ  ، هم من ذوي اللّكنة الأعجميّة ، ومن ذوي الجمل المبهمة  ، كانوا وراء طمس كتابك ، لينهضوا نقّادا لأدب المسعدي ، دون منافسين ، ولا سيما أولئك الوافين  من الجامعات الشّرقيّة ، فهم يخشون سطوة أقلامهم النّقديّة ، التي تفضح عجزهم ، وتكشف مهامّهم المشبوهة بالجامعة التونسية لصالح فرنسا ، وهو ما حصل في نظام الاستقلال ، إذ أضحت الجامعة التونسية ــ هامشية ــ بكل اختصاصاتها رهينة  المركز الفرنسي .

3 ــ منشار النّاشر : ينشر العنوان والإهداء ؟

لعنوان الكتاب دلالة ، تعلن عن محتواه ، ولذلك يتخيّر الكاتب ــ بعناية ــ العنوان  المناسب، وقد يقع في حيرة الاختيار ، وأمّا عنوان دراستنا حول السّدّ فكان كالتّالي  : الماء الغائر والفحل الحائر ، وذلك أنّ هو المعضلة الأساسية في الأثر ، بقول البطل غيلان  ” انظري ، مياه المطر، لا تسحّ إلاّ على الجبل ، كيف تركوها منذ آلاف السّنين ، تسيل فتنحدر ، فتلحق مياه العين ، فتذهب ، فتغور في الهاوية بمنقطع الوادي ، ولم يخطر لهم ببال أن يقيموا سَدّا فوق الهاوية ، فيحبسوا ماء العين ، ومياه المطر والجبل …، إنّي أرى سَدّي بين يديّ ، وأرى المجاري …وليكن الخلق ، ولتكثر الولادة … هذه الأرض المتجعّدة المغبار كالعجوز الفاجرة ، لأحْبلنّها ماء ، فأملأنّ بطنها ، فأخرجنّ حياة … ” (9)   وهذا يستدعي ضرورة فحلا ، قدير  على الإخصاب  العقلي والفكري والجسدي ، فتحصل الثورة ، ويتغيّر الواقع بعد انجاز السدّ ، وبذلك تخصب الأرض ، وينجلي الجدب والموت ، ثمّ تعمّ الخضرة البسيطة  ، ولكن ا النّاشر حرّف  العنوان ــ دون موافقتنا ــ وقوّلنا ما لم نقل ، بدءا من : ” وقد دفعنا إلى … كنقص القادرين على التّمام ” (10) ثمّ أضاف ” وقد وسمنا هذا الكتاب … ملحمة الخلق الكبير ” (11)  وللنّاشر إضافات أخرى كثيرة منها : ” الغول يحبّني يا أمّي … فوجد الكفن خاليا منه ” (12) وكذلك حرّف في العديد من العناوين ، إذ أنّه أكثر من كلمة جدلية  وكلمة إشكالية ، ومخطوطنا اليدوي لا يحتويهما ، وقد نحا النّاشر هذا  النّهج حبّا للبروز ، والظّهور في كلّ كتاب ينشره ، وقد تورّع ــ أيضا ــ فحوّر في الإهداء  الأصلي الذي صدّرنا به الدّراسة وهو كالتّالي :”  أهدي هذا الكتاب إلى عمّي أبو محمّد ، وعمّتي أمّ محمّد ، فلسطينيان ، يحلمان بالعودة إلى طيرة حيفا منذ سنين “وهما صهران لي ، وهكذا كانت إساء ة الناشر للكتاب في أكثر من موقع ، إضافة أنّه قسّم الكتاب إلى جزأين ، ونشره قبل اطّلاعنا عليه وموافقتنا ، و إبرام العقد ، وقد فوجئنا بالكتاب يُباع بمعرض الكتاب الدولي بالكرم ، شهر أفريل 1993 ، رغم أنّنا توجّهنا “بتحذير إلى دور النّشر التّونسيّة “13) بعدم النّشر ،  خشية تداول نشرها في غياب قانون يحمي المؤلّف ، وخاصّة بعض النّاشرين يتهافتون على نشر الدّراسات المتعلّقة بأدب المسعدي  المبرمج في المقرّرات الدّراسية ، فكان تداوله  واسعا  بين الطّلاب   ، وبذلك يضمن النّاشر رواج الكتاب وكسب الرّبح الوفير، ويُضاف إلى ذلك أنّ “أوراقا من الدّراسة قد وقع السّطو عليها من مكتبتي الخاصّة بمنزلي في تونس “(14)  من قبل زُوّار الفجر : أعوان البوليس السّياسي التّونسي ، الذين مافتئوا يقتحمون شقّتي   الكائنة بشارع مدريد ، تونس  ــ ليلا للتّفتيش ، ـــ مصحوبين بكلاب شرسة ، وأضواء كاشفة ترهيبا لي ، ولأبنائي الرّضّع  ، وزوجتي الفلسطينية ــ بغية البحث عن فلسطينيين مطلوبين لدولة الاحتلال العنصري الصّهيوني ، وقد وُجّهت لي أثناء التّحقيق بسراديب تلك الأجهزة البغيضة  تهمة الاعتداء على تلك الدولة الصهيونية ، واحتياطيا ، اضطررنا إلى” نشر ما بقي منها في الصّحف والمجلاّت التونسية “(15 ) كي لا يتورّع مغامر على نشرها دون علمي .

