الـدّولة و اللاّدولـة :مفارقة التاريخ(*) بقلم : د . منصف وناس ، أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس (1956 ــ 2020)

منذ البداية  ،نؤكد بأنّ مفهوم الدولة المدنية الحديثة ،هو مفهوم غربي ، جاء نتاجا لمجمل التطورات البنيوية العميقة ، التي عرفتها أوروبا امتداد القرن 18 و19 ، فهو محصّلة عدد التراكمات السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية والثقافية والحضارية، لذلك عبر عن القوة الأوروبية عن التقدم الاقتصادي الغربي ، وعن مشروعية الحاكم ، وأسلوب الحكم واستبعدت الكنيسة نهائيا عن التدخل في أسلوب  التّسيير السياسي، وأصبحت الدولة جهازا عقلانيا تصوّرا ،وممارسة بحكم تغير أوضاع الأفراد من الاستعباد ، إلى الحرية  ، ومن التهميش إلى المشاركة الفاعلة ، والايجابية ، ولا غرابة في ذلك ، طالما أنّ الدولة قنّنت أساليب المشاركة ،ومستوياتها وحددت مؤسساتها ، واعتبرت الفرد قيمة مركزية ،يقرر مصيره ، حين يشارك ، ويتفاعل مع اختيارات الدولة سلبا أو إيجابا ، ومن ثمة الدولة مشرعيتها ،حين وسّعت فضاءات المشاركة ، وأصبحت كائنا مؤسساتيا مقبولا ،ومشروعا  ــ في الآن نفسه ــ وهكذا تحوّلت الدولة إلى جهاز مقبول معترف به  ،سواء من طرف الأفراد ، أو المجتمع برمّته  ، فالمشرعية ــ إذن ــ هي مشروعية المشاركة  والتمثيلية ، وتعميم توزيع الفوائد ، ولذلك اكتست المدنية في الغرب معان متعددة : لعلّ من أهمّها المشروعية ، والتمثيلية  والديمقراطية  ،والمصداقية ، لأنها نتاج المشروع القومي البورجوازي  الأوروبي ، الذي يُعدّ بحقّ ثورة ذهنية ومنهجية في أسلوب التّسيير السياسي ، وتعميم المشاركة ، كما تُعدّ الدولة ثورة اقتصادية  ، واجتماعية ، لأنها ترافقت مع صعود البورجوازيات الأوروبية  ، مع اكتمال البناء الصناعي والاقتصادي والاجتماعي الأوروبي ــ إذن ــ ثمّة قوى اجتماعية حاملة لمشروع سياسي وحضاري معين ، أشرف على بناء الدولة البورجوازية الحديثة ،  وعلى تحديد مضامينها ، وضبط هويّة نخبها ، وتخليصها من ترسبات الإقطاع ، والكنيسة  ولعل هذا ما يفسر ترسّخ مشروعية  الدولة  داخل النسيج الثقافي ،  والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات  ، دون حروب أهلية بحكم الاتفاق على مبدئيْ التداول  والمعارضة  ، فثمة إجماع على الهوية السياسية للدولة ، بغضّ النظر عن الأحزاب  والنخب التي تداولت ، وتتداول على السلطة منذ حوالي قرن ، لأن التغيير الداخلي لمضمون العمل السياسي ممكن ، دون اللجوء إلى العنف المدمّر  وهذا ما يفسّر بان الحركات الراديكالية مثل “العمل المباشر”  و”الألوية  الحمراء” في ايطاليا بقيت حركات هامشية ، وعرضية قياسا برسوخ جهاز الدولة ،  ولهذا لا غرابة في القول بان الدولة القومية الأوروبية ، كانت حالة ايجابية  جدا  داخل المشهد السياسي الأوروبي للأسباب سالفة الذكر،  ولكن لأنها كانت نقلة نوعية في التاريخ السياسي الحديث ، والمعاصر،  وقد أغرى نجاح تجربة الغرب بان يتعمّد نشرها ، وتعميمها في بقية أركان العالم ،  انطلاقا من كونية النموذج الحضاري الغربي ،  وهنا تكمن أمّ المشاكل ،  وأمّ الصّراعات …ذلك أن الدول التي بنيت في المرحلة ما بعد الاستعمارية ،  كوّنت في الغالب مشاكل  لا تحصى ، ولا تعدّ ، فقد سعت نخب المرحلة ما بعد الاستعمارية ، شرقا وغربا إلى بناء نماذج من الدول،  تقطع كليا أو جزئيا ، مباشرة أو مخاتلة مع الأشكال السلطوية القديمة ــ المماليك ، الديات ، البايات ، السلاطين ، الأيمة ، الملوك ــ وتعويضها بأشكال سلطوية مدنية ، وهكذا كانت الدولة الوطنية استزراعا في غالب الأحيان غير موفّق ، لأنّه وليد الانبهار بالغرب ،والتأثّر بأنماطه السياسية ،دون الانتباه إلى الفوارق الحضارية الكبرى ، إنّ عرب ما بعد الحرب العالمية الثانية ليسوا منتجي نظرية الدولة الحديثة ،  وإنّما مجرد مستهلكين لها ، وهنا تكمن المفارقة المأساوية ، ولذلك نعتقد بأن المشكلة الرئيسية ،  هي استحالة التلاؤم  بين نموذج الدولة  الوطنية ،  وبين التاريخ العربي  الإسلامي ،  ولعل هذا ما يفسّر حجم العنف ،الذي يميز آداء  الدولة في مختلف القطاعات ،  فلم تقدر هذه الدولة أن تتوطّن في الذهن الثقافي والرمزي للمواطن العربي ، الذي حافظ إزاءها على شعور بالريبة والخوف ،  ونلاحظ ذلك في تغييبه في الانتخابات ، وتردّد سلوكه الضرائبي  ، ومخياله المناهض للدولة إجمالا ، وقد تولدت عن المشكلة الأولى أزمة عميقة ،  في مجال المشروعية السياسية للدولة وضعف ترسخ قاعدتها ، الاجتماعية وترهّل هياكلها  السياسية ـــ في أغلب الأحيان  ــ لذلك يواجه الحاكم وضعا يتّسم بالخوف والاضطراب ، يرجعه مباشرة إلى الرابطة العصبية ،  كما أنّ علاقة النّخب  بالدولة هي غالبا  علاقة صراع من أجل الوصول إلى السّلطة ، دونما استعداد كامل لذلك ، وإنما امتلاك  لبرامج عمل  مقنعة ،  وهكذا تتنافس النخب من أجل الوصول إلى جهاز الدولة فقط  ، وحين تشعر القوى السياسية الحاكمة بخطر المعارضات في الداخل،  والخارج  في المركز، والتّخوم  والحواشي ، فإنّها تتحصّن بالرّابطة الدموية ،  حفاظا على مبدأ الاستمرار،  وكثيرة هي التجارب السياسية العربية ، ذات اللون الثوري ، أو المدني التي تجوّلت إلى تجارب قبليّة  ،لأن منطق الدولة يقتضي التداول  والديمقراطية  ، والمشاركة الواسعة .

(*نُشِر بمجلة ، الملاحظ التونسية ،الأسبوعية ، عدد 162 ، من 13إلى  18مارس ،1996  ، ص 25)