حدود الدّولة : حدود القبيلة (*)، بقلم : محمد الهادي الجويلي ، أستاذ علم الاجتماع ، المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس ــ ، ابن شرف .

نقرأ لابن خلدون الفقرة التالية ” ثم إن القبيلة الواحدة ، وإن كانت بيوتات متفرّقة وعصبيات متعددة ، فلابدّ من عصبيّة تكون أقوى من جميعها، تغلبها و تستتبعها ،وتلتحم جميع العصبيات فيها ، وتصير كأنها عصبيّة واحدة كبرى ، وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع ، وهكذا تكون دائما حتى تكافئ بقوّتها قوّة الدّولة ” شدّ ما يأسرنا ، والأحداث على النحو الذي تمّت به في العراق ، خلال الأيام الأخيرة ، التّساؤل حول حدود القبيلة ، وحدود الدولة في الأنظمة السياسية العربية أوّلا، وعن إمكانيات التلميح بقصور الدولة ــ هناك في المشرق ــ كونها لم تنجز فعل الحداثة لتصبح دولة الوطن كله ، لا دولة القبيلة ، وفروعها ثانيا ، لم يتوان ابن خلدون في المقدّمة عن التّصريح بالتّداخل بين القبيلة ،ورغبتها الملحّة في تأسيس دولة ، بل إنّ العصبية القبلية لديه شرط أساسي لقيام دولة ، وضُعف هذه الأخيرة من ضُعف عصبية القبيلة ، قد يفيدنا التحليل الخلدوني للقبيلة ،والدولة في فهم واقع الدولة العربية ، وآليات اشتغالها ، لكن بالقسط الذي يميّز به مناخات الفترة التي كتب فيها ابن خلدون المقدمة ، وخصوصياتها والوضع العربي الرّاهن ، ولعلّ محمد عابد الجابري المتأثّر بابن خلدون حدّ الإعجاب ، تمكّن من صوْغ مشهد بنيوي للفكر السياسي العربي ، وتجلياته ممارسة يومية : مشهد بثلاث زوايا متفاعلة متآلفة حينا ، ومتنافرة حينا آخر ، زوايا المشهد هي : العقيدة ـــ القبيلة والغنيمة ، وكلّ خلل في أحد عناصر هذا المشهد ، يُؤذن بخراب البناء كله، وعجزه عن التواصل فيما يخصّ العقيدة ، يرى الجابري أنّ هذه الأنظمة السياسية في المشرق العربي محكومة بأيديولوجية قومية ، ووفق أسس عقلانية ، وهو ما نجد صداه في أيديولوجية حزب البعث العراقي ،على سبيل المثال ، والعقيدة هي ما يجمع فكريا بين الفاعلين السياسيين داخل هذه الأنظمة ، والقبيلة هي تلك التحالفات العشائرية التي يرتكز عليها النظام السياسي ، هي المرجعية الأولى حين تنحصر الدولة ، ويضعُف تأثيرها وتُصاب بالوهن ، وأخيرا تأتي الغنيمة ، وهي ريع الدولة وأموالها وفي الغالب ، نجدها متأتّية من النفط لتوازن بين العنصرين الأولين : العقيدة والغنيمة ، إلا أن الواقع يدلّنا : أنّ كلاّ من العناصر الثلاثة يقوم بدور التعديل في كل مرّة يُهدّد فيها البناء بالانحلال ، لذلك قدمت هنا منفصلة لغايات منهجية ، وهي متداخلة يصعب ضبط حدودها ، لأنها مبثوثة في كل أنسجة الدولة والمجتمع ، وما وقع في العراق مؤخّرا هو: أنّ القبيلة وهي العنصر المؤلف للمشهد ذي الزوايا الثلاثة ، قد طرأ عليها بعض الخلل ، وحسم الأمر داخل العنصر المهدّد ، لكن والأمر على هذه الشاكلة ، يعسر مرور الحدث ، دون أن يلقي بظلاله المؤثّرة على العنصرين الأخيرين : العقيدة أوّلا ، و العنيمة ثانيا .
(*) نُشر بمجلة ” الملاحظ ” التونسية ، الأسبوعيّة ، عدد 162 من 13 إلى 18 مارس 1996 ، ص 24 .