4 ــ تحطيم الأصنام :

رغم اجتهادنا في محاورة نصّ السّدّ  واستنطاقه ، فنتمكّن من تحطيم الأصنام ، غير أنّنا أصبحنا عاجزين ــ في أكثر من موضع ــ عن فهم مقاصد المسعدي في نصّه ، وذلك أنّ ذلك النّصّ ” لا يروم قراءة واحدة ، بل قراءات متعدّدة ، إذ هو حقل للبحث الفلسفي ، وحقل للبحث اللّغوي ، وحقل للبحث العلمي ، ، إذا علمنا أنّ اللّسانيات الحديثة تستفيد كثيرا من اللّغة ، والخطاب الأدبي ” (17) وقصدنا من تحطيم الأصنام ، هو مشاركة البطل غيلان في عملية إرادة الخلق والفعل ، فهو خلاّق الماء والبعث ، ونحن نخلق قراءة جديدة للسّدّ ، غير أنّها ستكون قاصرة شأنها شأن فعل غيلان ، وذلك أنّ غيلان ثائر فرد ، ما فتئت قوى كثيرة غيبية ، تعمل دون هوادة على حصاره وخصْي فعله ، فيحْجم عن تحطيم أصنام ” قوَمَةِ صاهبّاء”(18)و صاهِبّاء : هي ربّة صخرة لا تعرف الرّحمة . وأمّا الصّنم الذي نروم تحطيمه ، هو ذلك الصّنم  المتكلّس من الأفكار ، والرّؤى العقيمة ، التي قيّدت نصّ السّدّ ــ عقودا زمنية ــ قصد قبره ، وطمس قلم مبدعه ، وهي رؤى أحادية الجانب ، تلعب دور ” صنم الألاعيب ” (19) ، وقد آن تحطيمها ، انسجاما مع روح العصر ، إثر تفكّك الاتّحاد السّوفياتي سابقا ، وتناثره إلى دويّلات متناحرة ، وهو دليل  على عدم ثبات العقيدة الفكرية ،  النّقديّة ، السّياسة ، الأدبية ، الأيديولوجية … والحال أنّ الحياة حركتها إلى الأمام ، لا تستقرّ على حال ، وعليه وجب تجديد النّظرة إلى نصّ السّدّ ، بهدف فكّ أسره القسري من تلك الأصنام ، ثمّ تحطيمها ” وقد مضى التاريخ بِشرعة لا تتبدّل ، ، وقضى أن تُحطّم كلّ عقيدة أصناما عُبدت قبلها “(20) حين نُحطّم تلك الرّؤى الفكرية  الأصنام ، فإنّنا نبشّر بانبثاق الجديد ، بهدف تطوير المسار  النّقدي في تونس ــ والمعدوم أحياناــ  بسبب أقنعة الإرهاب ، وعلى رأسها الفرانكفونية إذ ” أنّ الفرانكفونية ليست مجرّد ازدواجية لغويّة ، وإنّما هي مصالح اقتصادية ، وسياسية للشّرائح التي تقود عملية التّبعيّة ” (21) . ولا نقصد بذلك مقاطعة اللّغات الأجنبيّة ، فهي بوّابة هامّة وأساسيّة ، نتنفّس من خلالها ، شريطة معرفة طُرق توظيفها ، فيُشِعّ أدبنا ، وإذا فشلنا في التّوظيف المنشود ، نكون هدمنا هوّيتنا  الفكرية الأدبيّة ،  ثمّ دفعنا بأدبنا  نحو العدم ، فيصبح رهين نظريات عقيمة ، قد تجاوزها الأجانب أنفسهم ، وهكذا سلوك هو تشبّث بالذّيول ، من شأنه هدر طاقة المبدع في تونس ، وإتلاف آثره الفكريّة ، ــ اليوم في تونس  ــ الواجب النّقدي يستوجب قراءات متعدّدة ومختلفة لهذا النّصّ الجدلي ، وخاصّة أنّ مبدعه ــ منذ نشأته ــ كان ميّالا إلى تحطيم الأصنام الفكرية ، والعقائد الجامدة ، وهو حال لسان بطله غيلان في السّدّ ، وسنده في ذلك إرثه التّراثيّ : لغة ، وجنسا ، وديانة ، محقّقا قولة  الزّعيم الهندي ، المهاتما غاندي(1869 ــ 1948) المأثورة ” أريد أن تهبّ كلّ الثّقافات على بيتي ، دون أن تقتلعني من جذوري ، وبذلك حقّق المسعدي التّوازن الفكري ، لتحطيم أصنام عصره في السّدّ (1939 ــ 1940 ) ، وهو ثابت في تراثه ، غير منبتّ عنه ، أو متآمر عليه ، صوب التّغريب والفرانكفونية ، ذلك هو السّدّ في عمقه الحضاري والسّياسي، والثقافي والاجتماعي ، والاقتصادي والدّيني  واللغوي …

