منذ البداية ،نؤكد بأنّ مفهوم الدولة المدنية الحديثة ،هو مفهوم غربي ، جاء نتاجا لمجمل التطورات البنيوية العميقة ، التي عرفتها أوروبا امتداد القرن 18 و19 ، فهو محصّلة عدد التراكمات السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية والثقافية والحضارية، لذلك عبر عن القوة الأوروبية عن التقدم الاقتصادي الغربي ، وعن مشروعية الحاكم ، وأسلوب الحكم واستبعدت الكنيسة نهائيا عن التدخل في أسلوب التّسيير السياسي، وأصبحت الدولة جهازا عقلانيا تصوّرا ،وممارسة بحكم تغير أوضاع الأفراد من الاستعباد ، إلى الحرية ، ومن التهميش إلى المشاركة الفاعلة ، والايجابية ، ولا غرابة في ذلك ، طالما أنّ الدولة قنّنت أساليب المشاركة ،ومستوياتها وحددت مؤسساتها ، واعتبرت الفرد قيمة مركزية ،يقرر مصيره ، حين يشارك ، ويتفاعل مع اختيارات الدولة سلبا أو إيجابا ، ومن ثمة الدولة مشرعيتها ،حين وسّعت فضاءات المشاركة ، وأصبحت كائنا مؤسساتيا مقبولا ،ومشروعا ــ في الآن نفسه ــ وهكذا تحوّلت الدولة إلى جهاز مقبول معترف به ،سواء من طرف الأفراد ، أو المجتمع برمّته ، فالمشرعية ــ إذن ــ هي مشروعية المشاركة والتمثيلية ، وتعميم توزيع الفوائد ، ولذلك اكتست المدنية في الغرب معان متعددة : لعلّ من أهمّها المشروعية ، والتمثيلية والديمقراطية ،والمصداقية ، لأنها نتاج المشروع القومي البورجوازي الأوروبي ، الذي يُعدّ بحقّ ثورة ذهنية ومنهجية في أسلوب التّسيير السياسي ، وتعميم المشاركة ، كما تُعدّ الدولة ثورة اقتصادية ، واجتماعية ، لأنها ترافقت مع صعود البورجوازيات الأوروبية ، مع اكتمال البناء الصناعي والاقتصادي والاجتماعي الأوروبي ــ إذن ــ ثمّة قوى اجتماعية حاملة لمشروع سياسي وحضاري معين ، أشرف على بناء الدولة البورجوازية الحديثة ، وعلى تحديد مضامينها ، وضبط هويّة نخبها ، وتخليصها من ترسبات الإقطاع ، والكنيسة ولعل هذا ما يفسر ترسّخ مشروعية الدولة داخل النسيج الثقافي ، والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات ، دون حروب أهلية بحكم الاتفاق على مبدئيْ التداول والمعارضة ، فثمة إجماع على الهوية السياسية للدولة ، بغضّ النظر عن الأحزاب والنخب التي تداولت ، وتتداول على السلطة منذ حوالي قرن ، لأن التغيير الداخلي لمضمون العمل السياسي ممكن ، دون اللجوء إلى العنف المدمّر وهذا ما يفسّر بان الحركات الراديكالية مثل “العمل المباشر” و”الألوية الحمراء” في ايطاليا بقيت حركات هامشية ، وعرضية قياسا برسوخ جهاز الدولة ، ولهذا لا غرابة في القول بان الدولة القومية الأوروبية ، كانت حالة ايجابية جدا داخل المشهد السياسي الأوروبي للأسباب سالفة الذكر، ولكن لأنها كانت نقلة نوعية في التاريخ السياسي الحديث ، والمعاصر، وقد أغرى نجاح تجربة الغرب بان يتعمّد نشرها ، وتعميمها في بقية أركان العالم ، انطلاقا من كونية النموذج الحضاري الغربي ، وهنا تكمن أمّ المشاكل ، وأمّ الصّراعات …ذلك أن الدول التي بنيت في المرحلة ما بعد الاستعمارية ، كوّنت في الغالب مشاكل لا تحصى ، ولا تعدّ ، فقد سعت نخب المرحلة ما بعد الاستعمارية ، شرقا وغربا إلى بناء نماذج من الدول، تقطع كليا أو جزئيا ، مباشرة أو مخاتلة مع الأشكال السلطوية القديمة ــ المماليك ، الديات ، البايات ، السلاطين ، الأيمة ، الملوك ــ وتعويضها بأشكال سلطوية مدنية ، وهكذا كانت الدولة الوطنية استزراعا في غالب الأحيان غير موفّق ، لأنّه وليد الانبهار بالغرب ،والتأثّر بأنماطه السياسية ،دون الانتباه إلى الفوارق الحضارية الكبرى ، إنّ عرب ما بعد الحرب العالمية الثانية ليسوا منتجي نظرية الدولة الحديثة ، وإنّما مجرد مستهلكين لها ، وهنا تكمن المفارقة المأساوية ، ولذلك نعتقد بأن المشكلة الرئيسية ، هي استحالة التلاؤم بين نموذج الدولة الوطنية ، وبين التاريخ العربي الإسلامي ، ولعل هذا ما يفسّر حجم العنف ،الذي يميز آداء الدولة في مختلف القطاعات ، فلم تقدر هذه الدولة أن تتوطّن في الذهن الثقافي والرمزي للمواطن العربي ، الذي حافظ إزاءها على شعور بالريبة والخوف ، ونلاحظ ذلك في تغييبه في الانتخابات ، وتردّد سلوكه الضرائبي ، ومخياله المناهض للدولة إجمالا ، وقد تولدت عن المشكلة الأولى أزمة عميقة ، في مجال المشروعية السياسية للدولة وضعف ترسخ قاعدتها ، الاجتماعية وترهّل هياكلها السياسية ـــ في أغلب الأحيان ــ لذلك يواجه الحاكم وضعا يتّسم بالخوف والاضطراب ، يرجعه مباشرة إلى الرابطة العصبية ، كما أنّ علاقة النّخب بالدولة هي غالبا علاقة صراع من أجل الوصول إلى السّلطة ، دونما استعداد كامل لذلك ، وإنما امتلاك لبرامج عمل مقنعة ، وهكذا تتنافس النخب من أجل الوصول إلى جهاز الدولة فقط ، وحين تشعر القوى السياسية الحاكمة بخطر المعارضات في الداخل، والخارج في المركز، والتّخوم والحواشي ، فإنّها تتحصّن بالرّابطة الدموية ، حفاظا على مبدأ الاستمرار، وكثيرة هي التجارب السياسية العربية ، ذات اللون الثوري ، أو المدني التي تجوّلت إلى تجارب قبليّة ،لأن منطق الدولة يقتضي التداول والديمقراطية ، والمشاركة الواسعة .
(*نُشِر بمجلة ، الملاحظ التونسية ،الأسبوعية ، عدد 162 ، من 13إلى 18مارس ،1996 ، ص 25)