وختاما ، إذا كنّا صنما ، فلا نخشى قلم الأستاذ الحبيب علوان الهدّام ، وهو القدير على هدم كلّ معدوم بدا له في آرائنا ، لاعتقادنا  بحرية الاختلاف  والحوار النّزيه ، يثريان أدبنا التونسي ، وهو يشكو وجع النّقد ، ووجع الإهمال ، ووقع التّشويه الداخلي والخارجي ،  قد لا نتّفق مع الأستاذ الحبيب علوان ، ــ ومع غيره من النّقّاد ــ  في الأفكار والتّصوّرات المتعلّقة  بمسرحيّة السَّدّ  ، ولكن نفتح الصّدر لكلّ من يبيّن عيوبنا ، قبل محاسننا ، فنعتبره ناقدا حقّا ، وقد كان نموذجا لذلك  الأستاذ الحبيب علوان ، رغم أنّه لم يسبق لنا معرفة أحدنا بالآخر ، وهذا يفتح صفحة للحوار والجدل ، لا تشوبهما مجاملات ، إخوانيات ، أو ملاطفات ، وبذلك يمكن المساهمة في تطوير حركة النقد الأدبي بتونس ،  وقد تكون تلك المعارك الأدبية ساخنة حول نصّ السّدّ ، ومازال النّقّاد  حائرين أمام لغز عنوانه ، كما هي حيرتهم ، أمام عنوان رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي .                           الهــوامش :

(1)انظر ، مقال الأستاذ الحبيب علوان ، قراءة في كتاب جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد ، ج2 ، جريدة الصّباح التونسية ، بتاريخ 30 نوفمبير 1993 ، ص 9 .(2)انظر ، الهادي غابري ، جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد ، ج1 ، ص5 .(3)أنظر ، جريدة الصّباح التّونسية ، بتاريخ 30 نوفمبر 1993 .(4)انظر ، مجلة الكاتب ، القاهرة ، ماي 1964 ،ص 174 .(5)انظر ، المرجع السّابق .(6)انظر ، محمود طرشونة ، الأدب المريد في مؤلّفات المسعدي ، الدار التونسية للنشر ، ط1، تونس 1978 ، ص 73 ــ 85 .(7)انظر ، الهادي غابري ، جدلية الثورة والجسد في مسرحية السّدّ ، ج1 ، ص5 ــ 6 .(8)انظر ، الحبيب علوان ، في النّقد والثّورة ،يتضمّن الكتاب دراسة نقدية بعنوان : محاولة في فهم رواية السد .. الإنسان والفعل  في السد ، كتبها الباحث في ماي 1966  القاهرة  ونُشِرت ضمن  في النّقد والثّورة ، ط1  ، عالم الكتب ، القاهرة 1976.(9)انظر ، محمود المسعدي ، السَّدّ ،  الدار التونسية للنشر ، ط1 ، تونس 1974 ، ص 37 .  (10)انظر ، الهادي غابري ، جدلية الثورة والجسد في مسرحية السد ، ج1 ، ص 6 .(11)انظر ، المصدر السّابق ، ص 8 .(12)انظر ، المصدر السابق ، ص 189 .(13)انظر ، تحذير إلى دور النّشر التّونسيّة ، جريدة الرّأي العام التونسية ،ـ بتاريخ 03 أفريل 1993 .(14)الهادي غابري ، جدلية الثورة والجسد ، ج1 ، ص1 (15) انظر ، جريدة الشروق التونسية  ، سنة 1992 ، وجريدة الصدى التونسية بتاريخ 01 ديسمبر 1992 ، ومجلة الإذاعة والتلفزة التونسية  ، سنة 1993 (16)انظر ، مقدمة كتاب تتحوّل إل قضيّة عدلية ، جريدة الشروق التونسية بتاريخ 18 نوفمبر 1993 ، وانظر أيضا ، جريدة الرأي التونسية ، بتاريخ 13 نوفمبر 1993 (17)عبد الرحمان مجيد الربيعي ، نداء إلى الزّملاء الأدباء ، حول ممارسة ناشر مع كتابي ، مجلة الملاحظ التونسية،  بتاريخ 17 نوفمبر 1993 .(18)الهادي غابري ، الشّكل الفنّي في مسرحيّة السّدّ ، ط1 ، مطبعة حاتم أصلان ، أكتوبر 1993 ، تونس ، ص 167 ــ 168 .(19)عباس محمود العقاد  وإبراهيم عبد القادر المازني  ، الديوان ، ط1 ، القاهرة 1921 ، ج1 ، ص 50 وما تلاها .(20)المصدر السابق ، الديوان ، ج 1 ، المقدمة ، ص 2 . (21)غالي شكري ، أقنعة الإرهاب ، ط1 ، دار الفكر ، القاهرة ــ باريس ، 1990 ،ص 43(*)نُشِر في الجريدة اليومية التونسية:  الصّباح بتاريخ 21 ديسمبر 1993 ، ص9 .